الأولى

بقلم
فيصل العش
تصحيح المسار لتجنّب الفوضى وتخريب الدّار
 أعادت الاحتجاجات الأخيرة الصادرة عن الشباب المهمّش والعاطل عن العمل التي انتشرت في العديد من المدن والقرى التونسية ورافقتها أعمال عنف ونهب، المسألة الإجتماعية إلى صدارة الأحداث لتطرح على أذهاننا أسئلة عديدة تتعلّق بما تمّ إنجازه لفائدة الفئات المحرومة خلال السنوات الخمس التي تلت إسقاط بن علي ومدى قدرة الحكومة على القطع مع سياسة تصريف الأعمال التي دأبت على تنفيذها الحكومات السابقة المتداولة على السلطة منذ 14 جانفي 2011. كما يختمرنا سؤال آخر عن مدى حضور المسألة الاجتماعيّة في أذهان الإسلاميين وأطروحاتهم والدّور الذي يمكن أن يلعبوه، برغم هزالة تمثيليتهم في الحكومة، في ايجاد حلول جذرية لهذه المسألة بعيدا عن الشعارات البراقة والعناوين الفضفاضة التي لا تحلّ المشكل بل تزيده تعقيدا.
ولعلّ طرحنا لسؤال مدى حضور المسألة الاجتماعية في أذهان الإسلاميين وجاهزيتهم للفعل الميداني ومدى قدرتهم على تحمّل عبئها  يندرج ضمن اعتبارنا لهم الجهة الأكثر نضجا وقوّة وجدّية في السّاحة الوطنيّة حيث أكّدوا بنجاحهم في حلّ تعقيدات المسألة السّياسية أنّه بإمكانهم قيادة البلاد إلى برّ الأمان ومساعدتها على التماس طريقها نحو التقدم والازدهار ولو بعد حين.
إنّ المساهمة في الرّد على الأسئلة المتعلّقة بحلّ المسألة الإجتماعيّة هي من أبرز الأدوار التي يمكن للإسلاميين تولّيها، مستفيدين في ذلك من تاريخهم النضالي الطويل في مقارعة الاستبداد والحيف الاجتماعي، وامتلاكهم حضورا شعبيا ومؤسساتيا كبيرا بالإضافة ، وهذا الأهم، إلى مخزونهم الثقافي والفكري الناتج عن القراءات المتعددة لرسالة الإسلام المتفقة بلا اختلاف على أنّها رسالة قوامها التوحيد والعدل وأنّ هدفها الرئيسي هو تحقيق السعادة للبشر في الدنيا والآخرة.
حلّ المسألة الاجتماعية 
حلّ المسألة الاجتماعيّة يعني القيام بأعمال نظرية وميدانية تهدف إلى دفع حركة التحول الاجتماعي نحو القضاء على معيقات تقدّم المجتمع كالفقر والبطالة والفوارق المادّية والمعنويّة بين مكوناته وتحقيق  الانسجام والتصالح والتكافل بين مختلف الشرائح الاجتماعية بما يعزز قدرات المجتمع على تحسين انتاجه ورصّ صفوفه وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة. وبعبارة أخرى تأسيس رؤية إصلاح اجتماعي تعتمد قراءة موضوعيّة دقيقة للواقع الاجتماعي وقادرة على تحقيق التوازنات الاجتماعيّة عبر تقديم وصفة لعلاج المشاكل الإجتماعية المعيقة للتقدّم والمهدّدة للسلم والتماسك الاجتماعي. لكنّ المتتبع لأدبيات ما بعد الثورة للإسلاميين في تونس ومواقفهم وبيانات حركتهم الرئيسيّة(1) وبرامجها الانتخابية يلاحظ تقصيرا في حضور المسألة الاجتماعية مقارنة بحضور المسألة السّياسية وأن هذا الحضور لم يتجاوز برامج وضعت على القياس الانتخابي من دون إعداد آليات للتنفيذ أو رفع شعارات لا تختلف عن شعارات بقية الأحزاب من أمثال : «بناء اقتصاد وطني قوي ومندمج يحقّق التّوازن بين الجهات والفئات ويوفّر مجالات تشغيلية واسعة ويسهم في تحقيق التكامل والإندماج مغاربيا وعربيا وإسلاميا والإنفتاح عالميا»(2).
فشل التجربة الأولى 
لا يمكن محاسبة الإسلاميين على فشلهم في انجاز تحوّل إجتماعي كبير في البلاد خلال فترة الحكم الانتقالي الذي تزعّموه، فقد كان الاختيار بين الأولويّات محدودا جدّا، فمسألة التأسيس وكتابة الدستور والانتقال من الوضع المؤقت إلى الوضع الدّائم بمؤسسات تشريعيّة وتنفيذية منتخبة فرضت نفسها كأهمّ الأولويّات المطروحة بالإضافة إلى التوتر الكبير الذي ميّز فترة الحكم الأولى خاصّة بعد ظهور الاغتيالات السياسية واجتماع عدد كبير من القوى السياسية المناوئة للنهضة بمساندة بعض القوى النقابية لوضع حدّ لتجربة الترويكا. 
