الأولى

بقلم
فيصل العش
الحرب على الإرهاب أم الإنتصار عليه؟
 إذا كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 الارهابيّة بنيويورك قد شكّلت منعطفا خطيرا في تاريخ السّياسة الدّولية، حيث استغلّتها «الولايات المتحدة الأمريكيّة» لتبتكر مصطلح «الحرب على الإرهاب» وتطلق يدها لتغيّر الخريطة السّياسية في مناطق عديدة من العالم في اتجاه تحقيق مصالحها، فإنّ أحداث باريس الأخيرة لها حتما انعكاسات أخطر بكثير من سابقتها لا يمكن التكّهن بحجمها ومداها سواء داخل فرنسا أو خارجها. فما نراه ونشاهده على السّاحة الفرنسية وصداه في خارجها ينذر بتغييرات عميقة في السّياسة الدّاخلية لفرنسا وبالتالي للاتحاد الأوروبي في اتّجاه التّضييق على الحرّيات وهضم الحقوق الفرديّة بتعلّة الأمن القومي سيكون ضحيتها المسلمون سواء كانوا فرنسيين أو مهاجرين. كما أنّ انطلاق الحملة العسكرية الفرنسيّة على ما يسمّى بتنظيم داعش بشكل مكثّف دليل على اتجّاه فرنسا نحو الانغماس أكثر في الحرب وهو ما يطرح عدّة تساؤلات أهمّها: هل تبنّي «الحرب على الإرهاب» والانخراط فيه بالشّكل الذي نلاحظه سيحلّ المشكلة وسيقضي على الإرهاب ويستأصله؟ أمّ أنّ ذلك سيغذّي الإرهاب ويشد من عوده ويمكّنه من حجج لاستقطاب أكبر للشباب المسلم لينخرط في ما تسمّيه الجماعات الإرهابيّة حربا مقدّسة ضدّ الصليبيين من أجل إقامة الخلافة وتحكيم شرع الله؟ وهل أنّ «الحرب على الإرهاب» تعني التخلّي عن مبادئ فلسفة الأنوار التي قامت عليها الحضارة الغربيّة واعتماد الإرهاب لكسر شوكة الإرهاب؟ أم هناك  طريق آخر  قادر على قهر الإرهاب والقضاء عليه، على العقلاء وأصحاب المبادئ الأوروبيين أن يسلكوه؟ وأيّهما أفضل الحرب على الإرهاب أم الانتصار عليه؟
الحرب على الإرهاب  والنتائج الكارثية 
أعلن بوش الإبن «الحرب على الإرهاب» ردّا على أحداث 11 سبتمبر 2001 من دون أن يضع إطارا قانونيا واضحا لهذه الحرب وحرّك جيوشه من دون انتظار إذن المنظمات الدولية التي لم تعد الولايات المتحدة الامريكية  في حاجة إليها لتنفيذ مخططاتها و تحوّل مصطلح «الحرب على الإرهاب» إلى عنصر استراتيجي في السياسة الخارجيّة الأمريكيّة تعتمد عليه في مطاردة من تراهم يمثلون خطرا على أمنها القومي أو عائقا لتحقيق اجندتها في العالم. وقد اعتمدت في حربها هذه على شتّى الوسائل وأقنعت حلفاءها الأوروبيين بالانخراط في هذا التوجّه الذي أدّى إلى إسقاط دول وتغيير أنظمة بتعلّة دعمها للإرهاب لكنّ الهدف المعلن الذي تمثّل في القضاء المبرم على الجماعات الارهابيّة المتشدّدة لم يتحقق بل أنّ النتائج التي أفرزتها هذه الحرب المدمّرة كانت في غاية السّلبية والخطورة حيث عمّت الفوضى أفغانستان والعراق والصومال وسوريا وليبيا وتقوّت شوكة الإرهاب وازدادت وحشيته ليتحوّل من مجموعات مقاتلة متحصّنة في الجبال إلى تنظيم محكم أعلن دولته في أكثر من  نصف مساحة سوريا وأجزاء كبيرة من العراق وأصبح بمقدوره ضرب مصالح أعدائه في عقر دارهم وفي أكثر من موقع وأكثر من مناسبة وما حدث في باريس خلال هذا العام دليل صريح على ذلك.
