الأولى

بقلم
فيصل العش
القدس عروس عروبتكم...
 «القدس عروس عروبتكم ... فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها ؟؟
ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها... وسحبتم كل خناجركم
وتنافختم شرفا ... وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض...» (1)
هذه أبيات من قصيدة للشاعر الكبير «مظفر نواب» كتبها منذ عقود لكنّ كلماتها  بقيت تعبّر عن الواقع المأسوي التي تعيشه القدس والمقدسيّون وكأنّها كتبت للتوّ.. إنّها صرخة عربيّ مجروح يشاهد بأمّ عينه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى ومعراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تعاني من  الأعمال الإجراميّة الصهيونيّة في كل وقت وحين ولا ترى في الأفق أملا لقدوم صلاح الدّين من جديد، فكلّ الزعماء العرب والمسلمين منشغلون إمّا بالنّوم في أحضان الأعداء أوقمع شعوبهم حفاظا على سلطة من دون سلطة، أو هم منهمكون في تدمير ما تبقّى من العالم العربي بأيادٍ مرتزقة تموّل بسخاء على قدر أعمالها الإجراميّة والتخريبيّة من أجل دور في المنطقة لا يتجاوز دور «البيدق» على رقعة الشطرنج.
ما تعيشه مدينة القدس المحتلة هذه الأيام من انتهاكات إسرائيلية شبه يومية للمسجد الأقصى ومحاولات متكرّرة لتقسيمه وحالة التّضييق غير المسبوق على المقدسيّين  ليس بالأمر الهيّن وهو جريمة جديدة تضاف إلى سجّل الكيان الأسود. وليس هناك أدنى شكّ في أنّ اختيار الصّهاينة لهذا التّوقيت لم يكن صدفة وإنّما عن دراية بما يحدث في المنطقة، فالوقت أصبح أكثر من مناسب لتنفيذ فصل جديد من مخطّطهم الإجرامي خاصّة وأنّ العالم كلّه أصبح منشغلا بالوضع الاقليمي المضطرب والحروب المشتعلة في العديد من الدّول العربية، حروب توجّهت فيها فوهات المدافع والرّشاشات نحو صدورأبناء الوطن الواحد في عمليّة إبادة عربية-عربيّة برعاية أجنبية.
إنّ ما يحدث هذه الأيام في مدينة القدس ليس استغلالا للفرصة فقط من طرف الكيان الصهيوني الغاصب بل يدخل أيضا ضمن مخطّط قديم جديد للقضاء على الانتماء العربي الاسلامي لمدينة القدس، انطلق بتقسيم القدس إلى شرقية وغربية في حرب النّكبة 1948، ثم احتلال الجزء الشّرقي بالكامل إثر حرب 1967 وإعلان القدس عاصمة موحّدة أبدية للدّولة اليهوديّة «إسرائيل» في 30 جويلية 1980 واستثنائها من أي عمليّة تفاوضيّة مع الفلسطينيّين ضمن ما سُمّي جورا «السّلام الفلسطينيّ - الإسرائيلي».
