الأولى

بقلم
فيصل العش
من «الصحوة» إلى«البناء الحضاري»
 عندما تشاهد التناحر المستمرّ في مختلف أرجاء الوطن العربي وقوافل المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأرزاقهم هروبا من الجحيم وبحثا عن مكان آمن يعيشون فيه(1). وتقف أمام مستوى الهمجيّة والفوضى التي تسيطر على جزء كبير من هذا الوطن، وعندما تتابع ما تعيشه البلدان العربية «الناجية من الفوضى» من أزمات اقتصادية واجتماعية حادّة تكاد تعصف بشبه الاستقرار والتوافق الذي يتشدّق به السّياسيون ويفتخرون به. وعندما ترى الفساد ينخر مفاصل المجتمع ويغيب حبّ العمل واحترام القانون مقابل ارتفاع أسهم النفاق والتملّق والرّشوة والمحسوبيّة في أذهان وممارسات النّاس باختلاف مستوياتهم الاجتماعيّة والثقافيّة، يُوخز خاطرك سؤال محوريّ سبق وأن طرحه أجدادنا من المصلحين والمفكرين والسّياسيين وهو : لماذا نعيش فى بحر من التّخلف والرّجعية، فى الوقت الذي يعيش غيرنا فى مُستويات مميّزة من التّقدم التّقني والعلمي ؟! لماذا تأخّرنا وتقدّم غيرنا؟. ولماذا نفشل في كل محاولات الإصلاح والتقدّم؟ هل هو مرتبط بعرقنا أم بثقافتنا أم بديننا؟ أم باعتماد مناهج إصلاح مسقطة لا تتماشى مع واقعنا وثقافتنا؟.
السؤال لا يتعلّق بمقارنتنا، نحن العرب، بأوروبّا وأمريكا فتلك مقارنة ربّما هي جزء من مأساتنا، ولكنه يتعلّق بمقارنة وضعنا بأوضاع أقوام آخرين كانوا في الماضي القريب متخلّفين مثلنا، يعانون الفقر والفوضى والفساد ولكنّهم استطاعوا أن ينهضوا من كبوتهم ويقاوموا عجز إمكانياتهم فأصبحوا من الدّول المتقدّمة المزدهرة ومن القوى الفاعلة في العالم ولنا في دول أمريكا اللاّتينيّة ونمور آسيا كماليزيا وسنغفورة خير مثال.
لقد جرّب العرب كلّ أنواع الأنظمة، حزبيّة وعسكريّة وعلمانيّة ودينيّة وغيرها، فلم تقدر على إيجاد البلسم لما يعيشونه من مصائب وبلايا ومحن، بل أنّ الوضع كان يزداد سُوءاً  بعد كلّ عمليّة تغيير. فهل كُتب على أمّتنا أن تبقى تعاني المصائب والبلايا وتعيش الفقر والتخلّف؟ أمّ أنّ هناك ما يعطّل نهوضها ويمنع ازدهارها والتحاقها بركب الأمم المتقدّمة؟
يذهب البعض من نخبنا إلى اتّهام ديننا كمعيق أساسي لتطورنا وتقدّمنا إذ فشلنا في كبح سيطرته وتدخّله في أمور حياتنا وفي تحجيم سلطة رجال الدّين كما فعل الغرب مع الكنيسة، حيث تحرّر العلم والفكر الأوروبيّان من هيمنتها فراحا يتقدّمان بكلّ قوة دون حواجز وعقبات وانتهى الأمر إلى تحقيق الحداثة وبناء حضارة متطورة مشدودة إلى قيمة الإنسان ومنتجاته الفكرية والعملية. فالتّقدم في الحياة حسب هؤلاء، لا يكون إلاّ بخلع رداء الدّين كما فعلت أوروبا، والالتحاق بركب الحداثة، فكلَّ مَن يُؤمِن أو يُصّر على أنّ هذا الدّينَ قادرٌ على بناءِ حضارةٍ عَظيمةٍ مُسْتقلةٍ، هو حَتما إنسانٌ مُتخلفٌ يعيشُ خارجَ إطارِ الزَمان ولهذا نراهم يعملون بكلّ جهدهم من أجل القطع النهائي مع الدّين الإسلامي باعتباره قوّة شدّ إلى الوراء أو في الحالة الدّنيا تقليص حضوره في الحياة العامّة ليبقى شأنا شخصيّا لا يتعدّى عتبة البيت أوالمسجد. وتندرج ضمن هؤلاء كلّ التيارات الماركسية واليسارية وجزء من النخب التي نشأت وترعرعت في أحضان الغرب الأوروبي وتشبّعت وآمنت بفكره وثقافته واتخذته قدوة ومثالا. 