إن الحرب على الإرهاب بنظام انتقائي لا يخدم إلاّ الإرهاب ويشكّك في نوايا الدّول التي أعلنت ذلك وانخرطت فيه. فالسّكوت على ما حدث ويحدث باستمرار في فلسطين من أعمال وحشيّة ارهابيّة من طرف الصهاينة بل والدّفاع عنها والسّكوت عن المجازر الرّهيبة التي نفّذها نظام الأسد في بدايات الثّورة في سوريا ومازال ينفذها والتّصفيق لانقلاب السّيسي في مصر الذي أسقط نظاما منتخبا وقتل مئات من المصريين بدم بارد ومازال يفعل ومحاصرة الثورات العربية وحبك الدّسائس ضدّها من أجل إفشالها، والسكوت عن مجازر بورما وما يحدث في افريقيا الوسطى وبعض الدّول الأخرى من إرهاب منظّم يستهدف المسلمين أين ما وجدوا، كلّ هذه العوامل هي التي مكّنت تنظيم الدّولة والجماعات الموالية له من استقطاب آلاف الشّباب من مختلف الأقطار والأمصار. 
إنّ ما تفعله أمريكا وبعض الدّول المؤيدة لها ليس حربا على الإرهاب بل تدعيما له وهي في الحقيقة لم تفكّر يوما في القضاء على الإرهاب ولنا أن نسأل كيف سمحت بتمدّد تنظيم الدّولة على جزء كبير من أرض سوريا من دون أن تحرّك ساكنا بل باعت له السّلاح مقابل النّفط الذي يصدّره من المناطق التي هيمن عليها؟ ولماذا فشلت غاراتها التي لا تحصى ولا تعدّ في القضاء عليه؟ أليست تمارس التّضليل بخلق مخاوف وهميّة لتوسيع نطاق هيمنتها وتنفيذ مخططاتها؟
وما تفعله فرنسا اليوم(1) من شنّ هجمات على الرقّة معقل «تنظيم الدولة» لن يزيده إلاّ صلابة وقوّة، لأنّه سيستثمر ذلك في جلب مزيد من المتعاطفين والمتطوّعين، فهذه الهجمات قد تصيب بعض مقاتلي التّنظيم لكن العدد الأكبر من ضحاياها سيكون أطفالا ونساء من المدنيين السّوريين لا ذنب لهم سوى أنهم يقطنون مدينة «الرقّة» وهم الذين سيدفعون ثمن هجمات التنظيم في باريس. وفي هذا يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي «إن القتل الغاشم للمدنيين الأبرياء هو إرهاب وليس حربا على الإرهاب» .
