الأولى

بقلم
فيصل العش
بين «ثقافة التعدد» و «ثقافة الإنغلاق»
 بلغ السيل الزبى ووصلت الأمور إلى حدّ لا يطاق، فمن كان يتصوّر أن يصبح الدّين الذي جاء رحمة للعالمين مقترنا بالقتل والذّبح والإرهاب؟ مالذي يجعل المسلمين يقتلون بعضهم بعضا ويخرّبون بيوتهم بأيديهم؟ لماذا يقتل السنّي أخاه الشّيعي ويقتل الشّيعي أخاه السنّي؟ ويذبح بعضهم بعضا؟ مالذي يدفع بمجموعة من الشّباب إلى حمل السّلاح ومحاولة احتلال مدينة مكبّرين ومهللّين، يقتلون من يعترضهم من العسكريين والأمنيين والمدنيين الذين ربمّا لم يمرّ على إقامتهم لصلاتهم إلاّ دقائق معدودات؟ 
 لا شيء يفسّر ذلك سوى التّطرف والايمان بأنّ الفكر الذي يحملونه هو الحقيقة التي لاشكّ فيها وأنّ فهمهم للدّين هو الفهم الوحيد الذي يجب أن يسود، وإن كان ذلك بقوّة المدفع والرّشاش تقليدا لأسلافهم «الخوارج» الذين اعتبروا كلّ مخالف لهم من الكافرين والسّيف هو الفيصل بينهم وبينه.
يعتبر الإرهاب الذي هو سمة هذا العصر نوعا من طرق حسم الخلافات والتّعبير عن رفض الإختلاف والتّنوع. إنّه حالة تدلّ على عمق الأزمة التي يعيشها جزء من شباب هذه الأمّة في تعامله مع محيطه وفي فهمه الخاطئ للنصّ المؤسّس لحضارة المسلمين.
لا يمكن أن نفسّر ما يحدث بالعامل الفكري فقط بل هناك عوامل وعناصر أخرى تداخلت لتخلق هذا العنف السّائد بأرضنا وأرض إخواننا العرب المسلمين. فالعامل الخارجي بما يعني تدخّل قوى الهيمنة الدّولية على سبيل المثال حاضر بقوّة في توجيه هذا الصراع وتأجيجه بالإضافة إلى العوامل الإقتصاديّة والسّياسية والاجتماعيّة ، لكنّ العامل الفكري والثقافي الذي يتمثّل أساسا في رفض الإختلاف والتنوع يبقى المحرّك الرئيس للصّراع والموجّه له. ومن هذا المنطلق نرى أنّ من واجب المفكّرين والمثقّفين إذا ما أرادوا المساهمة في القضاء على الإرهاب والإعداد لما سمّيناه في مقال سابق «الثورة الثقافية» أن يولوا أهمّية كبرى لتحليل هذا العامل وتفكيكه والبحث في جذوره وهذا يتطلب استنفار كلّ الطاقات في مختلف الاختصاصات وتضافر الجهود من أجل تعديل بوصلة تفكير المسلمين ورؤيتهم لمسألة الإختلاف والتنوع والعيش المشترك. 
الاختلاف لا يفسد للودّ قضيّة 
«الاختلاف لا يفسد للودّ قضيّة» شعار نردّده كثيرا بألسنتنا لكنّنا نغضّ عنه الطّرف في أفعالنا. ففي مجتمعاتنا يصبح الاختلاف في الرّأي قطيعة وتسفيها وتجريما سرعان ما يتحوّل إلى تصفية جسديّة وتقاتل وصدام.. فلماذا يغيب هذا الشّعار بسرعة ويصبح الواجب سحق الجميع حتى لا يعلو فوق صوتنا صوت، ولماذا تحضر فكرة الانتصار والغلبة في ساحات حواراتنا الفكرية والسّياسية وتغيب فكرة التنوع والتّشارك والتّعايش ضمن مجتمع متعدّد؟ 
تستمدّ فكرة الخلاف (بمعنى رفض كل معارض لأفكارنا وآراءنا واحتكار الصواب وإلغاء الآخر) جذورها من موروثنا التاريخي حيث نمت وترعرعت بمرور الأيام نتيجة التخلّف الذي صبغ بيئتنا العربية الاسلاميّة في مختلف المجالات وازدادت ترسّخا نتيجة هيمنة الأنظمة القبليّة في بعض الدول وبروز دكتاتوريات سياسيّة أو عسكرية فرضت نفسها على شعوب دول أخرى. وكلّما ارتفعت نسبة الجهل والتخلّف في المجتمعات إلآّ وتحوّل الإختلاف إلى خلاف والخلاف إلى صراع والصراع إلى نفي للآخر. فلا غرابة أن نرى في زماننا هذا تقاتلا وتناحرا وحسما للاختلافات بالرّشاش والدّبابة، فقد عشّش في عقولنا التخلّف وبلغت نسبة الجهل حدّا لا يستهان به، جهل بالدّين أوّلا وجهل بفهم الواقع ثانيا وجهل بما ينتظرنا من مآسٍ إذا ما واصلنا الطريق على هذا النحو ثالثا.
