الأولى

بقلم
فيصل العش
حتّى لا نستسلم
 مقدّمة
من المعضلات الكبرى التي تؤرّق حاملي الهمّ الثّقافي والمتطلّعين إلى تحقيق إصلاح ثقافيّ حقيقي مسألة علاقة الثّقافي بالسّياسي، ذلك أنّ هذه العلاقة هي من بين أكثر العوامل المحدّدة لموقع المثقّف ومدى نجاحه في المهام الموكولة إليه. وليس القصد هنا علاقة المثقّف بالسّياسة بمعنى تصدّيه لمشاغل الشّأن العام فذلك محور اهتمامه، إذ مع دوره في تعميق وتجديد الإدراك والإحساس بالذّات والحياة والوجود، ومنحه المعنى، هو مطالب دائما بنقد الأوضاع القائمة وتثويرها ومطالب أيضا بتوظيف قدراته الثّقافية وتجسيد ما يحمله من أفكار ورؤى في مشاريع لمواجهة التحدّيات التي تقف حائلا أمام تحقيق حلم مجتمعه في التقدّم والتّنمية. ولا يمكن الحديث عن مثقّف ينكر اهتمامه بالسّياسة أو ينفي تأثيرها فيه مادامت السّياسة تحاصره من كلّ جانب  وتؤثّر على أسلوب معيشته وواقع مجتمعه ومن ثمّ على طريقة تفكيره ومحتوى هذا التّفكير واتّجاهه، فلابدّ أنّ الهمّ السّياسي سيسكنه حين ينتج ويبدع، وإلاّ فإنّ نتاجه سيكون بلا روح و بلا مصداقيّة.  وإنّما القصد علاقته برجال السّياسة وبالمؤسّسات السّياسية كالأحزاب والمنظّمات، سواء كانت في السّلطة أو معارضة لها، والتي من مهامها السّعي إلى امتلاك الحكم وتدبير الشّأن العام وتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع الذي تسوسه بالإضافة إلى ترتيب العلاقات الخارجيّة بواسطة هيئات ومؤسّسات تسخّرها لذلك.
اشكاليّة العلاقة بين الثّقافي والسّياسي 
يشترك المثقّف والسّياسي إذن في موضوع العناية بالشأن العام لكنّهما يختلفان في طريقة التّعاطي معه وهنا يكمن جوهر العلاقة بينهما. والمثقّف بصفته الضّمير الواعي المعبّر بأفكاره وإبداعاته عن آلام الأمّة وآمالها وما لديه من سلطة معرفيّة نتيجة تراكم الخبرة العلميّة لديه، والسّياسي بصفته صاحب سلطة صنع القرار أو معارضته، هما الطّرفان الأساسيّان اللّذان يُعتمد عليها في بناء المجتمع ونهضته. ومن أهمّية مكانتهما، تنبثق خطورة إشكاليّة العلاقة بينهما. 
إذ كلّما كانت هذه العلاقة سليمة بمعنى الانسجام والتّعاون والاحترام المتبادل، كلّما انعكست نتائج ذلك على المجتمع بصورة إيجابيّة. أمّا إذا احتدّ الصّراع بينهما أو هيمن أحدهما على الآخر (في أغلب الأحوال تكون الهيمنة لفائدة السّياسي صاحب القوّة والجاه) فإنّ النتائج تكون وخيمة على الدّولة وعلى المجتمع.
ولنا في الحضارة الغربيّة خير دليل، فعندما كان سياسيو القرون الوسطى مهيمنين على الثّقافة من خلال التّحالف الإقطاعي الكنسي، مانعين المثقّفين والمفكّرين من إبداء آراءهم وتقديم إبداعاتهم، قامعين كلّ من حدّثته نفسه بتجاوز هذه الهيمنة (1) عاشت أوروبا قرونا من الظّلام والتّخلّف. ولمّا اقتنع الغرب بأنّ توفير مناخ الحريّة للمثقّفين يجعلهم أكثر إبداعا، وتمّ بالتّالي إلغاء تبعيتهم للسّياسي أو على الأقل احترام استقلاليتهم ومكانتهم في الهرم المجتمعي، قفزت الحضارة الغربيّة إلى القمّة. فقد برزت أهمّية دور المثقّف في إيجاد الحلول لكثير من الأزمات الاقتصاديّة والسّياسية والاجتماعيّة خلال مراحل تطوّر الغرب، بالإضافة إلى أنّ المثقّف كان في كثير من الأحيان مصدراً لإلهام السّياسي في اتخاذ بعض المواقف وإثراء عقله برؤى ونظريّات جديدة استفاد منها أيمّا استفادة.
