الأولى

بقلم
فيصل العش
نحو آفاق جديدة لمفهوم الهجرة النبويّة
 1436 عاما مرّوا على هجرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ملبّيا داعي ربّه، تاركا خلفه «أمّ القرى» التي ولد فيها ونشَأ بين جُدرانها، وتربَّى في أكنافها وعشيرته التي صامدت على غيِّها وعاملته بفضاضة وغلظة لمّا دعاها إلى التّوحيد ونبذ الشّرك ، واتّجه صوب «يثرب» التي فتحت صدرها لرسالته واختارت أن تكون حاضنة لها ومنطلقا لنشرها في كافة أرجاء الأرض.
وحدث الهجرة النّبويّة ليس بالحدث العادي إذ كان بطله آخر الأنبياء والمرسلين وكان لحظة فارقة وواحدة من أهمّ المحطّات في حياة المسلمين ونقطة انطلاق لتغيير العالم بأكمله ورفع راية التّوحيد خفّاقة في مدن ودول ما كان العرب يحلمون يوما أن تطأها أقدامهم فاتحين لولا العزّة التي امتلكوها من تبنّيهم لدين التّوحيد والتّشبّع بمبادئ الحقّ والعدل والحرّية والمساواة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. 
ولسائل أن يتساءل عن الفائدة من الحديث عن حدث تاريخي تفصلنا عنه أربعة عشر قرنا من الزّمن وعن علاقته بحالنا وزماننا. ولماذا الحديث عن الهجرة وقد فصل الرّسول صلى الله عليه وسلّم الأمر فيها بعد أن قال : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة» (1) ؟ فهل يعني أنّ الهجرة بمعناها الفعلي المادّي هي حدث تاريخي قد حصل ثمّ انقطع ولم يبق من معنى الهجرة سوى المعنى الشّعوري المتعلّق بهجر ما نهى الله عنه أمّ أنّ هذا الحكم يخصّ المسلمين الذين عايشوا رسول الله وبالتّالي فإنّ حدث الهجرة هو حدث مستمرّ في التّاريخ وهو باستمرار يتدفّق بالمعاني والعبر والدّروس.؟ 
أسئلة عديدة تبحث عن إجابات وتحثّنا على محاولة طرح موضوع الهجرة - ونحن نحتفل بحلول عام هجريّ جديد - بطريقة مغايرة للسّائد من الكتابات التي تحوم جلّها حول السّرد التّاريخي للقصص أوالتي تضفي على الحدث قدسيّة تصنّف ذكره والاحتفال به ضمن مجال العبادة والتّقرب إلى الله. 
لأنّ حدث الهجرة قام به نبيّ مرسلٌ بأمر من ربّه، فإنّه جدير بأن نضعه تحت مجهرنا ونُمعن النّظر فيه بعيون معاصرة، ندرس غاياته ونتعلّم منه ما ينفعنا في ديننا ودنيانا. إنّنا في حاجة ملحّة إلى قراءة جديدة لهذا الحدث بأسلوب حديث يعيد بناء معانيه ويجيب على تساؤلات عصرنا.
 التخطيط المحكم
 والأخذ بالاسباب
بالرّغم من أنّ صانع حدث الهجرة كان رسولا نبيّا مدعوما بالعناية الرّبانيّة وأولى النّاس بتوفيق الله ورعايته(2)، وبالرغم من أنّ الحدث في حدّ ذاته كان أمرا إلاهيّا، إلآّ أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم خطّط للحدث بعناية فائقة ولم يترك من الأسباب شيئا إلآّ وأخذ بـه ومن الوسائل إلاّ واستفاد منها ومن الثّغرات إلآّ وسدّها بإحكام. ووضع «خطّة طريق» واضحة المعالم إذ أمر في بداية الأمر صحابته بالهجرة سرّا إلى المدينة ثمّ جعل أمر هجرته سرّا بينه وبين صاحبه حتّى إذا جاءه أمر الله أعدّ العدّة، واختار وسيلة النقل المناسبة (دابتين قويتين مستريحتين حتى تقويا على وعثاء السفر وطول الطريق) خرج بليل وكلّف «عليّا» كرّم الله وجهه لينام في فراشه تمويها على المشركين. واستعان بخبير محنّك فاستأجر«ابن أريقط» رغم أنّه كان مشركاً ليكون الدّليل في طريق الهجرة، فمعيار الرّسول كان الأمانة والخبرة واحترام أصحاب الاختصاص حتّى يوفر أسباب النّجاح. والتجأ إلى الغار ليختبئ فيه حتّى يضلّل أعداءه ثمّ اختار الفرصة المناسبة لينطلق نحو «يثرب». 