ثقافة الإنغلاق في مواجهة ثقافة التنوع
نحن اليوم أمام تحدّ كبير يتمثّل في كيفيّة تأسيس مجتمعاتنا على أساس «ثقافة التنوع والتعدّد والاختلاف» وإنقاذها من ثقافة «الإنغلاق» حتى لا نحكم عليها بالفناء ولا نفوّت عليها فرصة التطور والنماء. لأنّ الاختلاف والتنوع والتعدّد في الفكر والثقافة هو الدّافع الأساسي للتّنافس والتّدافع والاستباق بين بني البشر «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ»(1) . ففي انعدام التعدّدية والتنوع داخل المجتمع تغيب دواعي التّدافع وحوافز التّنافس بين أفراده وبين الجماعات المؤسّسة له فتنعدم الحركة وتضيع بذلك فرصة التطوّر. 
إن الذين يعتقدون أن المجتمع يجب أن يكون على نمط واحد وأن الحالة الطبيعية للمجتمع السويّ هي أن يكون على ثقافة واحدة وفكر واحد ودين واحد بل وفهم واحد للدّين، والذين يجعلون من مدلولات التّنوع والاختلاف سببا للعصبيّة ومسلكا للصّراع والتناحر وحجّة لإقامة حدود وموانع تفصلهم عن غيرهم من أبناء جلدتهم هم مجرمون في حقّ مجتمعاتهم ومخطئون في حقّ دينهم لأنهم يريدون أن يغيروا سنّة من سنن الله.لأنّ «التنوع والتعدّد والاختلاف» آيات من آيات الله وسنن من سننه وهي قوانين خلق عليها الكون وما فيه من مخلوقات جمادا ونباتا وحيوانا وبشرا. يقول سبحانه وتعالى : «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ»(2) .
هي إذا سنّة الله في خلقه، خلقنا متنوعين ومختلفين لنتعارف ونتبادل المعارف والتجارب والمكتسبات ويشارك بعضنا البعض لا لنتقاتل ونسفك الدماء، فما بالك إذا تعلّق الأمر بأبناء الشعب الواحد والمجتمع الواحد والدّين الواحد «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُــمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(3) ولا يزال الناس متنوعين ومختلفين تطبيقاً لقوله تعالى «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(4). إن انقسام الإنسانية إلى مجتمعات مختلفة وانقسام المجتمعات ذاتها إلى مجموعات عرقيّة ودينيّة ولغويّة وثقافيّة متنوّعة هو الوضع الطبيعي للمجتمعات الإنسانيّة وظاهرة أصيلة في تكوينها. فمن الطّبيعي أن يتباين النّاس في رؤاهم الثّقافية والفكريّة والسّلوكية نتيجة لاختلاف ظروف عيشهم وبيئتهم وتعدّد مداركهم وتباين عقلياتهم ومعارفهم التي يكتسبونها من خلال تجاربهم وتفاعلهم مع الزّمان والمكان الذي يعيشون فيه.
وقوله تعالى: «وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين» تأكيد على أنّ الاختلاف سنة كونيّة وأنّ المسعى الحقيقي هو استثمار هذا الاختلاف لصالح البشريّة وتحقيقها لخلافتها على وجه الأرض  عبر الاتجاه نحو «الائتلاف» بما هو إقرار بالآخر المختلف والعمل على محاورته وفهمه والاستفادة من خصوصياته ومميزاته. 
لقد جاء القرآن الكريم ليؤكّد فكرة «الإختلاف والتنوع» وهو من خلالها يؤكّد وحدانيّة الخالق سبحانه وتعالى فكل شيء مختلف ومتنوع ومتغيّر إلاّ الله فهو واحد أحد، فرد صمد. ولو نظرنا إلى الآيات القرآنيّة التي تحدّثت عن الاختلاف بين الناس لوجدنا عددها يبلغ «خمسا وثلاثين آية، منها اثنان وعشرون آية مكيّة وثلاث عشرة آية مدنيّة»(5)  فثلثا الآيات نزلت في العهد المكيّ إبّان ترسيخ عقيدة التّوحيد إذ عملت هذه الآيات المكيّة على امتداد ثلاث عشرة سنة على تجذير فكرة «الاختلاف» لدى المؤمنين وتأصيلها ودعتهم إلى استبطان تلك الفكرة والإقرار بها كشرط من شروط الاجتماع البشري. أمّا الثلث المتبقي فقد نزل بالمدينة للفت انتباه المؤمنين إلى أنّه آن الأوان ليكرّسوا مفهوم الاختلاف في مجتمع المدينة الذي أراده الله أن يكون مجتمعا منفتحا فيه اختلاف في الألسنة والألوان والعقائد والأفكار(6) 
 وإذا فهمنا وأدركنا أن الاختلاف سنة كونيّة وإرادة إلهية، فانّ من ينكر هذه الحقيقة يصادم إرادة الله، ويريد أن يسيّر الكون حسب رغبته لا بحسب مشيئة الله.