أمّا بالنّسبة للحضارة العربيّة، فقد شهدت العلاقة بين المثقّف والسّياسي عبر التّاريخ وإلى وقتنا الحاضر محطّات عديدة و«أنماطاً» متعدّدة متباينة تراوحت بين «الولاء» و«القطيعة» اتّسمت أغلبها بصراع خفي وفي بعض الأحيان علنيّ وعنيف. 
ولعلّه من نافلة القول أن نذكّر بأنّنا في سياق حديثنا عن علاقة المثقّفين بعالم السّياسة والسّياسيين في التّاريخ العربي، سنعتمد مفهوم الجابري للمثقّف في الحضارة العربيّة (2) ذلك أنّ مصطلح المثقّف مصطلح حديث ومستحدث.
 أمثلة من التّاريخ العربي 
إنّ المتصفّح لتاريخ الأمّة العربيّة الإسلاميّة سيكتشف أنماطا مختلفة من العلاقات بين المثقّف والسّياسي تنوّعت بين المعارضة والولاء والحياد واللاّمبالاة، ففي فجر الإسلام انبرى «حسّان بن ثابت» للدّفاع عن دولة الإسلام الأولى، في الوقت الذي وقف فيه مثقّف آخر هو «أميّة بن أبي الصّلت» معارضاً لها ولزعيمها محمد صلّى الله عليه وسلّم. 
وفي أيّام حكم بني أميّة تهافت «الأخطل» و«جرير» و«الفرزدق» وهم كبار الشعراء العرب على بلاط الخلفاء متسابقين في إبراز ولائهم وتفنّنهم في الدّفاع بقصائدهم عن السّلطة الحاكمة التي عانت من معارضة مثقّفين آخرين من العلماء والمتكلّمين. 
وفي العهد العبّاسي دفع «عبدالله بن المقفع» وهو من المثقّفين الكبار حياته ثمن محاولته «تقديم النّصيحة» للسّلطة التي أيّدها.. وعاش «ابن حنبل» محنة السّجن والتّعذيب نتيجة معارضته للخليفة المأمون(3) في حين أعلن العالم المعتزلي «أحمد بن أبي دؤاد» ومن وراءه فرقته ولاءه لنفس الخليفة الذي سعى إلى اعتماد «الإعتزال» مذهبا رسميّا للدّولة. 
وأُعدم «الحلاّج» في عهد الخليفة العبّاسي «المقتدر بالله» بسبب الإزعاج الذي تسبّب فيه للسّلطة نتيجة تطويره لمفهوم التّصوّف حيث اعتبره جهادا في سبيل إحقاق الحقّ، ومعركة ضدّ الظّلم والطّغيان في النّفس والمجتمع. 
وتُمثّل علاقة الفيلسوف العربي «ابن رشد»(4)، مع حاكم الأندلس «يعقوب المنصور» نموذجا عن العلاقة بين السّياسي والمثقّف، فبعد أن كان هذا «المثقّف» مقرّبا لدى «السّلطان» أصبح من المنبوذين، وحرقت مخطوطاته ومكتبته. 
وفي عهود المماليك والعثمانيين لم يكن حظّ المثقّفين أفضل من حظّ إخوانهم السّابقين، وربّما كان أسوأ بكثير نتيجة طبيعة السّلطة السّياسية وتضاؤل عدد المثقّفين المتميّزين مع هيمنة مثقّفي البلاط وجلّهم من رجال الدّين الذين اقتصر دورهم في الإفتاء للسّلطان وتبرير ممارساته.
وقد استمرّ هذا الوضع إلى أن أحدثت حملات الغزو الاستعماري الغربي صدمة حفَّزت الأذهان والعقول للبحث في أسباب التّخلف والعجز. فخلقت جيلا جديدا من المثقّفين والسّياسيين طرحوا على أنفسهم «مشروع النّهضة» فكان أن تحالف الإثنان من أجل الهدف نذكر من بينهم المثقّف «رفاعة الطهطاوي» (5) والسّياسي«محمد علي باشا» والي مصر، بيد أنّ هذا التّحالف سرعان ما خبت شعلته، مع تولِّى «الخديوى عباس» حكم مصر، فكان مصير «الطهطاوي» النّفي إلى السودان. 