وفي المقابل نجد التّيارات الإسلاميّة بمختلف أطيافها تعتبر أنّ التخلّي عن الإسلام كمنهج للحياة هو السبب الرئيسيّ لتخلّفنا ونزول أسهمنا بين الأمم. والحلّ عند هؤلاء يكمن في إعلاء شأن هذا الدّين وإعطائه المكانة التي يستحقّها فهو الحلّ وهو الكفيل بضمان عمليّة الإقلاع إذا فهمناه كما فهمه الأوّلون واعتبرناه مرجعا أساسيا لكل تشريع، فلا يصلح آخر هذه الأمّة إلاّ بما صلح به أوّلها. 
وبين اتجاه التّغريب واتجاه الهويّة كان الصّراع على أشدّه خلال القرن الماضي ولا يزال يحتدم عاما بعد آخر خاصّة بعد ثورات الرّبيع العربي والتّجربة القصيرة للإسلاميين في الحكم وبروز التّنظيمات المتشدّدة والجماعات المسلّحة، ممّا زاد في تعقيد الوضع وقلّص من امكانية نهوض الأمّة. والخطير في الأمر أنّ الصراع المذكور انحصر نظريّا بين النّخب بعيدا عن واقع المجتمع لكنّ تأثيراته الميدانيّة كانت كارثيّة شملت كل مفاصل المجتمع لتزيد في محنته وتعمّق أزماته ومعاناته.
الفكر المنبت
ليس هناك نتيجة غير الفشل لأيّة محاولة تهدف لتغيير واقعٍ بإسقاط نموذج مستوردٍ للحياة من واقعٍ مختلفٍ سواء كان الاختلاف زمانيّا أو مكانيّا. لهذا فشلت محاولات اتجاه التغريب طيلة عقود ولم تنجح في زحزحة الوضع بل زادته تعفّنا وتخلّفا، ذلك أنّها عمدت إلى فرض التّحديث بالقفز فوق خصوصيّة المجتمع الدّينيّة وثقافته النفسيّة والاجتماعيّة متمثّلة في الهويّة العربيّة الإسلاميّة من دون محاولة التّفاعل معها أونقدها من الدّاخل، فكانت فكرا منبتّا وجد نفسه في صدام وصراع مع المجتمع. وقد ساهمت الرّؤية العلمانيّة المستوردة في ترسيخ الديكتاتورية وخدمة مصالح طبقات معينة على حساب المصلحة الوطنيّة، فكانت عملا تخريبيّا أكثر منه محاولة بناء وإصلاح.
كذلك حصل مع تيار الهويّة الذي حاول استحضار تجربة تاريخيّة قديمة ليسقطها على واقع مختلف تفصله عن تلك التّجربة قرون من الانحطاط والتكلّس. وعوض البحث عن علل الخراب الذي تعيشه الأمّة وعن نقد الذّات ومراجعتها، وفهم تفاعلها مع روح العصر وأفكاره وقيمه، رفع هذا التيّار شعارات عامّة مثل: «الإسلام هو الحلّ» و«الخلافة الإسلاميّة» و«القرآن دستورنا» إلخ ... فكان الفشل حليفه ولم ينجح إلآّ في إحياء بعض مظاهر التدينّ أو الصدّ النّسبي لمخطّطات التّيار التّغريبي المعادي للهويّة. أمّا محاولات الإصلاح العميقة والمؤثرة فلم يجد لها طريقا وضلّ يحوم حول حماها لأنّ مواقفه منها كانت تحدّدها مرجعيّة ماضويّة تقليديّة. ولعلّ هذا الفشل هو الذي حدا ببعض هذه الجماعات إلى التّخلّي تدريجيّا عن أطروحاتها وشعاراتها التي كانت ترفعها لتتحوّل إلى حزب ليبيرالي لا يختلف عن غيره سوى في التّسمية وفي المخزون النّضالي الذي يستثمره كلّما دعت الحاجة إلى ذلك والبعض الآخر إلى الغلوّ ومعادات المجتمع وتبنّي أفكار متطرّفة حوّلته إلى جماعات إرهابيّة تزرع الموت أينما حلّت في محاولة منها لفرض «الخلافة» وتطبيق الشّريعة بالقوّة. وما نعيشه اليوم من عنف وإرهاب انتشر كالسّرطان في جسم الأمّة إلاّ صورة مجسّدة لنتاج هذه الجماعات الدينيّة التي ساهمت في تنميتها قوى دوليّة وأغلب الأنظمة العربيّة خدمة لمصالحها.