إنّ ما يريد المتشددون والإرهابيون فرضه بلغة السّلاح والقتل وإصرارهم على نشر ثقافة «الاستئصال والإنغلاق» لن يجد طريقه إلى التّحقيق لأنّه ببساطة مخالف لسنن الله والتّاريخ شاهد على ذلك.  
وفي أنفسهم أفلا يبصرون؟
لا نهدف بهذا المقال توجيه سهام النّقد إلى تنظيم «داعش» وتبيان انحرافه وفضح جرائمه فقط فذلك من تحصيل الحاصل ولن يحقّق المقال إضافة نوعيّة للموضوع إذا ما اكتفى بذلك، وإنّما أردنا من خلاله بذر فكرة تأصيل مفهوم الإختلاف والتنوع والتعدّد والتّنبيه إلى أنّ الفكر «الدّاعشي» بما هو فكر استئصالي معبر عن «ثقافة الانغلاق» موجود بنسب متفاوتة في نخبنا بمختلف مشاربها الفكرية قبل عامّتنا ويكفي أن ننظر بتمعّن في الصّراعات السّياسيّة والثّقافيّة والفكريّة القائمة في المجتمع لنتأكّد أنّ الجميع يدّعي امتلاك الحقيقة ويريد أن يفرض رؤيته على الجميع بعد أن يأخذ بناصية الحكم وأنّ ثقافة الحوار والثّقة المتبادلة والتّعاون منعدمة ولا نرى لها أثرا في الواقع المعاش. 
إنّ تنامي خطاب الإقصاء الذي تتبنّاه بعض الأطراف وتسوّق له عبر مختلف وسائل الإعلام أو على الميدان ورفع الشعارات التي تحرّض على الصّدام ورفض الآخر ونفيه عبر تخوينه أو ارتباطه بجهات أجنبية واتهامه بدعم الارهاب لدليل قاطع على تغلغل الفكر الإقصائي في نفوس هؤلاء. فمتى ينظرون إلى خطورة توجههم واستماتتهم في نفي الفكر المخالف لهم؟ 
 الخاتمة
إنّ الأزمة عميقة بقدر عمق تخلّفنا وأنّ التحرّك لحلّها فرض عين على الجميع ولهذا من واجب الإصلاحيّين الصّادقين من مثقّفين وسياسيّين وعلماء وخبراء تكثيف جهودهم، كل حسب اختصاصه، للعمل على تصحيح جملة من المفاهيم المدمّرة المتغلغة في النّفوس عبر عمل فكري ثقافي يدافع عن مبدأ التّعدّد والتنوع وما يولد عنه من قبول للرّأي الآخر ويبرز القيم الحضاريّة التي نادى بها الإسلام كالحريّة وقدسيّة حرمة الإنسان التي هي أصل من أصول هذا الدّين وأهمّ مقاصده. 
إن من واجبنا اليوم العمل على تبيان جوهر الإسلام، المكّون الأساسي لهويتنا الضّائعة، الذي يقوم على تجذير قيم الخير والعدل والتآخي والتّسامح والتّحابب والتّفتح على الآخر والتّعاون معه وحبّ العمل وتقديس العلم ....وهي قيم إنسانيّة راقية توفر السّلام والسّلم للجميع وتحقّق الرّفاه وتقضي على كل فكر متحجّر لا يفهم غير لغة الحرب والخراب مهما كان منبعه ومهما كانت دوافعه. 
 تلك هي إحدى أعمدة التّغيير الثقافي الذي نصبو إليه، تغيير يعدّل البوصلة ويصحّح مفاهمنا وَيَضَعُ عَنّا إِصْرَنا وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْنا ليعود قطار حضارتنا على السكّة وينطلق في الاتجاه الصحيح.
الهوامش
(1) سورة البقرة، الآية 251
(2) سورة الروم، الآية 22
(3) سورة الحجرات، الآية 13
(4)  سورة هود، الآية 118 
(5) محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ص239-240.
(6) من المؤشرات الدالّة على ذلك تغيير إسم دار الهجرة من يثرب إلى المدينة.
 -----
- مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com