وفي القرن العشرين، اتّسمت العلاقة بالتّحالف الموضوعي بين جزء كبير من المثقّفين والسّياسيين في مواجهة الهيمنة الاستعماريّة، والنّضال من أجل التّحرير والاستقلال... ومع بروز ما يسمّى بالدّولة الوطنيّة كان من الطّبيعي أن تتنّوع وتختلف الرّؤى المتعلّقة ببناء الدّولة وتتعدّد الاختيارات إلى حدّ التّناقض فأخذت بذلك العلاقة بين الثّقافي والسّياسي شكلا حدّيّا تراوح بين التّصادم والتّلاقي. لقد لبس السّياسي سواء كان عسكريّا أو مدنيّا ثوب الزّعامة وأجبر- بحكم موقعه - المثقّفَ ليكون أداة في قبضته يستخدمها كيفما يشاء إمّا للتّنظير والدّعاية لتوجّهاته ومواقفه أو لتبرير بطشه تجاه مخالفيه من السّياسيين والمثقّفين على حدّ السّواء وسعيه للقضاء عليهم. فلم يكن أمام المثقّف إلاّ خيارا واحدا، فإمّا الاصطفاف وراء الزّعيم أو الاصطفاف وراء معارضيه وفي كلتا الحالتين لم يسلم من علاقة التبعيّة إلاّ من رحم ربّك وعددهم قليل.
وعندما يكون المثقّف أداة في قبضة السّياسيين تحدث الكوارث السّياسية والاجتماعيّة. ولقد كانت حقبة القوميّة العربيّة شاهدا على ذلك حيث كان للنّاصرية وأحزاب «البعث» في سوريا والعراق اليد الطولى في إقصاء المخالفين باستخدام الثّقافة والمثقّفين كوسيط لتنفيذ رغباتهم السّياسية. وكذلك فعل «بورقيبة» لفرض سيطرته وتنفيذ ما كان يراه عين الحقيقة والصّواب. 
لقد تميّزت العلاقة بين الثّقافي والسّياسي في تلك الفترة بولاء شقّ من المثقّفين للسّياسيين وقيامهم بدكّ حصون المعارضين، حيث لعب المثقّف العلماني والقومي دورَ الأداة للقضاء على المثقّف الإسلامي، وكذلك كان المثقّف الدّيني، في مراحل ومواقع أخرى، وسيلة لضرب العلمانيّين والشّيوعيّين والقوميّين. 
وفي العقود الأخيرة، عندما بلغ التمزّق العربي حدّه الأقصى وبان عجز الأنظمة العربيّة وفشل سياسييها ورضوخ أغلبهم للهيمنة الأجنبيّة وانخراطهم في منظومة التبعيّة، وعندما بلغ الاستبداد أوجّه، وتفشّى الجهل والأميّة في الشّعوب، ازدادت علاقة المثقّف بالسّياسي سوءا ولم يعد للمثقّف دور يذكر في مخططّات السّياسي خاصّة مع بروز وسائل جديدة لتخدير الجماهير وتوجيهها، فتمّ الاستغناء عنه وتهميشه. ولم تعد مشاركته في حال حصولها تتعدّى نسج قصائد المديح وبيانات المناسبات، أو كتابة  خطابات أصحاب السّيادة والفخامة.
إنّ ما حدث في السنوات الأخيرة من انتفاضات كان بارقة أمل لمن تبقّى من المثقّفين الحالمين باسترجاع ريادتهم ومواقعهم المتقدّمة في البناء. لكنّ غياب الرّؤية الواضحة وبروز الصّراعات الطّائفيّة والايديولوجيّة على سطح الأحداث لم يزد في علاقة المثقّف بالسّياسي إلاّ تبعيّة.
حتّى لا نستسلم 
لم تكن العلاقة بين «المثقّف» و«السّياسي» في العالم العربي في أغلب فترات التّاريخ علاقة جدليّة بين طرفين، لكلّ واحد منهما سلطته واستقلاليته ودوره في المجتمع، بل كانت علاقة قوامها هيمنة «السّياسي» ومصادرته للحقل الثّقافي عبر فرض التبعيّة أو بالإقصاء والتّهميش. لقد سعى «السّياسي» سواء كان في سدّة الحكم أو خارجه إلى اعتبار الثّقافة والمثقّفين أداة لتحقيق غايته ولم يكن رجل السّياسة يريد من المثقّف أن يكون كائنا يفكّر ويتساءل وينتقد فذلك يزعجه ويضيّق عليه وإنّما يريده لسانا وقلما جاهزا لآداء الخدمة المطلوبة يشرح مواقف «السّياسي» ويبرر أخطاءه. ولهذا عمل دائما بطريق ممنهجة تارة وعشوائيّة تارة أخرى، على كسر شوكة المثقّف مستخدما سلطة «القمع» ابتداء من مقص الرّقيب ولجم حرّية التّعبير وصولا إلى السّجن والتّصفية الجسديّة أو سلطة الإغراء والمال وهذا في تقديرنا أحد أسباب تدهور حضارتنا وتخلّفنا عن الرّكب. 
