الأولى

بقلم
فيصل العش
رسالة إلى رسول الله
 سيدي وحبيبي يا رسول الله،
 لقد بعثك الله رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا لكلّ البشر، مؤمنهم وكافرهم، فخاطبك بقوله: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(الأنبياء - الآية 107 ) وبقوله : «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا»(الأعراف - الآية 158 )، وقوله سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا»(سبأ - الآية 28 ). فقد كنت الرحمة المهداة من الله عزّ وجلّ إلى عباده جميعا، فهدى على يديك خلقا كثيرا فأصبحوا مؤمنين، ودفع بك عن الكفار والمشركين عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبلك ولم يعاجلهم بالعقوبة وأنت فيهم فقال: «وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (الأنفال - الآيتان 32-33). ولكنّك اليوم لست فينا  فمن سيحمينا من عذاب الله، وقد شوّه الكثير منّا رسالتك واحتكرها ليصنع منها سلاحا يحارب به الآخرين ويرعب بها  خصومه ويتحكّم من خلالها في رقاب الناس؟ 
سيدي وحبيبي يا رسول الله،
معذرة، فقد حمل رايتك من لا يعرف قدرها، غلاة لا يعرفون الرّحمة، فصنعوا منها خلفيّة فيديوهات جرائمهم التي ارتكبوها وهم اليوم يعلنون دولة الخلافة على جماجم الأبرياء والعزّل من المسلمين وغير المسلمين .
سيدي وحبيبي يا رسول الله،
لقد أسند الأمر بالمعروف إلى غير أصحابه وانتصب متكلّما فيه من لم يجمع بين العلم والحكمة والصّبر، وهيمن على الدّين رجال لا يعرفون منه إلاّ التّحريم والمنع، ليس لديهم من صفاتك إلاّ القليل، فقد كنت تعالج المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة وتعامل المخطئ برفق ولين وحسن خطاب، ملتزما بقول ربّك «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(النحل - الآية 125 ) فكنت تخاطب الناس بما يفهمون، كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده. ولكنهم اليوم يعالجون المنكر بمنكر أشدّ منه وأعظم وزرا، حيث وُئدت الحكمة والموعظة الحسنة وحلّ مكانها التشدّد والغلظة. ضيقوا على أنفسهم وعلى النّاس فضيق الله عليهم.
علمتنا أن تكون الدّعوة إلى الله بالرِّفق واللِّين، لا بالقسوة والشّدة والعنف. وأنّ الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلام لطيف سهل رقيق، ليس فيه ما يغضب وينفر. لكنّ قوما منّا تنكّروا لذلك وحرّفوا «التّرغيب والتّرهيب» فانبروا يوزعون على بعض النّاس مقاعدَ في السّعير ويمنعون الجنّة عن آخرين. ينظرون إلى ذنوب النّاس كأنّهم أرباب ويبخلون برحمة الله على خَلْقه، رافضين أن يكونوا مثل من قال فيهم ربّ العزّة: « وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» (الحشر - الآية 10).
سيدي وحبيبي يا رسول الله،
ما عرفت البشرية قائدا مثلك، فكل القادة العظام في العالم يتّجهون إلى الحزم والتشدّد في فرض سلطتهم وإراداتهم إلاّ أنت، فقد كانت الرّحمة والرّفق والحوار منهجك في معاملة أتباعك، ولا عجب فقد امتدحك الله تعالى بقوله: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم - الآية 52 ). أتذكّر كيف تعاملت مع  الأعرابي الذي تبوّل في مسجدك، فاستاء الصحابة، وطالب بعضهم بقتله، فالجرم عظيم، إنّه ينجّس مسجد رسول الله (صلى الله عليه سلم) وفي حضرته. ولكنّك وضحت لهم أنّ الأمر أبسط بكثير من مشاعرهم، وطالبتهم بسكب الماء على البول ليتطهّر المكان(1). كنت حكيما إذ اتبعت منهجا  يقوم على التّبسيط في كل مناحي الحياة، والرّفق بمن حولك بدل العنف وتعقيد الأمور، ألست القائل : « إن الله رفيق يحبّ الرّفق. ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف. وما لا يعطي على ما سواه»(2). غير أنّ عبادا يدّعون انتسابهم إليك وإلى دينك لم يستوعبوا حكمة منهجك، فبدّلوا الرّفق بالغلظة والحوار بالصّدام والتّسامح بالتشدّد، فشوّهوا بذلك صورة الدّين الذي بعثت به رحمة للعالمين وقد استغل أعداؤك جهل هؤلاء ليسوّقوا صورة مشوّهة عنك وعن دينك فغدا الإسلام رديف الإرهاب والعنف في نظر الكثيرين. 