لقد وصل الإسلاميون إلى سدّة الحكم إثر ثورة ذات مطالب  اجتماعية بالأساس لكنهم لم يفلحوا مع حلفائهم في الإجابة على السؤال المتعلّق بكيفية تحقيق هذه المطالب. لقد كانت تجربة الحكم القصيرة إثر انتخابات 2011 قاسية على النهضة بصفة خاصّة،  فقد اكتشفت من خلالها صعوبة الحكم بعد أن كانت تتوقع أن توليها السلطة هو بداية حلّ المشكلات التي تعاني منها البلاد، فانشغلت بالملفات السّياسية الحارقة ولم تبادر بالبحث عن صيغة يتشارك فيها الجميع لوضع خطّة للإصلاح الإجتماعي والاقتصادي تعتمد منوالا تنمويّا جديدا مخالفا لما كان عليه في عهد بن علي، وبدا واضحا عدم نضج ثقافة الإسلاميين وتصوراتهم للمسألة الإجتماعيّة والتعقيدات التي تتحكم فيها وتوجّهها، فاضطروا إلى اعتماد أسلوب الترقيع وكان ذلك سببا رئيسيّا في خلق حالة من الإحباط لدى طيف من المواطنين الذين ولّوا وجهتهم قبل المشروع المضاد بقيادة جبهة الإنقاذ الوطنيّة والذي عبّر عنه آنذاك «اعتصام الرحيل» بباردو.
في مفترق الطرق
لقد دفعت الأحداث والتطورات في تونس خصوصا وفي الوطن العربي عموما حركة النهضة إلى القيام بمراجعات على المستوى الفكري والسياسي خصوصا وقامت بتجديد أدبياتها السّياسية بما يتناسب مع الأوضاع الجديدة(3)، ممّا سهّل لها الانخراط والاندماج بصورة طبيعيّة في المجتمع السياسي حتّى أصبحت أحد أطرافه الأساسية. وهي تقف اليوم في نفس الخندق مع عدوّ الأمس ضمن ائتلاف سياسي حاكم استطاعت من خلاله برغم هزالة تمثيليتها في الحكومة وما تبعها من مؤسّسات تنفيذيّة أن تقطع حبل المؤامرات الانقلابيّة ضدّها وتضمن حضورا في السّلطة يرّد عنها على الأقل غوائل الحرمان السياسي والاضطهاد والإقصاء التي عانت منها طيلة عقود.
لكنّ هذا الكسب الذي يبدو وكأنه يصبّ لصالح النهضة وهو في الحقيقة مكسب وطنّي بما أنه جنّب البلاد والعباد غائلة الحرب الأهليّة، قد ينهار بدخول البلاد معمعة الاضطرابات وما يصاحبها من فوضى نتيجة تأزم الوضع الاجتماعي والاقتصادي(4)، ما لم يتمّ توجيه الجهود بسرعة لحلّ المسألة الاجتماعية ووضعها على رأس سلّم الأولويّات. 
يقف الإسلاميون اليوم في مفترق الطّرق، فهم مخيّرون بين اتباع طريق معاضدة الحكومة في اختياراتها التي يبدو أنّها لن تحلّ المشكل بما أنّها حافظت على نفس الآليات التي كانت حكومات بن علي تعتمدها في معالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي مع بعض الاصلاحات الترقيعيّة التي لن تفضِي إلى شيء ذي بال وربما تقود الوضع الاجتماعي إلى المزيد من الاحتقان، وبين اتباع طريق ثان وعر وأقل سهولة، يحسمون من خلاله موقفهم بالانحياز الشّامل للفقراء والمحرومين والفئات المهمّشة وبالتالي التّحول إلى صفّ المعارضة حتّى ولو كان ذلك على حساب التّوافق السّياسي.
أما الطريق الثالث، وهو الأصعب لكنّه الأفضل في كلّ الحالات، فيتمثّل في السعي إلى جمع شمل مختلف القوى من حكومة وأطراف سياسيّة وإتحادي العمال والأعراف لخلق توافق اجتماعي يفضي من جهة إلى تبنّي سلّة متكاملة من الاجراءات الاجتماعية والاقتصادية والمالية مبنيّة على مبدأ «الحقوق» الذي يفرض على الدّولة وأطراف الإنتاج التّضامن في ما بينها لتلبية حدّ أدنى من مطالب الفئات المهمّشة والمحرومة التي لا يمكن التّنازل عنها وهي تشمل الجميع دون تمييز بين من هم داخل سوق العمل ومن هم خارجه مع مراعاة مبدأ المساواة. والشروع من جهة أخرى في عملية إصلاح جذري انطلاقا من النّقاط التي تتقاطع عندها المسارات الاجتماعية والاقتصادية والمالية. فإصلاح النظام الضريبي مثلا هو إحدى نقاط التقاطع التي يمكن البدء منها، فهو يحقّق مجموعة من الأهداف؛ اقتصادياً من خلال تحفيز المنتجين وكبح جماح الاقتصاد الموازي، واجتماعياً عبر المساهمة في تقليل الفوارق بين الفئات الاجتماعية، ومالياً بمنح الخزينة إيرادات إضافية. وكذلك تضييق الخناق على التهريب، واعتماد سياسة ديوانية مرنة فذلك يزيد من القيمة المضافة للقطاعات المدعومة، ويعزّز العائدات الضريبية، ويحدّ من البطالة. مع الاتجاه نحو دعم النظام المصرفي الخاصّ بقروض المشاريع الصغرى وهو ما سيساهم في تأمين آلاف مواطن الشغل بكلفة منخفضة ويساعد على مكافحة الفقر. 