الإنتصار على الإرهاب
إن مَن يدَّعي القضاء على الإرهاب بالحرب إنّما يضلِّل نفسه ويضلّل العالم معه والانخراط في منطق الفعل وردّ الفعل لن تجني الانسانية منه غير الدّمار والمآسي ولهذا وجب وضع طرح آخر مختلف ينقذ العالم من داء الإرهاب ويفتح للانسانية الباب على مصراعيه نحو السّلام . طرح يدعو إلى «الإنتصار على الإرهاب» ويرتكز على محاور ثلاثة :
(1) فهم أسباب الإرهاب وطبيعته وأهدافه والجذور التّي تغذّيه:
إنّ الانتصار على الإرهاب واستئصاله يمرّ حتما بفهم أسبابه وأهدافه والاجتهاد في فهم طبيعة الجذور التاريخيّة والإجتماعية والفكرية والسياسية التّي تغذّيه. فهذا الفهم يسهّل إيجاد التدابير الكفيلة باجتثاثه من جذوره وتحرم منفِّذيه من الأسباب التي يتذرعون بها لتبريره مهما كان نوع تلك الأسباب، وهكذا «يكون في الإمكان إضعافُ القاعدة الشعبية التي يحتاج إليها الإرهابُ أيما حاجة إضعافًا طويل الأمد. فالإرهاب كثيرًا ما يتأصل في تربة سمادها الظلمُ والإذلال والإحباط والبؤس وفقدان الأمل (...) ولهذا فليست الحرب هي التي يجب القيام لها، بل العدل هو الذي ينبغي بناؤه»(2) أليس من العدل أن تكفّ الولايات المتحدة الأمريكيّة وحلفاؤها الأوروبيون عن التوسع الاستعماري وفرض عولمة ظالمة تهمّش المجتمعات وتمحق الثقافات؟ أليس من العدل أن تراعي هذه الدّول خصوصيات المجتمعات الفقيرة وتساهم في تنميتها عوضا عن نهب خيراتها والتحكم في ثرواتها؟ أليس من العدل أيضا إحترام ثقافة وسيادة الشعوب الاسلاميّة بتمكينها من حريتها في تقرير مصيرها والكفّ عن التدخل في شؤونها الداخلية؟ أليس من العدل عدم مساعدة الأنظمة الإستبداديّة في قمع شعوبها والتخلّي عن الدّفاع عن الكيان الصهيوني ودعمه مع فضح جرائمه في حقّ أبناء فلسطين ومقدساتهم؟
إنّ الذين خططوا لتفجيرات باريس لم يأتوا من الرقّة وإنّما هم فرنسيون ولدوا وترعرعوا في فرنسا فلماذا لا يتساءل الفرنسيون عن سبب هجرة الآلاف منهم إلى داعش للقتال في صفّها والعودة إلى فرنسا للقيام بأعمال تخريبية فيها؟ ألا يمكن أن يكون السبب غياب العدل داخل فرنسا نفسها وخاصة تجاه الفرنسيين ذوي الأصول الاسلاميّة؟
إنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة وحلفاءها الغربيين بتجاهلهم لسبيل تحقيق العدل وانخراطهم في الحرب على الإرهاب بالأسلوب الذي نراه اليوم إنّما هو تدعيم للإرهاب والدفع نحو مزيد من القتل والتفجير والدمار ليس في المدن العربيّة فحسب بل في مدنهم   وبين ظهرانيهم
(2) عدم التعرض إلى عدوى ايديولوجيا العنف
إن الحامل الرئيسي للإرهاب هو إيديولوجيا العنف التي تبرِّر القتل وهو يتنكر بذلك للقيم الرفيعة للحضارة الإنسانية التي تستوجب احترامَ الذات البشرية وحقها في الحياة وبالتالي فإنّ «الدفاع عن هذه القيم تحديدًا يعني أولاً احترامها لدى اختيار الوسائل المطبَّقة للدفاع عنها ورفض الانصياع لمنطق العنف القاتل (...) وهذا يقتضي الإقلاع عن العمليات العسكرية التي تتضمن حتمًا قتل أبرياء. لأنه، من غير ذلك، تجازف الديمقراطيات بأن تقترف السيئات نفسها التي تأخذها هي على الإرهابيين، ناهيكم أنها بذلك لا تنفكُّ تُخصِبُ التربة التي يقتات عليها الإرهابُ وينمو. فحين يتحدى الإرهابُ الديمقراطيات راميًا إلى زعزعتها، ينبغي عليها محاربته وفقًا لإستراتيجية منسجمة مع فرائضها الخاصة ومعاييرها، دون اقتباس أيِّ شيء من تخرصات الإرهابيين. ينبغي عليها أن تدافع عن نفسها بالنزول بعزم إلى الميدان الذي هو ميدانها هي – ميدان القانون – وأن ترفض الانقياد إلى ميدان الاعتباط الذي ينفي القانون».(3) 
ولأنّ من حقّ الدّول الغربيّة حماية شعوبها من الأعمال الإرهابية بل ذلك واجب على عاتقها، فإنّ ذلك لا يتمّ بتحريك الجيوش وتبنّي نفس أسلوب الإرهابيين بل بتدابير أمنية محكمة وبتطوير أجهزة المخابرات وتكثيف الجهود لاكتشاف الشبكات الإرهابية وفرط عقدها مع احترام القانون احتراما صارما.