من الركود إلى الصحوة
رغم قتامة المشهد العربي الإسلامي وما تعانيه الأمّة من مآسي وضعف، فإنّ المتطّلع على تاريخ الحضارات والشّعوب يرى أنّ الفجر آت لأنّه يدرك بمعارفه أنّ نهوض الأمم تسبقه فترات طويلة من التّخلف والمعاناة وأنّ انهيار الحضارات وصعودها هو رهين صحوة الشّعوب وتوفّر القوى التي تُترجم تلك الصّحوة إلى أفكار ومشاريع وحركة تحدث تغييرا في مجالات الحياة المختلفة. وما حدث في الأمّة العربيّة الإسلاميّة خلال السّنوات الأخيرة، خاصّة مع اندلاع الثّورات العربيّة، يؤكّد أنّ فترة الرّكود والاستكانة واللاّمبالاة التي عاشتها الشّعوب العربيّة قد ولّت بلا رجعة وأنّ الصّحوة (2) قد حدثت بلا ريب، برغم كيد الخصوم ومن والاهم من قوى الردّة والفساد. غير أنّ هذه الصّحوة التي هي أول خطوة في طريق النّهضة الحضاريّة الشّاملة، لم تجد من يأطّرها ويدفعها للسّير نحو الخطوات الموالية لتحقيق بناء حضاريّ يقطع مع التّخلف الثّقافي والضعف الاقتصادي والاجتماعي والتّأخر العلمي والتّبعية السّياسية لقوى الاستكبار العالمي. فكيف يحدث الارتقاء من طور الصّحوة إلى طور البناء الحضاري؟
كيف نرتقي؟
الثّقافة والمدنيّة هما المكوّنان الرّئيسيان لكلّ بناء حضاري، فالثّقافة هي المكوّن النّظري للحضارة وهو الذي يشكّل هويّتها الذّاتية ويعطيها طابعها الخاص الذي يميّزها عن سائر الحضارات الأخرى. وتشمل الثقافة الجانب الرّوحي والفكري والمعنوي للإنسان. أما المدنيّة فهي المكوّن المادّي العملي للحضارة الذي يشمل مجالات الإنتاج وأدواتها ومنتجاتها التي يحتاج إليها الإنسان في معاشه ومختلف أنشطته وأعماله وهو بدوره نتاج للمكوّن الأول أي الثقافة في تفاعلها مع البيئة. فالثقافة بما هي صانعة للإنسان تشكّل روح الحضارة وعقلها وقلبها ووجدانها ولهذا فالبناء الحضاري لا يستقيم من دون ثقافة صلبة متميّزة تخلق إنسانا متوازنا متحرّكا وتقطع الطريق أمام كلّ ما من شأنه أن يكبّله ويدفعه إلى الجمود والتّواكل.
