الأولى

بقلم
فيصل العش
عضّوا عليها بالنواجذ...
 لن نحشر أنفسنا في الجدل الدّائر حول الثورة وماهيتها وهل ما حدث في تونس بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011 ومن بعده في العديد من الدول العربية هو ثورة أم انتفاضة أم مؤامرة، فقد أُسيل من أجل هذا الأمر حبر كثير وخُصّص لمناقشته وقت طويل. فلا داعي لخوض جدال قد يطول ويأخذ منّا جهدا نحن في حاجة ماسّة إليه حتّى نغوص في أمور أكثر أهمّية.
لن نخوض أيضا في التسميات التي أطلقت على ما حدث، فقد حسم الأمر بالنسبة إلينا على الأقل، فنحن نؤمن يقينا أنّ ما حصل ثورة ولكنّها مازالت في أشواطها الأولى وكلّ التسميات التي أطلقت عليها هي تسميات نعتزّ بها. هي ثورة الربيع العربي وإن كان ما نراه اليوم يوحي بأننا نعيش شتاء قاسيا وهل بعد الشتاء إلاّ الربيع؟ وهي ثورة الياسمين وإن سالت فيها دماء كثيرة، أوليست تونس بلاد الياسمين وهي التي اندلعت منها أول شرارات الثورات العربيّة؟ وهي ثورة «البرويطة» كما سمّاها البعض (وإن كان يريد التهكم على هذا الإنجاز والتحقير منه) أوليست «البرويطة» رمز العمل والكدّ ورمز المستضعفين قادة هذه الثورة؟. وهي ثورة الحرّية والكرامة ولا أحد ينكر أن الحرية والكرامة هي مطلب كلّ العرب والمسلمين. 
ما نريد أن نتطرق إليه في هذا المقال هو تبيان أن ما حدث في عالمنا العربي ليس ثورة فحسب بل هو بداية «انبعاث حضاري جديد للأمّة» وأنّ القادم بالرغم ما حدث خلال هذه السنين الخمسة والذي يبدو تعثّرا سيكون لفائدة الأمّة التي استأنفت دورها وانطلقت في مخاض - وإن كان عسيرا- سيؤدّي لا محالة إلى تموقعها من جديد ضمن الأمم الفاعلة وليس المفعول بها. 
صحيح أنّ أغلب الشعارات التي رفعها الثائرون لم تتحقّق بل ربّما ازداد الوضع سوءًا من هذه الناحية ممّا شجّع أعداء الثورة وأصحاب القلوب المريضة على ترويج الأقاويل التي تهدف إلى التنقيص من أهمية الانجاز العظيم الذي حصل في البلاد العربية ومن ثمّ بثّ الإحباط وغرس الندم في نفوس الجماهير الثائرة والتباكي على أيام ما قبل الثورة. وصحيح أنّ ما يحدث في سوريا ومصر وبقية الدول العربية من قتل ودمار أمر مفزع  لا تتحمّله النفس البشرية. إلاّ أنّ ما تحقّق  برغم التضييق والمحاصرة ومحاولات أهل الردّة يجعلنا نتفاءل بالمستقبل إذا ما نظرنا إلى ما حدث في أفقه العربي والعالمي بعيدا عن القطرية والمكاسب الآنيّة الضيّقة.
فأهميّة ما حدث تكمن في اكتشاف العرب أنهم ينتمون إلى جسد واحد وأنّ الأمّة لازالت واحدة برغم عمليات التفتيت والتقسيم التي خضعت لها ولا أدلّ على ذلك من أنّ الثورة التي انطلقت من تونس لم تكن في حاجة إلى مخطط تصدير منظّم لتنتشر بسرعة فكانت كالعدوى التي ما إن أصابت عضوا من الجسد حتّى انتشرت لتصيب بقية الأعضاء. وليس الثوار أوّل من اكتشف ذلك بل سبقهم إلى ذلك أعداء الثورة من العرب أنفسهم حيث سارعوا إلى  خنق هده الثورات في محاولة لوأدها حتّى لا تهزّ عروشهم وتذهب بمصالحهم. 
ولهذا فالنظر إلى الثورة بعين قطرية قاصرة أو تقييم ما حدث في بعد زمكاني ضيّق من دون أن نضعه في أفقه العربي وضمن سياقه التاريخي الحضاري لن يؤدّي إلى استنتاج أبعاده الإيجابية ونتائجه القيّمة.
