الأولى

بقلم
فيصل العش
قراءة في «الشأن الليبي» السلام المؤجّل
 تمرّ الذكرى الخامسة لاندلاع «ثورة 17 فبراير» اللّيبية التي أفضت إلى سقوط القذافي، والشّقيقة ليبيا تعيش حالة من التّوتر بعد أن دُقّت طبول التّدخّل العسكري الأجنبي بتعلّة محاربة تنظيم الدّولة في الوقت الذي تتواصل فيه الجهود حثيثة لتنفيذ الاتفاقيات التي أبرمت بين الفرقاء اللّيبيين في محاولة لترسيخ قدم حكومة وطنيّة موحّدة تلقى مساندة دوليّة تقطع مع ازدواجيّة في الحكم وتنهي الصّراع الدّامي بين المؤتمر الوطني الذي يحكم من طرابس وبرلمان طبرق وما تبعهما من ميليشيات، وتفتح الآفاق لوضع حدّ لحالة عدم الاستقرار والتناحر الدّاخلي الذي استفادت منه عدّة جهات أهمّها تنظيم الدّولة «داعش» وبعض الدّول الأجنبيّة العربيّة والغربيّة. 
والكتابة عن الشّأن اللّيبي من خارج أرض الواقع صعبة ومعقّدة وقد تجانب الصّواب أو تفشل في إماطة اللّثام عن أهمّ مميّزاته وبالتّالي عدم تحقيق هدف إنارة الرّأي العام الذي ماانفكّ يهتمّ بالشّأن اللّيبي خاصّة لما له من تأثير مباشر وغير مباشر على الوضع في بلادنا سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا. ولهذا فإننّا سنكتفي بتسليط الضّوء على بعض المؤشّرات التي نراها معبّرة عن الوضع في ليبيا وطرح بعض التّساؤلات التي نأمل أن تساعد القارئ الكريم على فهم ما تراكم حوله من أحداث.
(1) دور أجنبي قذر
لا يمكن فهم ما يحدث في ليبيا بمعزل عمّا يحدث في منطقة الرّبيع العربي من حرب شعواء للقضاء على أمل الشّعوب في نجاح ثوراتهم، تقودها قوى الردّة التي لا يخلو منها أي بلد، مدعومة بالسّلاح والمال وأبواق الإعلام المأجور بصفة مباشرة أو خفيّة من طرف أطراف عربيّة وإقليميّة ودوليّة فاجأتها الثورة فوجّهت كلّ طاقاتها في سبيل وأدها أو على الأقل الاستفادة منها للمحافظة على مصالحها وترسيخ التبعيّة الاقتصادية والثقافية لها.
ولم يعد خفيّا على أحد الدّور الذي لعبته ومازلت تلعبه الدّول الغربيّة خاصّة فرنسا وإيطاليا وأنقلترا والولايات المتّحدة الأمريكيّة مباشرة أو بالوكالة عبر دول عربيّة كالإمارات ومصر في التّأثير على مجريات الأمور في ليبيا عبر انحيازها الواضح لأحد أطراف الصّراع، حيث ساندت بقوّة برلمان طبرق وقامت بتوفير الدّعم للفصائل المناهضة للمؤتمر الوطني العام الذي يقوده إسلاميون. وإلاّ فكيف نفهم غضّ طرف القوى الدّولية عن انتهاكات الإمارات الصّارخة لقرار مجلس الأمن الدولي(1) بمواصلة توفير الأسلحة والعتاد لجنود اللّواء «خليفة حفتر» الذي يقود منذ مدّة ما يسمى بعمليات الكرامة  للسّيطرة على العاصمة طرابلس ومناطق نفوذ قوات «فجر ليبيا» الفصيل العسكري الذي يدافع عن حكومة المؤتمر الوطني العام؟ 
لكنّ الحلّ العسكري فشل في حسم المعركة لصالح الطرف المناهض لقوى الثورة، وتسبّب في بروز تنظيم الدولة «داعش» كقوّة جديدة بسطت نفوذها بسرعة على بعض المناطق الحسّاسة وانطلقت في تنفيذ مخططاتها للتّمدّد في اتجاه الشّرق والغرب حتّى  أصبحت طلائع مقاتليها قاب قوسين أو أدنى من بوابتي مدينتي بنغازي ودرنة، الأمر الذي أربك القوى الدّولية والاقليميّة الرّافضة للمؤتمر الوطني العام ودفعها إلى تغيير خطّتها والدّعوة إلى حوار برعاية أمميّة، فكانت اجتماعات «الصخيرات» وتونس وروما التي أنتجت في بداية هذا العام اتفاق الصخيرات بين بعض الأطراف السّياسية اللّيبية. اتفاق مازال يراوح مكانه خاصّة مع احتدام الاختلاف داخل برلمان طبرق ورفضه من طرف أغلب الأطراف العسكرية المتصارعة على الميدان. 