إنّ حالة التخبّط والاضطراب التي تعيشها الأمّة في وقتنا الحاضر لا يمكن تجاوزها من دون السّماح للمثقّف أن يمارس سلطته في طرح الأسئلة ونقد الفكر ونقد المجتمع والسّلطة معاً في كنف الحريّة والإستقلاليّة حتّى يتسنّى له تقديم المقترحات وصياغة الأفكار وذلك باستخدام منهج يربط الفكر بالممارسة العمليّة ربطاً جدليّاًعميقا .
إنّ أول أدوار «المثقّف المصلح»(6) في هذه الفترة بالذّات هو عدم الاستسلام و«المقاومة». إنّه مطالب بمقاومة سعي السّلطة والجماعات السّياسية لإلحاقه بها والعمل على دمجه بجهازها البيروقراطي ومؤسّساتها، وعلى السّياسيين -إن كانوا يرنون إلى النّجاح- أن يكفّوا عن محاولات تدجين المثقّف والتّضييق عليه لأنّ ذلك يعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالوبال، فبالقدر الذي تتّسع فيه الفضاءات التي يعمل من خلالها المثقّف، بالقدر الذي تتعزّز فيه مشروعيّة السّياسي، ويصبح فيه المجتمع أكثر أمنا واستقرارا. 
إنّ عمليّة فضّ الاشتباك بين السّياسي والثّقافي ورسم حدود العلاقة بين الثّقافة والسّياسة، والدّفاع عن استقلالية المثقّف إنّما نعني بها فصل المهام لكلّ منها ورفض هيمنة وتسلّط السّياسي على الشّأن الثّقافي وإعادة صياغة العلاقة بينهما من خلال اعتراف السّياسي بحقّ سلطة المثقّف في ممارسة مهامه بكامل الحرّية. وهذا لا يعني أيضا ألاّ يأخذ كلّ منهما الآخر بعين الاعتبار.. إنّ بعداً سياسيّاً في الثّقافي لا يفقده استقلاليته، وبعدا ثقافيّا في السّياسي لا يفقده  سلطته . يقول الدكتور عبد الإله بلقزيز في هذا المجال :« وإذ ندافع عن وجوب نهوض المثقّفين بواجب تحرير مجالهم الثّقافي من استباحة الحاجات والمطالب الدعويّة فإنّنا لا نذهب إلى وجوب فكّ الارتباط بين الفكر والسّياسة بل ندعو إلى تصحيح العلاقة بينهما على النّحو الذي لا تتحوّل فيه المعرفة والثّقافة إلى مجرّد حاشية على متن السّياسة ولا يصبح المثقّفون خدما وحشما لرجال السّياسة في مجرى أوهامهم وفي مرسى هزائمهم» (7). 
و«لايعني عمل كلّ قطاع بخصوصيته الفصل الحاسم أو الاستبعاد المتبادل، بقدر ما يعني خلق مجال تبادلي يتيح للعلاقة بين الثّقافة والسّياسة أن تكون منتجة وفعّالة بمعنى أن يؤدّي انفتاح الثّقافي على المجال السّياسي إلى تغيير سياسته الفكريّة، وبشكل يتيح له ابتكار امكانيّات جديدة للتّأمل والتّفكير. كما يؤدّي انفتاح رجل السّياسة على منتجات الفكر  إلى تغيير فكره السّياسي وبصورة تتيح له اشتقاق امكانيّات جديدة للعمل والتّدبير. على هذا النّحو يمكن أن تنشأ علاقة تبادل مثمر وتفاعل خلاّق بحيث أنّ تغيير سياسة الفكر، يسهم في خلق واقع فكري تتغيّر معه العلاقة بالواقع السّياسي، كما أنّ ابتداع ممارسات سياسيّة يسهم في خلق واقع مجتمعي تتغيّر معه العلاقة بالأفكار» (8) 
إنّه بالرّغم من اختلافهما في رؤية منهج التّغيير والإصلاح، واتّسام العلاقة بينهما بالتّضاد والتّنافر، فإنّ وجود السّياسي والمثقّف ضرورة حضاريّة واجتماعيّة لا غنى عنها. فمهما تكن نقاط التّضاد والتّباعد بينهما، فإنّ كليهما بحاجة إلى الآخر.