ثلاث واجهات لتهويد القدس
سعى الاحتلال إلى تحويل القدس إلى مدينة يهوديّة خالصة، من خلال مسارات ثلاثة: الدّيمغرافي والثّقافي والاقتصادي. فخصَّص من جهة أغلب أراضيها لبناء المستوطنات وتوطين اليهود المهاجرين مع منع السّكان الأصليين من التّعمير والبناء داخلها ودفعهم نحو الانتقال للسّكنى خارج حدود البلديّة في بلدات الضّفة الغربيّة المجاورة، وعمد من جهة أخرى إلى عزل القدس الشّرقية عن مجالها الفلسطيني ببناء جدارعازلٍ بطول 168 كم فصل عنها عددا لاباس به من تجمعات فلسطينيّة مكتظّة بالسّكان، وهو ما يعني حرمان ما يقارب 50 ألف نسمة من حملة هويّة القدس من الوصول والإقامة بالمدينة. بالإضافة إلى ذلك، تعمّدت السّلطات الإسرائيليّة في الرّفع من وتيرة بناء المستعمرات حول مدينة القدس من كلّ جانب، وضمّها إليها ضمن مسمّى (القدس الكبرى). والهدف من هذه الخطّة خلخلة البنية السّكانيّة للمدينة بمضاعفة عدد المستوطنين وخلق اللاّتوازن الدّيمغرافي لفائدة اليهود على حساب الفلسطينيين.(2)  
عمل الكيان على إبقاء فلسطينيّ مدينة القدس وضواحيها في حالة خوف ورعب معزولين عن شعبهم ووطنهم بشكل دائم، من خلال الاعتداءات المتكرّرة عليهم من قبل المستوطنين المدجّجين بالسّلاح والمحميّين من قبل قوات الشّرطة الإسرائيليّة في محاولة مستمرّة لإجبارهم على مغادرة المدينة وبالتالي فقدان الهويّة المقدسيّة وهو هدف يشتغل عليه الكيان للضّغط على النّمو الديمغرافي الفلسطيني وبالتّالي التّقليل من نسبة الفلسطينيين في القدس.
أمّا في المسار الثّقافي، فقد انتهجت اسرائيل مخطّطا لمحو الهويّة العربيّة الإسلاميّة التّاريخية عن مدينة القدس وفرض الطّابع اليهودي عليها وذلك عبر إلغاء البرامج التّعليميّة الأردنيّة التي كانت مطبّقة سابقاً في مدارس المدينة وإبدالها بالبرنامج التعليمي الإسرائيلي، واصدار قوانين تسمح للسّلطات الإسرائيليّة بالإشراف الكامل على جميع المدارس بما فيها المدارس الخاصّة بالطوائف الدّينية إضافة إلى المدارس الأهليّة الخاصة.(3) 
كما عملت إسرائيل على تزوير التّراث الحضاري للقدس، فقامت بتدمير حارات تاريخيّة بأكملها كحارة المغاربة وعدد كبير من المساجد التاريخيّة والمقابر وعمدت إلى تغيير أسماء بوابات القدس التاريخية، وأسماء الأحياء والبلدات والشوارع التي حوّلتها إلى أسماء عبرية ذات مدلولات يهوديّة بالإضافة إلى ضمّ معالم إسلاميّة إلى قائمة التراث اليهودي (4).
أمّا على المستوى الإقتصادي فإن الممارسات العنصرية التي تتبعها سلطات الاحتلال للتّضييق على المقدسيين تسببت في ارتفاع نسبة الفقر في صفوف الأسر العربية التي أصبحت تزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف مقارنة بالأسر الإسرائيلية، إذ يعيش نحو 84 %  من الأطفال العرب في مدينة القدس المحتلة تحت خط الفقر. 
ونتيجة للسّياسات الإسرائيليّة غدا الاقتصاد الفلسطيني في القدس الشّرقية معزولا  يعيش في عالم منفصل تمامًا عن الإقتصاد الفلسطيني والإقتصاد الإسرائيلي لأنّه غير مدمج في أيّ منهما بالرّغم من ارتباطه بهما.‏ ونتيجة للقيود المتزايدة على المستثمرين المقدسيّين فقد فَقَدَ اقتصاد القدس نصف حجمه منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993 حيث تقلّصت نسبته إلى نحو 7 % فقط من الاقتصاد الفلسطيني بعد أن كانت 15 % قبل التوقيع بالإضافة إلى التأثير السلبي للجدار العنصري الذي يتسبب في خسارة فرص التجارة والعمالة ويؤدي إلى خسائر سنوية تقدر بنحو 200 مليون دولار(5).‏