سيدي وحبيبي يا رسول الله،
نعلم حجم حبّك لنا واشتياقك الذي تكنّه لنا، أفلست القائل: «اشتقت لأحبابي» فلمّا سألك الصحابة قائلين: «أولسنا أحبابك؟» أجبتهم: «لا أنتم أصحابي، ولكن أحبابي قوم آمنوا بي ولم يروني». أترانا اليوم أهلا لهذا الحبّ الذي غمرتنا به؟ وقد ضيّع أكثرنا الأمانة ولبس ثوب النّفاق والخيانة؟ أترانا نبادلك نفس الحبّ وقد سكت أغلبنا عن الظلم والظّالمين وساروا في ركبه مفتخرين لا يَعْبَؤُونَ بقتل الأبرياء وتعذيب الشّرفاء، متناسين قولك «مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ»؟ (3) أتراك لو كنت بيننا الآن، هل كنت سترضى عمّا يفعله السّواد الأعظم من أمّتك؟ عن سلوكهم في مراكز عملهم وفي بيوتهم؟ عن تعاملهم مع جيرانهم وأبنائهم وشركائهم في الوطن؟ 
عفوا حبيبي، فلسنا أهلا لحبّك وقد عكسنا آية ربّك فأصبحنا رحماء مع الأعداء، أشدّاء على بعضنا البعض، نستعين بأعدائك ونتآمر معهم على أبناء جلدتنا، ندمّر مدنهم وقراهم ونشرّد بعضهم من ديارهم ونحاصر البعض الآخر فنمنع عنهم الدّواء والغذاء. لسنا أهلا لحبّك وقد ضيّعنا بيت المقدس وصافحنا المغتصب واعترفنا به سرّا وجهرا...
سيدي وحبيبي يا رسول الله،
لقد بعثك ربّي لتوّحد العرب وتجمع حولهم الأمم في مشروع أمميّ عالمي جوهره التّوحيد، لا يفرّق بين أبيض وأسود وأصفر وأحمر ويرتّب النّاس حسب أعمالهم لا حسب نسبهم ومالهم. ألست القائل : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى»؟(4). لكنّ المسلمين من بعدك سرعان ما انحرفوا عن المسار الصحيح فانقسموا إلى طوائف وفرق تكفّر بعضها بعضا، فمنهم المعتزلة والصفاتية والقدرية والجبرية والمرجئة والوعيدية والشّيعة والخوارج وأهل السنّة والجماعة... وكلّما تقدّم الزّمن إلآّ وازداد عدد الطّوائف والنّحل حتّى غدا «الشيعة» أنواعا وأشكالا وانقسم «أهل السّنة والجماعة» إلى جماعات وملل لا تحصى ولا تعد، وها نحن نعيش اليوم جزءا من مآسينا نتيجة هذا التّناحر والتّنافر بين الطوائف والجماعات التي تدّعي كل واحدة منها انتسابها إليك وارتباطها بدينك.
