الأولى

بقلم
فيصل العش
قراءة في «المؤشر العربي 2015» دور الدّين في الحياة العامّة والحياة السياسية التونسية
 مع نهاية سنة 2015، صدر عن المركزالعربي للأبحاث ودراسة السياسات(1) تقريره السنوي «المؤشر العربي» (2) الذي تضمّن نتائج استطلاع للرأي نفّذ في 12 بلدا عربيّا(3) يعادل حجم سكّانها 90 % من عدد سكان المنطقة العربيّة بهدف الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي حول مجموعة من المواضيع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويعتبر استطلاع سنة 2015 الذي نفّذ على عيّنة بلغ حجمها 18311 عربيّ ( من بينها 1497 تونسيا وتونسية) خلال الفترة ما بين شهري ماي وسبتمبر الرابع من نوعه بعد استطلاعات 2011 و2012/2013 و2014. وشمل التقرير ثمانية محاور أساسيّة تتعلّق بتقييم الأوضاع العامّة بكل بلد من بينها «دور الدّين في الحياة العامّة والحياة السياسية». ولأهمّية هذا المحور واحتلاله صدارة الاهتمام على المستوى الوطني والاقليمي والعالمي، فقد ارتأينا تسليط الضوء على ما جاء فيه من مؤشرات تهمّ تونس وتحليلها ومقارنتها ببقية الدول العربيّة حتّى يتسنّى للقارئ معرفة مواقف الرأي العام التونسي من هذه المسألة.
أولا :التديّن والمُمارسات الدّينيّة
تشهد المنطقة العربية منذ أمد بعيد نقاشا متكرّرا عن دور الدّين في الحياة العامّة والحياة السياسية، وفي أحيان كثيرة يقع الخلط بين دور الحركات السياسيّة الإسلاميّة ودور الدّين والتدين في المجتمعات العربية. وقد سعى المؤشّر العربي منذ انطلاقه في عام 2011 إلى معرفة اتجاهات الرأي العام حول دور الدّين في الحياة العامّة والحياة السياسية في المنطقة العربية، ودرجة تأثيره بوصفه عاملا محددا في نشاط المواطن الاجتماعي والسياسي عبر تضمين استطلاع المؤشر مجموعة من الأسئلة المتنوعة حول الدّين والتديّن.
تبيّن من خلال «المؤشّر العربي» أن نسبة المتدينين(4) في المجتمع التونسي في ازدياد مقارنة بما كانت عليه سنة 2011 حيث ارتفعت من 69 % إلى 85 % . غير أن تونس حافظت على موقعها في ذيل القائمة العربيّة بأضعف نسبة «للمتدينين جدّا» برغم تضاعف هذه النسبة (من 5 % إلى 10 %) مقارنة بـ 2011. وبالرغم من انخفاض نسبة «غير المتدينين» من 28 % إلى 13 %، فإنّ هذه النسبة بقيت مرتفعة مقارنة ببقية الدول العربيّة (الثالثة بعد لبنان بـ 21 % والجزائر بـ 17 %). والملفت للانتباه هو النسبة المرتفعة جدّا « للمتديينين إلى حدّ ما» من التونسيين وهي ثاني أعلى نسبة عربية بعد الأردن ويقدّم هذا فكرة عن طبيعة تديّن التونسيين ومدى حضور الدّين والفكر الديني في المجتمع وعن خصوصيّة علاقة أكثريّة التونسيين بالتديّن التي تتميّز برفض الأفكار المتشدّدة في تفسير الدّين. ويتأكّد ذلك فيما أبرزه اتجاه رأي المستجوَبين التونسيين حول «الشّرط الأهمّ الذي يجب توفّره في شخص ما حتى يُعدّ متديّنا» إلى الصدق والأمانة وحسن معاملة الآخرين (نسبة 50 %) في حين لم تتعدّ نسبة الذين يرونه في إقامة الفروض والعبادات الـ  29 % . كما يبرز أيضا في موقف التونسيين تجاه «غير المتدينين» إذ تصدروا قائمة العرب الرافضين تأييد مقولة «إنّ كلّ شخص غير متديّن هو بالتأكّيد شخص سيّء» بنسبة بلغت 92 % وجاؤوا في المرتبة الثانية بعد اللبنانيين في تأييدهم بشدّة لمقولتي «ليس من حقّ أيّ جهة تكفير الّذين يحملون وجهاتِّ نظر مختلفة في تفسير الدّين» و«ليس من حقّ أيّ جهة تكفير الّذين ينتمون إلى أديان أخرى» بنسبة 60 % وهي نسبة مرتفعة جدّا مقارنة مع مثيلتها في دول المغرب العربي ( الجزائر والمغرب وموريتانيا).