القطع مع حالة الركود
قبل خمس سنوات من الآن كان الوضع العربي يتميّز بهيمنة الإستبداد بأنواعه المختلفة وغياب الحريات وتبعيّة ثقافية وعسكرية مقيتة للدول العظمى المهيمنة ولم يكن مسموح لأبناء هذه الأمة سوى التفكير في البحث عن لقمة تسدّ الرمق وبالتالي لم يكن من الممكن الحديث عن محاولات للنهوض ولا عن امكانية للإبداع. لكنّ شرارة الثورة التي اندلعت في سيدي بوزيد - وإن كان سببها الظاهر لا يخرج عن مطالب تتعلق بلقمة العيش- أدّت إلى قلب الأوضاع من المحيط إلى الخليج وأخرجت الأمّة من حالة الرّكود. كانت التعبيرات متنوعة والمشهد مختلف في الظاهر من قطر إلى قطر لكنّه كان مشتركا في الجوهر :
* اختارت تونس المسار التأسيسي والسير في مرحلة انتقالية تؤدّي إلى كتابة دستور جديد ثم المرور إلى انتخابات تشريعيّة ورئاسيّة على أساس هذا الدّستور.
* اختار الملك «محمد السادس» في المغرب تحوير الدستور الذي استفتي بشأنه المغاربة في الفاتح من جويلية 2011 في اتجاه تكريس حقوق الإنسان الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتأكيد سموّ الاتفاقيات الدولية المصادق عليها.
* في مصر نجحت ثورة 25 جانفي 2011 سلميّا في إسقاط مبارك وإنجاز انتخابات تشريعيّة ورئاسية جديدة أتت بالإخوان إلى الحكم لكن سرعان ما انقضّ الجيش على التّجربة بقيادة السّيسي وافتكّ الحكم.
* وفي ليبيا وسوريا واليمن تحوّلت الانتفاضة السّلمية الشعبيّة إلى حرب مدّمرة يتحمل فيها النظام الديكتاتوري الحاكم مسؤولية الدماء التي سالت ومازالت تسيل بشكل فضيع. لكنّ المحصّلة أن الثورة بقيت صامدة برغم التشويهات المتنوعة التي أدخلت قسرا على المسار الثوري (التدخل الأجنبي في ليبيا، تدخّل إيران والائتلاف العربي في اليمن  وداعش والتدخل الإيراني ثم الروسي والفرنسي في سوريا) 
محاولات فاشلة لتعطيل المسار
اجتهد أعداء الحراك الثوري على وأده وتعطيله وإفشاله وتحريف مساره بكل السبل الممكنة وجعله مرادفا للفوضى حتّى تنفضّ الجماهير من حوله وتقلع نهائيّا عن فكرة الثورة والحريّة،  واتخذ هذا العداء بعدا إقليميّا ودوليّا ممّا يؤكّد أنّ ما حدث ليس انتفاضات معزولة في رقعة جغرافيّة معيّنة بل هو بدايات مسار انبعاث حضاري جديد قد يعيد توزيع الأوراق ويقلب موازين قوى الهيمنة في حالة استكماله. غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل باختلاف أساليبها ومنفذيها:
* ففي تونس راهن تحالف أعداء الثورة من خلال الهرسلة والتضليل الإعلاميّ المتواصل وبثّ الفوضى وعدم الاستقرار على تعطيل عجلة التحول الديمقراطي وتشويه القوى التي اختارها الشعب لتسيير المرحلة الانتقالية وخاصّة حركة النهضة من أجل تقليص حجم الكتل المؤيدة لها. لكنّ نتائج الانتخابات الأخيرة كانت مغايرة لطموحات أعداء الثورة وتوقّعاتهم حيث فشلوا في مسعاهم لاستبعاد النهضة بالرغم من إجبارها على تقديم تنازلات كبيرة وهو ما يؤكّد وجود نواة صلب المجتمع التونسي قادرة على الصمود والدفع نحو استكمال المسارالثوري. 
* وفي مصر كان أسلوب القوى المضادّة للثورة مختلفا بحكم الاختلاف الجغراسياسي بين تونس ومصر، فكان الانقلاب العسكري الذي استدعى ظاهرة العنف بقوّة حيث عمد إلى فكّ الاعتصامات السلميّة بقوّة السلاح والقتل في رسالة ذات بعدين إثنين، الأول يتمثّل في الردع وبثّ الفزع في النفوس والثاني استدراج قوى التغيير إلى العنف بعد أن تفقد الأمل في التغيير السّلمي فيسهل التعامل معها بما أنّ العسكر باستحضاره لظاهرة العنف يستطيع تبريروجوده وفرض حكمه على الجميع بالحديد والنار. لكنّ «التحالف من أجل الشرعيّة» بقي وفيّا لخطّه السلمي ولا يزال يواصل ضغطه من أجل تصحيح المسار مسنودا داخليا وخارجيّا وهو ما يمثل كسبا ثمينا للمسار الثّوري.