إرهاصات لانتفاضة فلسطينيّة ثالثة 
هكذا تخطّط اسرائيل لتدمير القدس بشرا وعمرانا وتاريخا كلّ ما سنحت لها الفرصة بمباركة دوليّة واضحة المعالم وعجز تامّ - ربّما يكون مقصودا - للمجتمع الدّولي بما في ذلك منظمة الأمم المتّحدة على اتّخاذ موقف حازم من الانتهاكات الصهيونية بحقّ المقدسيّين والمسجد الأقصى، والقيام بما يجب القيام به للجم سياسة الاستيطان الإسرائيلي بكلّ أشكاله في القدس الشّرقية ومحيطها. وفي غياب استراتيجيّات عربية وإسلاميّة واضحة المعالم لمواجهة المخططات الإسرائيليّة، فإنّ الفلسطينيين عامّة والمقدسيّين خاصّة باتوا يشعرون أنّهم وحدهم في مواجهة سياسة التّهويد الإسرائيليّة وأنّه لا أمل في توافق الأنظمة العربيّة على مدّ العون لهم وأنّ الشّعوب العربية الاسلاميّة لم يعد بمقدورها تقديم شيء لهم لأنّها أصبحت هي أيضا تعاني إمّا من جور حكّامها أو من الصّراعات المدمّرة التي تنخر جسدها العليل وتقضي على أبنائها. ولأنّ السّلطة الفلسطينيّة المكلّفة حسب اتّفاق أوسلو بمهمّة حماية الاحتلال (6) وحصار كلّ أشكال الانتفاضة خاصّة داخل الضّفة الغربيّة والقدس الشّرقية أصبحت عاجزة حتّى على تسيير أمورها، فإنّ ما يحدث هذه الأيام من مواجهات بين المقدسيّين وجنود الاحتلال في الحرم القدسيّ الشريف وفي المناطق المجاورة ما هي إلاّ إرهاصات لانتفاضة فلسطينيّة ثالثة قد توفّرت شروطها لتكون القدس منطلقها، لكنّها لن تتوقف هناك بل ستمتد إلى بقية الضّفة الغربيّة المحتلّة ممّا سيؤدّي إلى انفجار الأوضاع بالمنطقة لصالح خطّ المقاومة.
أمام هذا الوضع الخطير الذي تمرّبه مدينة القدس ومسجدها المبارك لا يسعنا إلاّ أن نتساءل عن كيفية مدّ العون لأخوتنا المقدسيّين؟ هل نكتفي بالمظاهرات للتّنديد بما يحدث وببعض الشّعارات نرفعها هنا وهناك ثمّ نعود إلى حياتنا العادية وكأنّ شيئا لم يحدث في انتظار جريمة جديدة تحرّك فينا الوجع فنهبّ للصّراخ من جديد؟ أم يجب علينا أن نفكّر بهدوء في المسألة؟ لقد بات معروفا هدف إسرائيل وافتضح مخططها للوصول إليه وعلينا أن نواجه هذا المخطط بمخطط مضاد وفاعل على أساس مسلّمتين، الأولى اعتبار القضية الفلسطينية قضيّة مركزيّة ذات أولوية على جميع القضايا الأخرى، والثّانية رفض السّلام المزعوم مع إسرائيل ودعم المقاومة المسلّحة والانتفاضة الشّعبية في فلسطين؟
صحيح أنّنا لا نملك القدرة على إلحاق هزيمة عسكريّة بإسرائيل في وضعنا الرّاهن  أوإجبارها على الخروج من القدس، لكنّنا نملك قدرات تمكننا من تعزيز الوجود الفلسطيني في القدس ومحيطها وتعطيل خطط الكيان لتهويد المدينة. الإرادة والعزيمة والصمود من خصال أغلب المقدسيين لكنها في حاجة إلى الدّعم والتّوجيه. من الممكن تعزيز الوضع السّكاني في الكثير من أحياء القدس والقرى المحيطة بها من خلال برامج تعتني بالبنى التّحتية في الأحياء العربية الفلسطينية وحفظ المقدّسات كالمسجد الأقصى وغيره وأخرى اقتصادية واجتماعية وصحيّة وتثقيفيّة تشكّل عوامل جذب للسّكان لكنّ ذلك يتطلب الدّعم المالي والمادّي وهذا باستطاعة العرب والمسلمين القيام به، حتى وإن كان الكيان الصّهيوني يحارب كلّ هذه المشاريع، فالمقدسيون قادرون على تفعيلها بالطرق المناسبة.