يعلّمنا الرسول صلى الله عليه وسلّم الأخذ بالأسباب واحترام قانون السّببية، لأنّ الله عز وجل أراد أن تكون أنظمة الكون وفق نظام السّببية وهو بالتالي لا ينصر من خالف هذا النّظام حتّى وإن كان مؤمنا. (3) 
يعلّمنا كيف نأخذ بالأسباب كأنّها كلّ شيء في النّجاح ثمّ نتوكّل على الله كأنّنا لم نقدّم لأنفسنا أسبابا ولا أحكمنا خطّة ولا وضعنا خارطة طريق مؤمنين بالغيب مطمئنّين إلى الله ومتأكّدين من نصره. وانظر إلى خطاب رسول الله إلى أبي بكر الصدّيق: « يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟» (4) فنصر الله عند الرّسول أمر جليّ ومحتوم (5) لكنّه مع ذلك يعلّمنا أن نلتزم بسنن الله وقوانينه ومنها قانون السّببيّة. وعندما يكون التّخطيط محكما مستندا إلى الخبرة وأهل الإختصاص، مصحوبا بإيمان عميق بالغيب، فإن أصحابه لا محالة منتصرون، ولأهدافهم محققون ولكيد الأعداء مبطلون.
احترم الرّسول في هجرته قانون الأخذ بالأسباب، فهل يتعامل المسلمون اليوم مع هذا القانون كما تعامل معه الرّسول صلى الله عليه وسلّم؟ لنترك الإجابة تأتي على لسان الشّيخ المرحوم محمد الغزالي حيث قال : «ومع حرص الإسلام على قانون السّببية وتنفيذ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - له بدقّة فأنا لا أعرف أمّة استهانت بقانون السّببية وخرجت عليه وعبثت بمقدّماته ونتائجه كالأمّة الإسلاميّة» (6).
هاجر وأنت في مكانك
لم تكن هجرة الرّسول الله صلى الله عليه وسلّم هروبا من بطش قريش وأذاها بل لهدف عظيم يريد تحقيقه بعد أن مهّد له طيلة ثلاث عشرة سنة. لقد كان بهجرته صلّى الله عليه وسلّم يرمي إلى تأسيس وإقامة مجتمع تسوده المبادئ الإنسانيّة السّامية التي جاء بها الإسلام من حرّية وتسامح وحفظ كرامة الإنسان وعدل في مختلف المجالات، ليكون هذا المجتمع قدوة للعالم أجمع في تكريس مبدأ التّوحيد بما يتضمّنه من مساواة كلّ البشر والتفرّغ لعبادة الله بالمعنى الواسع للكلمة، عبادة تتضمّن تعمير الأرض ومحاربة الفساد ونشر السّلام والكدّ من أجل الرقيّ والتحضّر والخروج من الظّلام العلمي والضَّلال الأخلاقي ونصرة المستضعفين وتمكينهم من حقوقهم ومقاومة الفساد السّياسي والانغلاق الحضاري. 
