الأولى

بقلم
فيصل العش
اردوغان وفرصة الاستدراك...
 عندما أسفرت النّتائج النّهائيّة للانتخابات التّركية التي جرت في 7 جوان الفارط عن حصول «حزب العدالة والتّنمية» على 258 مقعدا فقط في البرلمان التركي الجديد (40.86 %)، تعالت أصوات الفرحة الممزوجة بالشّماتة هنا وهناك عبر وسائل الإعلام العالميّة والوطنّية لتعلن عن ضربة موجعة لـ«أردوغان» وحزبه الذي يفتخر به الإسلاميّون في كلّ مكان ويعتبرونه مثلا ناجحا في تسيير دواليب الدّولة العصريّة بخلفيّة إسلاميّة رسّخت الهويّة وواصلت في نفس الوقت امتلاكها القدرة على الولوج في عالم الحداثة من الباب الواسع. وانبرى المحلّلون «الفطاحل» في توصيف الكارثة التي حلّت بحزب العدالة والتّنمية بأنّها إيذان بنهاية دراميّة لحكمه ومن ورائه حكم جميع أحزاب الإسلام السّياسي في المنطقة. 
لم نكن ضمن هذا الصفّ من المحلّلين بالرّغم من اعتبارنا فوز «حزب العدالة والتنمية» فوزا بطعم الخسارة، بما أنّه فشل في الحصول على الأغلبيّة لأول مرّة منذ وصوله للسّلطة في 2002. وكنّا واثقين بأنّ تركيا ذاهبة لا محالة إلى إجراء انتخابات مبكّرة (1) 
 وها هي الأخبار تأتينا من أنقرة لتؤكّد ما ذهبنا إليه بعد أن فشلت المشاورات بين «حزب العدالة والتّنمية» وبقية الأحزاب الفائزة واستحال بالتّالي تكوين حكومة ائتلافيّة  خلال المدّة المحدّدة دستوريّا (45 يوما)، وهو ما دفع «أردوغان» بصفته رئيسا للجمهوريّة إلى الإعلان عن إجراء انتخابات جديدة مبكّرة في الفاتح من نوفمبر القادم بعد أن تشاور مع رئيس البرلمان «عصمت يلماز»، واستند إلى الصلاحيات الممنوحة له وفقا للمادّتين 104 و116 من الدّستور التّركي. 
ويأمل «أردوغان» وزملاؤه في «حزب العدالة والتّنمية» أن تسفر الانتخابات الجديدة عن فوزهم هذه المرّة بالأغلبيّة ليستعيدوا سيطرتهم على مقاليد الحكم بالبلاد ويواصلوا ما اقترحوه على الشّعب التّركي من إصلاحات جوهريّة في الدّستور. فهل سينجح «أردوغان» هذه المرّة أم ستتحقق «نبوءة» استطلاعات الرأي(2) ويتكرّر سيناريو انتخابات جوان؟ 
تغيير الأوضاع لتغيير النتائج
يأتي الإعلان عن إعادة الإنتخابات البرلمانيّة في الوقت الذي استأنف فيه الجيش التّركي حملته العسكريّة على مواقع «حزب العمال الكردستاني» وهو ما يعني حسب معارضي «أردوغان» وأد عمليّة السّلام مع الأكراد انتقاما من «حزب الشّعوب الديمقراطي» المؤيّد لأكراد تركيا من جهة (3) ومحاولة منه لحشد تأييد جزء من القوميّين من جهة أخرى.
أمّا إعلان أنقرة انخراطها في الحرب على تنظيم «داعش» ومشاركتها مؤخرا الولايات المتّحدة الأمريكيّة في عمليّات لضرب هذا التنظيم، فإنّ معارضة «أردوغان» ترى أن تغيير سياسته الخارجيّة بشكل مفاجئ قبل بضعة أيام من إعلان موعد الانتخابات المبكّرة لا يخلو من انتهازيّة سياسيّة، فـ«أردوغان» يعلم أكثر من غيره بأنّ بقاء الوضع في تركيا كما هو لن يغيّر كثيرا من نتائج الإنتخابات ولذلك فإنّ دخول تركيا في صراعات إقليميّة من شأنه أن يخلق جوّا سياسيّا مختلفا وهو ما سيستفيد منه «حزب العدالة والتنمية» كما يدّعي معارضوه. أمّا «أردوغان» فيعتبر إعلان تركيا الحرب على تنظيم «داعش» و«حزب العمّال الكردستاني»، واجبا قوميّا باعتبارهما تنظيمين متطرفين يسعيان إلى تفكيك الدولة التّركية الحديثة من جهة وردّا على إرهابهما الذي ضرب مؤخرا تركيا في العديد من المرّات وأسقط ضحايا بالجملة من جهة أخرى(4). 