إلاّ أنّ نجاح هذا الخيار يتطلب عدم اعتماد مبدأ الدعم الانتقائي الذي يسيطر السّياسيون وما يسمّى بالدولة العميقة على قنواته، وتبنّي رؤية تقوم على مبدأ الرّعاية الشّاملة، فينتظم الإنفاق حينها ضمن أطر مؤسّساتية مستقلّة نسبيّاً عن الشّبكات القديمة، ومبنيّة على قاعدة الحقوق، وهكذا يتمّ الحدّ من تفشّي الزبونيّة السياسيّة والمحسوبية والفساد. 
فهل يستطيع الإسلاميون تأدية هذا الدور، فيضغطون في اتجاه تصحيح المسار وتغييرالخيارات الاقتصادية والاجتماعية، خاصّة وأنّ الرأي العام وخاصة الشباب جعل من المسألة الاجتماعية اولويته المطلقة ووضعها خارج الاصطفافات المعهودة(5)، وهو ما يشجّع على البحث عن رؤية جديدة تضمن أوسع إجماع حولها؟ أمّ أنهم سيختارون تأجيل حسم الأزمة الاجتماعيّة التي يكتوي منها قواعدهم قبل غيرهم من أجل الحفاظ على التوافق السياسي الذي يضمن لهم حضورا وإن كان محتشما في السلطة؟
الخاتمة
وفي الختام نذكّر إخواننا في النهضة بما جاء في ديباجة قانونهم الأساسي لعلّ ذلك يفيدهم في اختيار الطريق الأسلم والمناسب في قادم الأيام : «إن إدراكنا لحقيقة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها بلادنا يجعلنا نلح على ضرورة تلازم الحلّ السياسي مع الحلّ الاجتماعي والاقتصادي إذ لا معنى للدّيمقراطية في تصوّرنا ما لم تكن ذات مضمون اجتماعي عماده تمكين جميع المواطنين من حقهم في الصحة والتعليم والشغل والعيش الكريم والحياة ضمن بيئة تضبطها قيمنا الأصيلة بما يحرر الإنسان عامة من عبودية الفاقة ومآسي الجهالة والمرض والرذيلة ...» (6). 
كما نذكّرهم ومختلف الأطراف الفاعلة في الساحة الوطنيّة أنّه في ظل غياب مشروع وطنّي يقطع مع منظومة الفساد والمحسوبية ويضع قطار العدالة الاجتماعية على السكّة باقتراحه منوالا تنمويا يأخذ بعين الاعتبار امكانات البلاد وقدراتها ويرسم أهدافا واضحة تؤدّي إلى تحقيق تنمية مستدامة وتوزيع عادل للخيرات بين الجهات، فسيبقى الغليان ميزة الوضع الاجتماعي وستنجرّ عنه فوضى قد تجهز على ما تحقّق من مكتسبات على المستوى السّياسي والتشريعي.
الهوامش
(1) نقصد هنا النهضة باعتبارها أكبر الفصائل الاسلاميّة في البلاد.
(2) من النظام الأساسي لحزب حركة النهضة - الفصل السادس -الاهداف
(3) لم تتم هذه المراجعات في تقديرنا بدفع من تطور مناهج التفكير والاجتهاد، بل تمّت بدفع من حركة التاريخ والوقائع.
(4) أكد محافظ البنك المركزي اتجاه الاقتصاد التونسي نحو الانكماش التقني والتراجع الملموس في كل القطاعات الانتاجية مع نهاية 2015 وخلال سنة 2016.(تصريح بتاريخ 5 نوفمبر 2015)  ونسبة نمو ما بين 0.5 بالمائة و1 بالمائة وهي أضعف نسبة نمو للاقتصاد في تاريخ تونس المستقلة (تصريح وزير المالية بتاريخ 30 جويلية 2015). وارتفاع نسبة البطالة لدى المتحصلين على شهادات عليا إلى ما فوق 30 % .
(5) يظهر ذلك بوضوح في الشعارات المرفوعة في الاحتجاجات الأخيرة التي تتنصل من الأحزاب وتجعل حق التشغيل فوق كل مزايدة.
(6) ديباجة القانون الاساسي لحركة النهضة. 
 -----
- مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com