* أمّا في سوريا فقد عمل الائتلاف المعادي للثّورة على التّسويق بأنّ الحرب الدّائرة هناك هي صراع بين النّظام السّوري وجماعات إرهابيّة مسلّحة في محاولة لاستبعاد قوى الثّورة الحقيقيّة التي لا تزال صامدة برغم الحصار والقصف اليومي العشوائي للطّيران الرّوسي والنّظامي. كما حاول الاستفادة من ظاهرة هجرة السّوريين إلى أوروبا لمزيد تدويل القضية وتسويقها على أنّها موت لفكرة الانتماء للوطن.
لكل ولادة آلام
المثاليون فقط يعتقدون بأنّ الأمم بإمكانها أن تتحرر من دون تضحيات ودماء، فلا ولادة دون ألم، وما حدث ويحدث في العالم العربي من سقوط ضحايا وتدمير مدن هو ضريبة الولادة الجديدة للأمّة فقد فُتحت جرّاء ما حدث نافذة للشعوب لتؤدّي دورها التاريخي في انهاء مرحلة الاستبداد في المنطقة والتحرّر من الهيمنة الغربيّة الاقتصادية والثقافية وهو إعلان لنهاية مرحلة الاستلاب الحضاري وبداية مرحلة بناء الأمّة من جديد على أسس صحيحة تستعيد معها هويّتها ودورها لقيادة الإنسانية في مهامها الاستخلافية على وجه الأرض.
لهذا فإنّنا نشاهد بوادر صراع علني حول المفاهيم الأساسية لبناء الأمّة بتعبيرتين مختلفتين لكنّهما معبّرتان وهما :
- الصراع الطائفي الذي بدأ يظهر هنا وهناك (العراق، سوريا، اليمن)
- الصراع بين تيار الهوية وتيار العلمنة ( تونس ومصر) 
هو صراع خطير لكنّه مصيري فهو الذي سيحسم «الخيار النموذجي للحياة الاجتماعية والثقافية» الذي ستتبناه الأمّة في مرحلة البناء حسب تعبير الفيلسوف أبي يعرب المرزوقي.  
لكنّ الخوف يكمن في أن يتحوّل هذا الصراع إلى حرب طائفيّة مدمّرة تأتي على الأخضر واليابس وهو ما يعمل على تحقيقه أعداء الأمّة من الداخل والخارج ولهذا فإنّ عقلاء الأمّة مطالبون بالعمل وبأقصى سرعة على تحويل مسار الصّراع من صراع بالأسلحة إلى صراع بالأفكار عبر الحوار والتّوافق.
وبما أنّ الأمّة جسم واحد فإنّ ما يحدث الآن في المشرق من تقاتل وتناحر وسفك دماء هو بصدد التّأثير على مصير الصّراع في المغرب حيث نلتمس بوضوح الحرص الكبير لبعض الأطراف لترسيخ فكرة التّوافق وحسم الصراع بين تيار الهوية وتيار العلمنة في اتجاه المحافظة على الهويّة والانخراط في الحداثة من بابها الواسع على الأقل على المستوى السياسي. ونجاح هذا المسار في تونس سيرمي بظلاله على مصير الصراع في المشرق حيث سيكتشف المتناحرون أن السبيل الأسلم للحسم هو الحوار والتوافق وأنّ التقاتل لا يؤدّي إلاّ إلى فناء الجميع. ولنا في أوروبّا خير مثال فما تعيشه شعوبها الآن من ديمقراطيّة وترسيخ لمفهوم المواطنة لم يأت من فراغ بل حصل بعد حربين عالميتين مدمّرتين خلّفت ملايين القتلى وفرضت على السّياسيين والمفكرين المتصارعين نبذ العنف كوسيلة للصّراع واستبداله بصراع سلمي يرتكز على مفهوم الدّيمقراطيّة. 
الخاتمة
لأنّ عماد الأمم هو شبابها وهو الذي استطاعت نسبة منه تحريك الماء الآسن وخلق ديناميكيّة جديدة داخل الأمّة وتحقيق مكاسب عديدة لم تكن تحلم بها من قبل، حيث أُعيدت اللحمة بين الشعوب العربية وارتفعت نسبة الإحساس لديها بالانتماء وراكمت جماهيرها خبرات في التنظم والنّضال وانكشف أعداؤها من الدّاخل بمختلف انتماءاتهم بعد تستّرهم بشعارات براقة لعقود عديدة وبدأت تتلمّس طريقها نحو غد أفضل، فإنّ الدعوة موجّهة لهؤلاء الشّباب ليتحمّلوا مسؤولياتهم في البناء كما تحمّلوها في هدم الفساد والاستبداد وهو ما يتطلّب منهم تجاوز خلافاتهم وعدم السّقوط في شراك التّشاؤم والقنوط والمحافظة على المكاسب برغم قلّتها فيعضّون عليها بالنواجذ لحمايتها من أعداء الثورة المتربصين بها الدوّائر.
-----
- مدير المجلّة.
faycalelleuch@gmail.com