(2) الذئب الراعي
لم تكن المظلّة الأمميّة منذ بدء المحادثات في الصّخيرات محايدة وهو ما يؤكّد التّوجه الذي ذهبنا إليه في أنّ هذا «الحوار» لم يكن من أجل فضّ الصراع بين القوتين الرئيسيّتين الليبيتين والبحث عن حلّ جذري ينهي التقاتل بينهما وإنّما كان حلاّ لتغيير خطّة الضّغط على المؤتمر الوطني ووضعه في الزّاوية في محاولة لاستبعاد الإسلاميين بالكامل من المشهد السّياسي اللّيبي. ولكن أيّ دليل يؤكّد هذا ؟ وهل يعقل أن تكون المظلّة الأمميّة غير محايدة؟ 
الجواب علي الجزء الثاني من السؤال لا يستحق كثيرا من العناء والبحث، فالحالة الفلسطينيّة والسّورية تؤشّر بوضوح إلى انحياز المنظمة الأممية وتنكّرها حتّى لقراراتها التي لم تر نور التنفيذ ولو جزئيّا. أمّا الدّليل على أنّ المظلّة الأمميّة لم تكن محايدة في الحالة اللّيبية فهو الفضيحة المدوّية للمبعوث الأممي السّابق «ليوناردينو ليون» الذي أشرف على الجزء الأول من حوار الصخيرات حيث كشفت إحدى رسائله البريدية السريّة بينه وبين الخارجيّة الإماراتيّة (2) بوضوح انحيازه لأحد أطراف النّزاع اللّيبي وفقا لما يتّسق مع الرّغبات الإماراتية وغيرها من الدّول الغربية حيث جاء فيها «خطتي تهدف كسر تحالف خطير جدًّا بين التّجار الأثرياء من مصراتة والإسلاميين الذين يحافظون على قوّة المؤتمر الوطني العام، وتعزيز الحكومة المعترف بها دوليًّا والمدعومة من الإمارات ومصر» وهو بهذا يوضح أنّه لا يعمل من خلال خطّة سياسيّة من شأنها أن تشمل الجميع وتعامل كلّ الأطراف بشكل متساوٍ، وإنّما وِفق خطّة لـنزع الشّرعية تمامًا عن المؤتمر الوطني العام».وبموجب ذلك تحصّل «ليون» على مكافأة سخيّة حيث تمّ تعيينه مديرا عامّا لأكاديميّة الإمارات الدبلوماسيّة براتب شهري يبلغ 53 ألف دولار(3).