أم التحدّيات
لا يواجه «المثقّف» تحدّي مصادرة السّلطة والمؤسّسات السّياسية لحقّه في التّحرك والعمل كسلطة مستقلّة عنها ومحاولات التّدجين التي يتعرّض إليها والمضايقات المتواصلة للحدّ من حرّيته وآفاق إبداعاته فحسب، بل يجد نفسه اليوم وجها لوجه أمام «أمّ التحدّيات» وهي حماية الأمن الثّقافي من مخاطر الاستباحة الخارجيّة التي استفادت من الثّورة الرقميّة الهائلة التي يشهدها العالم، ثورة انفتاح لا يعلم أين ستنتهي وما الذي سينتج عنها، والتي كشفت عن هشاشة القدرة الدّفاعية -الثّقافية والعلمية - لمجتمعاتنا. فوسائل الإعلام العصريّة كالفضائيات والإنترنيت وشبكات التّواصل الاجتماعي هي بصدد فعل فعلها في عقل الجمهور العربي، وإعادة صياغة تفكيره، وبالتّالي الهيمنة عليه ثقافيّا مساهمة منها في إضعاف مقاوماته، باتجاه التبعيّة والتّطبيع مع الكيان الصّهيوني ومع منظومة القيم التي تتعارض بشكل صارخ مع تقاليد ومورثات وعقيدة الأمّة.
ولا يمكن لأيّ سلطة سياسيّة مهما علا شأنها أن توقف هذا التّيار الجارف من دون الاعتراف بالدّور الكبير والخطير في آن الذي يجب أن يضطلع به المثقّف في مواجهة هذه التحدّيات التي تهدف إلى فرض ثقافة معيّنة عبر الإختراقات وعمليات غسل الأدمغة التي تجري على قدم وساق وتهدّد، بشكل لم يسبق له مثيل، هويّة الأمّة ومستقبلها. فهل يعي السّياسي واجبه تجاه المثقّف فيرفع يده عن حرّيته واستقلاليته حتّى يجهّز نفسه للمقاومة والتّصدّي الثّقافي المأمول؟ وهل يعي المثقّف الدّور المطلوب منه وهل لديه الأسلحة الكافية لمجابهة «الكوارث الثّقافية» التي تهدّد بريق أمل الشّعوب العربيّة والإسلاميّة في التّحرر والانعتاق من تبعيّة مقيتة زادت الواقع العربي ظلمة على ظلمته؟ .... للحديث بقيّة....  
الهوامش 
(1) احتفظت لنا ذاكرة التاريخ بقصص «غاليلو» و«جان دارك»، وبعشرات من المفكرين الذين انتهت حياتهم داخل أسوار السجون أو بالتعليق فوق المشانق والمقاصل.
(2) قام الدكتور عابد الجابري بإعادة بناء مفهوم «المثقف» في الحضارة العربيّة بالصورة التي تعبّر  داخل الثقافة العربية عن المعنى الذي يعطى له اليوم في الفكر الأوروبي حيث يجد مرجعيته الأصليّة. ويشمل «المثقف» في الحضارة العربيّة الكتاب والفلاسفة والعلماء والفقهاء والشعراء والنقاد والمؤرخين والمفسرين والأصوليين والمتصوفة.  للتوسع في هذا الموضوع يمكن الاطلاع على كتابه - المثقفون في الحضارة العربيّة - مركز دراسات الوحدة العربية ط.2 جانفي 2000.
(3) المصدر السابق من ص.62 إلى ص.115
(4) المصدر السابق من ص.119 إلى ص.153
(5) رفاعة رافع الطهطاوي (1216 هـ/1801 - 1290 هـ/1873) من قادة النهضة العلمية في مصر في عهد محمد علي باشا.
(6) اخترنا مصطلح المثقف المصلح للتعبير عن المثقف الذي سيقود حركة الإصلاح الثقافي المنشود - لمزيد من التحليل يرجى العودة إلى مقالنا الصادر بمجلة الإصلاح عدد  107 - جوان 2016 تحت عنوان «المثقف المصلح». 
(7) نهاية الداعية الممكن والممتنع في أدوار المثقفين - الدكتور عبد الإله بلقزيز - الشبكة العربية للأبحاث والنشر الطبعة 2 - بيروت 2010 - ص145
(8) نقد المثقف او أوهام النخبة، علي حرب، المركز الثقافي العربي،الطبعة الثالثة2004- ص16.