وإذا كانت الثورة السّياسية الاجتماعية التي أولدت الرّبيع العربي قد حققّت صحوة الأمّة وخلقت لدى شعوبها فرصة للاستثمار من أجل الرّقي والتّقدم، فإنّ الثّورة الثّقافيّة من شأنها أن تمكّننا من استغلال هذه الفرصة وتحدث الارتقاء من طور الصّحوة إلى طور البناء الحضاري. ولكن كيف السّبيل إلى ثورة ثقافيّة وما هي خصائصها؟
ثورة بالدّين وليست ضدّه
 الثّورة الثقافيّة ليست بالأمر الهيّن، هي عمليّة معقّدة تتطلّب وقتا طويلا وجهدا يشارك فيه الجميع من أكادميين ومثقّفين ومثقفين عضويّين وأيمّة ورجال دين وإعلامييّن وتهدف إلى إنشاء عالم جديد من الأفكار والسّلوك يمهّد لبقية مظاهر الرّقي والتّطور المادّي والتّقني، وهي حركة لا يمكن أن تكون مستوردة بل نابعة من الدّاخل، يعبر فيها الإنسان عن عمق ذاته فتغيّر النّفس والعقل والسلوك، قبل أن تصل إلى المادّة. يقول الله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(3)
ولأنّ الدّين يدخل كمركّب أساسي محفّز «catalyseur» في التّركيب البيولوجي للحضارة على رأي مالك بن نبي استنادا إلى أفكار «كيسر لنج» وعلى معطيات التّاريخ بصفة عامّة(4) فإنّ الثّورة الثقافيّة لن تكون بحال من الأحوال ثورة على الدّين ولكن ثورة من خلاله. ولهذا يبدأ الإعداد للثّورة الثّقافية بتحديد مفهوم الدّين والفصل بين ما هو وحي مقدّس وما هو تراث بشريّ، فصل في المنزلة وفصل في كيفيّة التّعامل معه. وهذا يحتاج حفرا معرفيّا عميقا يُزيل عن الدّين ما علق به من أفهام خاطئة وقصور في تنزيل الوحي في الواقع ويُبرز معانيه السّامية التي جاء ليصنع المسلم على أساسها، كقيم العمل والإخلاص والعدل والعلم والمساواة والحرية وصيانة كرامة البشر والرحمة والبرّ والتعايش والتسامح ومقاومة التّناحر والتواكل والاستكانة. كما يحتاج غوصا في عالم التّراث الفكري الغزير ليحيي جوانبه المضيئة للاستفادة منها وتطويعها في سبيل بناء وعي يدفع إلى الحركة ويقاوم الجمود. وبذلك تُرَدُّ للعقيدة الإسلاميّة فاعليّتها وقوّتها الإيجابيّة وتأثيرها في الفرد والمجتمع. 
هكذا يكون الإعداد لثورة ثقافيّة تنبع من رحم الأمّة وتحترم هويّتها، قادرة على إحداث التغيير المنتظر في فكر الإنسان العربي، فإذا تغيّر فكره تغيّر سلوكه وانطلق ليبني حضارته على أسس صحيحة وتخطيط محكم بعزيمة وحزم. أمّا مواصلة التضييق على مظاهر التديّن ومحاصرة المتدينين ومحاولة تدجين الدّين في فهم معيّن رسمي لا يجوز الخروج عنه من جهة ومواصلة اتّباع أسهل السبل بالارتماء في أحضان الآخر وقبول مقترحاته لحل أزماتنا من جهة أخرى، فذلك لن يؤدّي إلاّ إلى مزيد من إنهيار الأمّة والتّناحر بين مكوناتها. ولن يكون بعد الصّحوة رقي أو حضارة. 
هوامش
(1) في أقلّ من خمس سنوات، قُتل أكثر من ربع مليون عربي؛ وشُرِّد ما يقرب من أربعة ملايين آخرين.
(2) الصّحوة هي أولى مراحل البعث الحضاري من أعراضها الايجابية الإحساس بالذّات والهويّة ومن أعراضها السّلبيّة عدم تمتّع أشكالها التّنفيذية الانطلاقيّة بالرّشد الكامل، فهي في جزء منها تبدو فوضويّة غير منضبطة وهي مرحلة تعلّمت فيها الأمّة عمق واقعها وعظمة فكرتها ولكنها لا تمتلك المناهج وخطط التّعامل مع إشكاليات الزّمان والمكان ولا تمتلك ما تحتاجه من تعدّد الوسائل وطرق العمل وما يلزم ذلك من سعة الفكر والقدرة على الابتكار ( الدكتور جاسم سلطان - من الصّحوة إلى اليقظة، استراتيجيّة الإدراك للحراك - مؤسّسة ام القرى للترجمة والتوزيع - ص 43 - الطّبعة الرابعة 2010) 
(3) سورة الرعد الآية 11
(4) مالك بن نبي، شروط النّهضة ، ص. 61 - ترجمة عبد الصبور شاهين - دار الفكر 1986
 -----
- مدير المجلّة.
faycalelleuch@gmail.com