(3) اتفاق هشّ وحكومة بلا مخالب
الكلّ يعلم بأنّ اتفاق الصّخيرات لم يشرّك الأطراف العسكريّة الفاعلة على الأرض ولم يحصل لحدّ السّاعة على تأييدها، واللاّفت للنّظر أن بنود الاتّفاق خلت من آليات بناء جيشٍ ليبيٍ قويٍ!!! وبالتّالي فإنّ الحكومة التي ستنبثق عن الاتفاق لن يكون باستطاعتها السّيطرة على أرض الواقع وستكون حكومة بلا سلطة. ومع ذلك لاحظنا استعجالا غربيّا ملفتا للنّظر لتأييد اتفاق الصّخيرات والضّغط من أجل تنفيذه بسرعة، خاصّة من طرف فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، فما هو السرّ وراء ذلك؟ 
لا ينظر الحلف الغربي الأمريكيّ إلى المسألة اللّيبية إلآّ من خلال تحقيق مكاسب جديدة أو على الأقل الحفاظ على مصالحه وهذا أضعف الإيمان. فهو لا يريد حكومة قويّة مدعومة من الشّعب ومن التّنظيمات المسلّحة المتعدّدة، قادرة على بسط نفوذها وتحقيق السّيادة الوطنيّة على كامل التّراب اللّيبي، بل يريدها ضعيفة لا تقدر على الحركة والتأثير، سرعان ما تلجأ إلى طلب الدّعم العسكري بتعلّة ضرب تنظيم الدّولة الإسلاميّة ومواجهة التّنظيمات المسلّحة غير المعترف بها، الأمر الذي سيجعل التّدخل العسكري الغربي مشروعا ومن دون شروط أو التزامات مسبقة.
 (4) شماعة داعش 
إنّ نجاح «اتّفاق الصّخيرات» أو فشله لن يغيّر في استراتيجيّة الحلف الغربي الأمريكي المدعوم من بعض الدّول العربية السّاعية إلى غرس النّدم في نفوس العرب الذين حدّثتهم أنفسهم ذات مرّة بالثّورة. فالتّدخل العسكري في ليبيا لن يتأخّر طويلا وسيرتكز على تعلّة محاربة «داعش» وضرب قواعدها وبالتالي منعها من التمدّد كما يقولون(4)، لكنّ الهدف الأساسي من هذا التّدخل المرتقب يتلخّص في :
* التّحكم في الشّريط السّاحلي اللّيبي لمنع تدفّق اللاّجئين عبره إلى أوروبا.
* الهيمنة بالوكالة على الثّروة النّفطية اللّيبية وضمان إعادة تزويد أوروبا بالنّفط اللّيبي وعودة شركات النفط والغاز الأوروبية كـ «إيني» الايطالية و«توتال» الفرنسية و«ريبسول» الاسبانية وغيرها للعمل بأمان في ليبيا.
* تدمير القوة العسكريّة للتّنظيمات المسلّحة الرئيسيّة وعلى رأسها «فجر ليبيا» بالغرب و«مجلس شورى ثوار بنغازي» بالشرق (5) بتعلّة مكافحة الإرهاب كما تفعل روسيا اليوم في سوريا.
* اقتسام كعكة إعادة إعمار ليبيا التي تقدّر بأكثر من 200 مليار دولار، وتتطلّب فترة زمنيّة لا تقلّ عن الـ 10 سنوات. وبما أن الأطراف التي ستتدخّل في ليبيا هي المؤهّلة لإرسال شركاتها لإعادة الإعمار فالجميع يتسابق لأن يكون ضمن المتدخّلين.
 (4) السنياريو الكارثة
يعلّمنا التّاريخ أنّ التّدخلات العسكريّة الأجنبيّة لا تؤدّي إلاّ إلى الكارثة ولنا في الصّومال والعراق وافغانستان وسوريا أمثلة على ذلك. ولهذا فإنّ التدخل العسكري الدّولي المتوقّع في ليبيا ستكون عواقبه وخيمة على الجميع وسيزيد في نسبة الاحتقان بالمنطقة ويجلب لليبيا وجيرانها ودول الضفّة الشّمالية للمتوسّط الكثير من المتاعب. فلن ينجح هذا التدخّل في القضاء على «داعش» لانتفاء الرّغبة لدى القوى التي ستنفّذه لفعل ذلك. أمّا الضّربات الجوّية التي ستستهدف بعض معاقله فلن تخلّف إلاّ مزيدا من الضّحايا المدنيّين المحاصرين في الرّقعة التي تسيطر عليها «داعش» وستكون سببا مقنعا لتدفّق عناصر متطرّفة جديدة على البلاد والالتحاق بتنظيم الدّولة بحجّة مقاتلة الغزو الأجنبي الكافر. 