فالهدف من الهجرة انتقال من حالة إلى حالة أخرى، من حالة الشّرك إلى حالة الإيمان ومن حالة التّفرقة إلى الوحدة ومن حالة الفوضى التي يسودها الباطل إلى حالة من الاستقرار والطّمأنينة يسودها العدل والإخاء والعيش المشترك ومن حالة المضطهد إلى حالة الحرّ المستقلّ، ومن حالة الجمود إلى حالة الحركة. نحن اليوم في حاجة إلى هذا المعنى من الهجرة خاصّة بعد أن أهدتنا الشّعوب العربيّة المسلمة من خلال ثوراتها على الدكتاتوريّة وبفضل دماء شهدائها الزّكيّة فرصة للفعل والتّغيير. المطلوب منّا أن يكون لنا هدف وهو الانتقال بأوطاننا من حالة التّخلّف والجهل والتّبعيّة والاستبداد إلى حالة  يقام فيها حكم عادل يحترم فيه الانسان وتتحقّق من خلاله العدالة الاجتماعيّة وتزول فيه الفوارق. ولتحقيق هذا الهدف علينا بهجرتين لا تتحقّق الأولى إلاّ بالثّانية. هجرة أولى نحو الأوطان وليس خارجها، نحيي فيها قيم العمل والإتقان ونغرس في أبنائها معاني الحبّ والتّسامح والتّكافل، ونقاوم كلّ أشكال الفتن ما ظهر منها وما بطن. هجرة نغيّر فيها المعادلات التي تحكمنا والتي تكرّس فينا الجهل والتّبعيّة، بمعادلات تترجم القيم الإنسانيّة التي حملتها رسالة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، نرفع من شأن العلم والعلماء ونعمل على الارتقاء بمستوى شعوبنا اقتصاديّا واجتماعيّا وسياسيّاً وثقافيّاً. نبني المؤسّسات القادرة على حماية الأوطان وحراسة قيم العدالة والأمن والحريّة والشّورى والمساواة. 
أمّا الهجرة الثّانية التي هي شرط من شروط نجاح الأولى فهي هجرة معنويّة يعيشها كلّ من آمن بأنّه صاحب رسالة وهو مطالب بأن يكون في مستوى تلك الرّسالة وما تضمّنتها من قيم ومبادئ وأخلاق. إنّها تتعلّق بهجر ما لا يُرضي الله تعالى وفي هذا يقول المصطفى عليه الصّلاة والسّلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (7) . إنّها صفة النّخبة المكلّفة بالتّغيير، مهاجرة لما نهى الله عنه فلا تخون الأمانة (8) ولا تكذب ولا تسرق ولا تشهد شهادة الزّور ولا تظلم، وهي لا تعيش متكبّرة وَلَا تُصَعِّر خَدهاَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِي فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، بل تتواضع وتقف في صفّ المستضعفين فتعين المحتاج وتأخذ بيد الفقير وتضحّي بالغالي والنفيس من أجل الآخرين. فأين نحن من هذا النّوع من النّخب؟.
خاتمة
لقد مثّلت «الهجرة» حدثا فريدا من نوعه في تاريخنا وهو باستمرار معين لا ينضب، يتدفّق بالمعاني والعبر والدّروس، وكلما تأمّلنا فيه وغصنا في جوانبه المتعدّدة إلاّ واكتشفنا آفاقا جديدة لمفهوم الهجرة واستنتجنا منها محركات تربويّة جديدة تساعدنا على استيعاب سليم لرسالة الإسلام وترشيد التّدين وشحذ الفاعليّة للعطاء والعمل ومن ثمّ صناعة النّخب المتصالحة مع ذاتها وهويّتها، القادرة على القيام بالدّور المنوط بعهدتها سواء في علاقتها مع الله أو مع مجتمعاتها أومع الإنسانيّة جمعاء. 
الهوامش
(1) متفق عليه - فتح الباري شرح صحيح البخاري
(2) وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلّم بالحماية وردّ كيد الأعداء في أكثر من موقع في القرآن الكريم نكتفي بذكر هذه الآية التي تتضمّن المعنى كاملا : «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» (سورة المائدة، الآية 67).
(3) ولنا أيضا درسا في الأخذ بالأسباب في صلاة الخوف. أنظر إلى قوله تعالى: «وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا»(سورة النساء، الآية 102)
(4) روى الإمام البخاري في صحيحه قال : لما صعدَ كفارُ قريشٍ إلى الجبلِ ونظروا  قال أبو بكر: يا رسولَ الله ، لو نظرَ أحدُهم إلى أسفلِ قدميه لرآنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟!».
(5) « إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» (سورة التوبة، الآية 40) 
(6) خطب الشيخ الغزالي: 33/2، دار الاعتصام.
(7) رواه البخاري في الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه (10) ، والنسائي في الإيمان (4910) وأبو داود في الجهاد (2122) ، وأحمد (6515)
(8) أنظر إلى درس رسول الله في هجرته، حيث أمر علي بالبقاء في مكّة ليؤدّي الأمانات لأصحابها (وهم من المشركين) فالصادق الأمين ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره.
 -------
    - مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com