أمّا المثقفون والسياسيون فهم مطالبون بالتّحرك على جميع الواجهات داخليّا وخارجيّا عبر كل الأشكال التعبيريّة ووسائل الإتصال المتاحة. فأمّا داخليّا، فبجعل القضيّة الفلسطينيّة حاضرة بقوّة في كلّ المحافل والمناسبات السّياسية والثّقافية وعدم فصلها عن المشاغل القطريّة مع ربط القدس والمسجد الأقصى بشرف الأمّة في حاضرها ومستقبلها والضغط في اتّجاه تغيير السّياسات الرّسمية الفلسطينيّة والعربيّة التي جعلت المفاوضات والعمليّة السّلمية استراتيجيتها وتكتيكها الوحيدين، وتخلّت عن كل مصادر قوّتها المختلفة من المقاطعة إلى المواجهة. وأمّا خارجيّا، فبالتّواصل مع العالم الحرّ من شعوب وجمعيات مدنيّة غير مرتهنة للأنظمة الغربيّة ومؤسّسات معنية بالدّفاع عن حقوق الإنسان لشرح قضيتنا العادلة والتّحرك في كل اتّجاه لإيصال الصّورة الحقيقية لمعاناة الفلسطينيين، وما تتعرّض له القدس والضّفة الغربية من تهويد واستيطان. أمّا إذا بقيت النّخب العربيّة صامتة ومقصّرة في تواصلها مع هذه الشّعوب، فلن تقف معنا ولن تساندنا بالضّغط على حكوماتها أو مساعدتنا في إبلاغ صوت المقدسيّين لأنّ إيصال الصّورة الحقيقية كفيل بتغيير الموقف لصالح الفلسطينيّين، فالشّعوب لا تتضامن مع الصّامتين.
الهوامش
(1) للاطلاع على القصيدة كاملة يمكن الرجوع إلى ديوان الشاعر أو على موقع 
http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=64136.
(2) عملياً فإن ضم مستوطنة «معاليه أدوميم» إلى حدود البلدية أضاف 35 ألف مستوطن إلى عدد المستوطنين الموجودين في الحزام الإستيطاني حول القدس، وبذلك أصبح أكثر من 200 ألف مستوطن يسكنون داخل حدود البلدية، إضافة إلى المستوطنات الشرقية التي تضاعف العدد فيها إلى 400 ألف يهودي في القدس الغربية.
(3) لم يطبق هذا الاجراء التعسفي على باقي مدن الضفة الغربية المحتلة، حيث تمّ الإبقاء فيها على البرامج والمناهج والكتب التعليمية الأردنية بعد فرض تعديلات على كتب التربية الإسلامية والتاريخ والجغرافيا وهذا إشارة واضحة على تعمّد سلطات الاحتلال تفرقة مدينة القدس عن باقي مدن الضفة الغربية.
(4) من أهم هذه المعالم المسجد الأقصى الذي أصدرت محكمة العدل العليا الإسرائيلية قراراً في 7/4/1414هـ الموافق 23/9/1993م يقضي باعتباره أرضاً إسرائيلية ووضعه تحت وصاية منظمة أمناء جبل الهيكل الصهيونية.
(5) الأرقام مأخوذة من التقرير السنوي لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أنكتاد تحت عنوان : «الاقتصاد الفلسطيني في القدس الشرقية: الصمود في وجـه الضم والعزل والتفكُّك» - منشورات الأمم المتحدة 2013.
(6) يقضي الاتفاق الأمني بأن تتولى قوات فلسطينية حماية الاحتلال من خلال منع المقاومة المسلحة، وقمع أي حراك شعبي ضد المستوطنين أو الاحتلال، بل والتعاون المباشر وغير المباشر في عمليات تشنها قوات الأمن أو الجيش الصهيوني لاعتقال أو قتل مشبوهين مارسوا أو يعدّون لممارسة، مقاومة ضد الاحتلال.
 -----
- مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com