 (3)  تثوير الفكر وتحرير الدّين
تعتمد الحركات الإرهابية في استقطابها وتجنيدها للشّباب فكرا تكفيريا مستمدّا من تراثنا ومن فهم معيّن للإسلام يجعل من الموت في عملية انتحارية جهادا في سبيل الله ويحثّ على قتال المشركين والصليبيين أين ماوجدوا من أجل التمكين وارساء دولة الخلافة. وبحكم تواصل انتشار هذا الفكر فإنّ هذه التنظيمات برغم تكبّدها للخسائر قادرة على اعادة تنظيم صفوفها ودعمها بالعنصر البشري. ولهذا فإنّ الانتصار على الارهاب يمرّ حتما بالانتصار على هذا الفكر وهذا لا يتمّ إلاّ بنشر فكر إسلامي يحرّر الدّين من قفص الإيديولوجيات ويقدّمه إلى البشرية جمعاء نقيّا من تأويلات الطّوائف ورجال الدّين الذين وظفوا الإسلام سلاحا استعملوه ضد خصومهم من المسلمين وغير المسلمين.  
إنّ هذا من مهامنا نحن المسلمون ولم يعد لدينا حجّة أمام الله وأمام العالم لنغض الطرف  ونكتفي بالحديث عن سماحة الاسلام وإبراز أوجه الاعتدال والوسطية فيه والتبرؤ من الفكر «الدّاعشي» فهذا الفكر موجود فينا جميعا وفي مناهج تعليمنا وفي ثقافتنا وأخلاقنا بدرجات متفاوتة مادامت المصادر هي نفسها ننهل منها بانتقائيّة واضحة سواء كنّا معتدلين أو متطرفين والجميع يجد فيها ضالّته ومبتغاه. إنّنا مطالبون اليوم بثورة دينيّة تنطلق بقراءة معاصرة لكتاب الله وسنّة رسوله وغربلة واعية ودقيقة لتراثنا بعيدا عن تقديس قراءات أسلافنا المرتبطة بواقع غير واقعنا وزمان غير زماننا وتنتهي بإرساء ثقافة «الإنسان الخليفة» الذي يعمّر الأرض ولا يخرّبها ويحقق أمر الله «يا أيها الناس إنّا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
الخاتمة
إنّ الإرهاب آفة خطيرة والانتصار عليه ممكن لو توفرت الإرادة للقيام بذلك لكنّ المتأمل في واقع الحال سيستنتج أن الطريق مازال طويلا وأن الخطوات الأولى في سبيل ذلك لم تتحقق بعد مادام هناك من يغمض عينيه عن الحقيقة ويسلك طريقا مغايرا لا يؤدّي إلاّ إلى دعم الإرهاب وتقوية شوكته.
الهوامش
(1) دخل تعاون فرنسا مع الولايات المتحدة ضد التنظيم «مرحلة تحول»، وأصبحت فرنسا شريكا ميدانيّا استراتيجيّا لامريكا في حربها على الإرهاب حيث اتفق البلدان على اتخاذ «إجراءات ملموسة» بصورة مشتركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
(2) و(3)  قاموس اللاّعنف، جان ماري مولار، باب الإرهاب، ترجمة: محمد علي عبد الجليل (http://www.maaber.org/)