لم تكن شيعيّا ولا سنّيا ولا درزيّا ولكن كنت حنيفا مسلما،  فهل من سبيل إلى العودة إلى نبعك الصافي؟ وهل من طريق إلى إحياء مشروعك الإنساني المؤمن بالتّعدد والتنوع؟
سيدي وحبيبي يا رسول الله،
لقد بعثك الله مربّيا للبشرية من خلال سلوكك، فقد كنت «قرآنا يمشي» و«كان خلقك القرآن» وكنت برغم مقام نبوتك متواضعا بسيطا تعيش مع الفقراء وتشاركهم جوعهم. كنت في حياتك عابدا، زاهدا، مجاهدا، وكنت لا تأمر بخير إلا وتكون سابقا لفعله. كان يمكن أن تكون غنيّا ويكون لك قصرا ولا غرابة، فأنت نبي الله ورسوله وأحب الخلق إليه، لكنّك خيّرت أن تعيش مسكينا وتموت مسكينا لتكون قدوة للبشر حتّى لا يتكالبوا على الدنيا فيتقاعسوا عن المهام التي خلقوا من أجلها. ألست الذي كان يدعو ربّه «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (5)؟ ألست الذي أبكى عمر حين رآك مضطجعا على حصير، وأثر الحصير على جنبك الشريف، فقال: «رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير»، فأجبته: «يا عمر، أنا لست ملكاً، إنما هي نبوة وليست ملكاً»؟ (6). ألست من أمر أبا ذر - رضي الله عنه بحب المساكين والدنو منهم، وأمرته أن ينظر إلى من هو دونه ولا ينظر إلى من هو فوقه، وأمرته أن يصل الرحم ولا يسأل أحداً شيئاً، وأمرته بأن يقول بالحق وإن كان مُرّاً، لا يخاف في الله لومة لائم (7) ، فكيف يدّعي جماعة من الفقهاء وعلماء الدّين انتماءهم إليك وهم يعيشون في القصور ويلبسون أرقى الملابس ويرتادون النزل والمطاعم الفاخرة؟ أي فقه وأي دين يبشرون به وهم يعلمون جيّدا أن نسبة كبيرة من أمّتك تعيش تحت خط الفقر لا تجد ما تأكل وما تشرب فلا يحرّكون ساكنا؟ أي فقه وأي دين يبشرون به وهم يتابعون أخبار إخوان لهم في غزّة وقد ضاقت بهم السبل وأغلقت عليهم جميع المنافذ، بحرها وأرضها وجوّها، ووقف الجميع ضدهم يمنعون عنهم الماء والغذاء والدواء ولا أحد منهم يحرّك ساكنا؟ لقد تناسى هؤلاء عبارتك الموجزة وألفاظك الواضحة القوية التي كرّرتها على مسامع أصحابك «ثلاث مرات»، نافياً عن صاحبها مظاهر الإيمان وشواهده ودلائل التوحيد وبواعثه، فاستفسر الصحابة مستنكرين ومتعجبين قائلين: «مَن هو يا رسول الله؟» فأجبت قائلاً: «مَن بات شبعانا وجاره جائع وهو يعلم» (8).
سيدي وحبيبي يا رسول الله،
أتساءل لماذا نعيش الوهن والتخلّف والضّلال وقد قلت لنا في خطبة الوداع : «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ»؟ ليس لدينا ما نقول يا رسول الله إلاّ ما أجابك به أصحابك «نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ»(9) فالعيب فينا يا رسول الله، لأننا لم نحسن الإعتصام بكتاب الله ولم نقدر على فهم أسراره وحكمه. انقسمنا إلى فسطاطين، ترك أحدهما القرآن جانبا واتخذ من هيمن بفكره وعسكره على العالم قدوة ونموذجا يسعى للالتحاق بركبه وأسرع الآخر إلى القرآن يفهمه بعقل الأولين، فحاول تقليدهم في عاداتهم وأفعالهم، متناسيا فارق الزمان والمكان فعجز عن فهم عصره والفعل فيه.
سيدي وحبيبي يا رسول الله،
تحلّ علينا ذكرى مولدك ونحن في معيشة ضنكا، وقد غزا الوهن قلوبنا وتداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، لا نعرف أين المسير ولا كيفية التدبير. ولكنّنا سنحتفل بها برغم كلّ المآسي لعلّها تكون مناسبة نرتوي فيها من رحيقك المختوم ولحظة نراجع فيها أنفسنا ومقدار محبّتنا لك، لنسير بعدها على هديك حتّى نلاقي ربّنا مهما تكاثرت الفتن وازدادت علينا البلايا والمحن.
الهوامش
(1) من حديث رواه البخاري عن أبي هريرة 
(2) رواه مسلم - 2593
(3) أخرجه الحاكم
(4) رواه أحمد - 22978
(5) السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم 308
(6) من حديث البخاري 4913
(7) من حديث رواه أحمد برقم 20447
(8) من حديث رواه الطبراني في الكبيرعن أنس بن مالك
(9) رواه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه
-----
- مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com