الخاسر الأكبر في المرحلة القادمة هو الشّعب اللّيبي الشّقيق الذي سيعيش حالة أتعس بكثير من الحالة التي عاشها خلال السّنوات الخمس العجاف التي تلت «ثورة فبراير» والتي شهدت فيها البلاد كثيرا من الدّمار والتّخريب والنّهب والتّهجير والتّآمر على الوطن. ولن تكون الحكومة الجديدة، وليدة اتفاق الصّخيرات، سوى رقما جديدا يُضاف إلى ساحة المعركة وأداة يشرّع بها الغرب تدخّله العسكري ونهبه لثورات البلد. فمن سيقدر على وضع حدّ لهذه المأساة؟ وهل من أمل في اجتماع حقيقيّ للفرقاء اللّيبيين يوحّد هدفهم حول إنقاذ الوطن بعيدا عن الأجندات الأجنبيّة وإملاءاتها؟ أم سيبقى صوت الرّصاص والقنابل يعلو فوق كلّ الأصوات؟ الأيام كفيلة لوحدها بتقديم الإجابة وإن كانت المؤشّرات الأوّلية ترجّح كفّة السّواد على البياض ... 
الهوامش
(1) مقال بالانقليزية بجريدة نيورك تايمز الامريكيّة بتاريخ 15 نوفمبر 2015 - Leaked Emirati Emails Could Threaten Peace Talks in Libya
كشفت رسائل بريد إلكتروني إماراتية مسربة، حصلت عليها صحيفة نيويورك تايمز، قيام الإمارات العربية المتحدة بشحن الأسلحة لحلفائها في النزاع القائم في ليبيا خلال الصيف في انتهاك واضح منها للحظر الدولي على السلاح عدد 2214.
(2) حصلت صحيفة ميدل إيست آي على هذا البريد «المسرب» في 4 نوفمبر 2015، وكان مؤرخًا بتاريخ 31 ديسمبر 2014 أي بعد استلام «ليون» مهامه بـ5 أشهر.
(3) صحيفة «الغارديان» البريطانية بتاريخ 4 نوفمبر 2015. للاطلاع على المقال
«http://www.theguardian.com/world/2015/nov/04/un-libya-envoy-accepts-1000-a-day-job-from-backer-of-one-side-in-civil-war»
(4) نفهم ذلك من تصريح أحد الدبلوماسيين الفرنسي قبل توقيع الاتفاق قائلا «نريد التأكد من عدم سقوط الثروات النفطية بين ايدي الارهابيين.. وان لم يطبق الاتفاق ينبغي ان نضمن أمننا كما علينا التفكير في العبر الواجب استخلاصها». وتصريح السيد جون كيري «ان الولايات المتحدة مصممة على أن تقدّم لحكومة الوحدة دعما سياسيا كاملا ومساعدة تقنية واقتصادية وامنية وكذلك لمكافحة الارهاب». كذلك تصريح السيد مايكل فالون وزير الدفاع البريطاني «أنه بعد توقيع الأطراف الليبية على الاتفاق يمكن للمجتمع الدولي العمل مع جبهة ليبية موحدة ضد داعش»!!!. 
(5) مجلس شورى ثوار بنغازي هو مسمى ظهر في 20 جويلية 2014 لائتلاف مجموعة كتائب الثوار في مدينة بنغازي الليبية لصدّ هجمات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على المدينة.
-----
- مدير المجلّة.
faycalelleuch@gmail.com