 ثانيا :الدّين في الحياة العامّة
جرى اختبار أثر التدين في المجتمع ، باعتباره عاملا محدّدا لنشاط المستجوَبين وسلوكهم في الحياة العامة، من خلال فحص اتّجاههم نحو التعامل في مختلف المجالات مع المتدينين وغير المتدينين ونحو اعتبار المُمارسات الدينية مُمارسات خاصة يجب فصلُها عن الحياة الاجتماعية والسياسية أم لا.
بالرغم من اعتبار التونسيين أنفسهم بأنّهم «متدينون إلى حدّ ما»، فإنّ ذلك لم يتحوّل إلى عامل محدّد في تعاملهم مع الآخرين، إذ أفاد 85 % من المستجوًبين بأنه لا فرق لديهم في التعامل مع أشخاص متديّنين أو غيرمتديّنين مقابل 7 % منهم فقط يفضلون التعامل مع أشخاص متديّنين، ومثلهم يفضّلون التعامل مع أشخاص غير متديّنين.
ويوافق 68 % من التونسيين (منهم 39 % يوافقون بشدّة) على مقولة «أنّ المُمارسات الدّينيّة هي ممارسات خاصّة يجب فصلها عن الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة». 
ثالثا :الدِّّين والحياة السّياسيّة
لم يكن الدين في يوم من الأيام بعيدا عن السّياسة في تونس بل يمكن القول بأنّه كان ملازما لها في أغلب الأحيان وما وجود حزب ذي مرجعية إسلامية مشاركا في السّلطة وله تمثيلية مهمّة داخل البرلمان إلاّ دليلا على ذلك. غير أنّ موقف التونسيين الذي أبرزته نتائج المؤشر العربي يتجه نحو تأييد مقولة «فصل الدين عن السّياسة» حيث ارتفعت نسبة التونسيين الذين يؤيدونها إلى الثلثين منها  40 % من المؤيدين بشدّة في حين بلغت نسبة الرافضين لها 31 % نصفهم رافض بشدّة وهي نسبة معتبرة بالرغم من أنّها من أضعف النسب العربيّة.
ويصبح موقف التونسيين أكثر وضوحا عندما يتعلّق الأمر بعلاقة الدّين بالسّياسة في الممارسات العمليّة كتأثير رجال الدّين أو المشائخ في القرارات الحكومية أو كيفية تصويت الناخبين أو استخدام الدولة الدّين في الترويج لسياساتها، أواستخدام المرشحين الدّين في الانتخابات، أو تفضيل تولي المتدينين المناصب العامة في دولهم. 
فالتونسيون من أكثر العرب - بعد لبنان - رفضا لدعوة تولّي المتديّنين المناصب العامّة في الدّولة حيث بلغت نسبة الرافضين 69 % أكثر من نصفهم من الرافضين بشدّة، ويرى 90 % من المستجوَبين التونسيين أنّه لا يحقّ لمرشّحي الانتخابات استخدام الدّين من أجل كسب أصوات الناخبين فيما يرى 86 % أن على رجال/ شيوخ الدّين عدم التّأثير في كيفيّة تصويت النّاخبين ويؤيّد التونسيون بنسبة 88 % منع الحكومة من استخدام الدّين للحصول على تأيّيد الناس لسياساتها.
 وقد يُفسر هذا التوجه لدى التّونسيين بمفهومهم لدور الدّين في السّياسة الذي لا يُقصد به دور القيم الدّينية الأخلاقية، وانّما الدور العملي للدّين من خلال المؤسسات أو الشخصيات الدينيّة، إذ يبدو اتجاه الرأي العام منحاز إلى عدم تدخّل الدّين، مؤسسة ورجال دين ، في مُمارسات المواطنين السّياسية.
رابعا :موقف الرأي العامّ من الحركات الإسلامية السياسية
لإن كان اتجاه الرأي العام التونسي منحازا بصفة جليّة إلى عدم تدخّل المؤسسات الدينية في الشأن السّياسي، فإنه انقسم حول موقفه من الحركات الاسلاميّة السّياسية إلى فريقين لم يتجاوز الفارق بين نسبتيهما 6 % حيث أكّد 46 % من المستجوبين تأييدهم لهذه الحركات في حين عبّر52 % عن مخاوفهم من زيادة نفوذها أو صعودها إلى الحكم. وتتمثّل هذه المخاوف في انتشار التّزمت والتّعصب والتّشدد (22 %) والتطرف والفوضى(19 %) ولم تمثّل المخاوف من الاستبداد بالحكم والهيمنة على السّلطة من طرف الاسلاميين لدى المستجوَبين سوى 6 % فقط وهي أضعف نسبة لدى العرب على عكس الأردنيين(32 %) والمصريين (17 %) والسودانيين (15 %) وقد يعود سبب ذلك إلى تصرف «حزب حركة النهضة» عند حدوث أزمة الحكم في السنوات الأخيرة وقبولها التخلّي عن الحكم من خلال الحوار الوطني.
وتجدر الإشارة إلى أنّ نسبة التونسيين الذين عبّروا عن تقبّلهم استلام حزب سياسي إسلامي السُلطة إذا حصل على عدد من الأصوات يؤهّله لذلك ضمن انتخابات حرة ونزيهة قد بلغت 70 % وهي نسبة هامّة تعبّر عن تمسّك التونسيين بالديمقراطية وبالانتخابات كطريقة وحيدة لاستلام الحكم. 
خامسا :استخلاصات
من خلال ما جاء في تقرير «المؤشر العربي» لسنة 2015 حول دور الدّين في الحياة العامّة والحياة السياسية يمكن أن نستخلص ما يلي :
* إن الدّين له مكانة مهّمة ومركزية في مجتمعات المنطقة العربية، وخاصّة في تونس وإنّ توصيف الرأي العام التونسي لمستوى تديّنه في استطلاع المؤشر لعام 2015، مقارنة بـ 2011 يشير إلى ارتفاع ملحوظ في نسبة التديّن مقابل انخفاض نسبة غير المتدينين. مع تميّز نوعيّة التدين باعتبار «الصدق والأمانة» أهمّ شروطه متجاوزا «إقامة الفروض والعبادات» بنسبة معتبرة.
* في مقابل ذلك، كان التّونسيون أكثر صرامة من بقية العرب (ماعدى لبنان) في تأكيد عدم تدخّل المؤسسات أو الشخصيات الدينيّة في العمل السياسي الميداني كالانتخابات وبرامج الحكومة، لكن نسبة كبيرة منهم لا ترى مانعا في استلام حزب إسلامي الحكم إذا ما حقّق ذلك عبر انتخابات نزيهة.
* تعتبر نسبة التونسيين الذين عبّروا عن مخاوفهم من زيادة نفوذ الحركات السياسية ذات المرجعيّة الإسلاميّة هامّة جدّا وهي مخاوف ذات أبعاد فكرية وثقافيّة (انتشار التّزمت والتّعصب والتّطرف) ممّا يجعل مهمّة هذه الحركات صعبة من أجل تبديد هذه المخاوف خاصّة مع بروز الحركات الاسلاميّة المتطرفة التي اتخذت العنف منهجا وسبيلا وهو ما يفرض عليها اتباع أحد الخيارين:
- إمّا القيام بعمل فكري وثقافي كبير في جانبيه النظري والميداني من أجل بناء تواصل وتفاعل إيجابي مع التونسيين يستفيد من طبيعة تديّنهم ويمحو ما تعلّق بمخيلتهم لسنوات طوال من أفكار سيئة ومشوّهة عن الإسلاميين نتيجة عصف إعلامي وسياسي كبير من طرف النظام البورقيبي والنظام النوفمبري المستبد.
- أو التخلّي عن المرجعيّة الاسلاميّة إلى الأبد وهو ما نراه صعبا في هذه المرحلة بالذّات.
* من الأرقام المفزعة التي وردت في «المؤشر العربي» لسنة 2015 نسبة التونسيين الرافضين لاستلام حزب إسلامي السلطة عبر انتخابات ديمقراطية نزيهة (28 %) ونسبة الرافضين لاستلام حزب علماني السلطة بنفس الطريقة (30 % والتي كانت  تساوي 22 % سنة 2011). هذه النسب تدلّ على أنّ طريق الديمقراطيّة مازال طويلا وأن عملا كبيرا مازال في انتظار النخب لقبول تداول السّلطة مع أصحاب الفكر المخالف.
الهوامش
(1) المركز العربي للأبحاث ودارسة السياسات مؤسسة بحثية عربية للعلوم الاجتماعية والعلوم الاجتماعية التطبيقية والتاريخ الإقليمي والقضايا الجيوستراتيجية - مقرّه الدوحة.
(2) يمكن تحميل «المؤشر العربي» لسنة 2015 في صيغة «pdf» عبر موقع المركز «www.dohainstitute.org»
(3) وهي تونس وموريتانيا والجزائر والمغرب ومصر والسودان والعربية 
السعودية والكويت ولبنان والأردن وفلسطين.