المؤشّرات توحي بأنّ تغييرات ستطرأ على نتائج الانتخابات وسيتبلور مشهد سياسي جديد يختلف عن الحالي، فحزب «الشعوب الديمقراطي» الذي غنم في انتخابات جوان ما يقارب المليون من أصوات الأكراد الذين كانوا في السابق يصوتون للعدالة والتنمية، لن يكون باستطاعته تخطّي العتبة الانتخابيّة من جديد لسببين إثنين أولهما أنّ القوى غير الكرديّة التي ساعدته في الانتخابات الفارطة لن تعيد الكرّة مرّة أخرى لأنّها لن تكسب شيئا في حال حصول نفس النتائج والثّاني أنّ الأكراد المسالمين والاسلاميّين الذين أداروا ظهورهم لحزب العدالة والتّنمية في انتخابات 7 جوان وصوّتوا لحزب الشّعوب الدّيمقراطي انتصارا للهويّة الكرديّة وتعبيرا عن عدم الرّضا عن قوائم مرشّحي العدالة والتّنمية في المناطق الكرديّة، لن يعيدوا الكرّة في الانتخابات القادمة في محاولة منهم لإعادة ترسيخ السّلام بين الأكراد والحكومة الجديدة في حال انتصار حزب العدالة والتّنمية الذي لن نراه يكرّر خطأه من جديد في طريقة انتقائه لقوائم مرشّحيه في المناطق الكرديّة. 
سلاح حكومة الانتخابات
بعد تكليفه من قبل رئيس الجمهورية بتشكيل حكومة انتخابات، وجّه «أحمد داود أوغلو» رسائل إسميّة إلى عدد من نواب المعارضة يعرض فيها عليهم حقائب وزارية من دون المرور برئاسة أحزابهم كما طالبت به أحزاب المعارضة. فكانت لقبول ثلاثة نواب المشاركة في الحكومة تداعيات سلبية على أحزابهم. فقد شكّل قبول «طغرل توركش» نائب رئيس حزب الحركة القوميّة منصب نائب رئيس الحكومة و«مسلم دوغان» حقيبة التّنمية و«علي حيدر كونجا» حقيبة شؤون الاتّحاد الأوروبي وهما نائبان من «حزب الشعوب الديموقراطي» المؤيد للأكراد، صدمة كبيرة فاجأت الجميع وأحدثت زلزالا قويّا خاصة في صفوف حزب الحركة القوميّة ممّا أثّر سلبا على استقراره وفُتح فيه باب الصراعات الداخلية التي قد  تتطوّر في قادم الأيام إلى عملية انشقاق كبيرة في صفوفه(6).
ونظرا لرمزية «توركش» وخصوصيته باعتباره نائب رئيس حزب الحركة القومية ونجل «ألب أرسلان توركش» مؤسّس الحركة القوميّة في تركيا، فإنّ قبوله نيابة رئيس حكومة تتضمّن وزيرين كرديّين سيجرّد الحركة القوميّة من سلاح كانت ستستخدمه في دعايتها للانتخابات المقبلة، والذي يرتكز على تشويه حزب العدالة والتنمية واللّعب على وتر النّعرة القوميّة بالقول أنّ حكومة «داود أوغلو» المؤقتة هي في حقيقتها ائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي.
أمّا على الجانب الكردي، فإنّ دخول الجناح السّياسي للحركة الكرديّة في الحكومة وإن كانت مؤقتة في الوقت الذي يشنّ فيه الجيش حربا ضروسا ضدّ الجناح العسكري الكردي ممثلا في «حزب العمّال الكردستاني» له دلالات أهمّها أنّ مرحلة النّضال المسلّح للقضيّة الكرديّة بحاجة للوصول إلى نهاية في تركيا، وهو شعار رفعه «حزب العدالة والتنمية» في تعامله مع القضيّة الكرديّة وبالتالي فإنّ ما يحدث اليوم من جرّ للأكراد لطرح قضيتهم من خلال الوسائل السّياسية السّلمية يحسب للعدالة والتنمية بصفته اللاّعب الرئيسي في السّاحة التّركية.
ورقة البرلمان الجديد
قد يفوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية أو تتغير نسب التّصويت للعديد من الأحزاب المشاركة في الانتخابات وقد تدخل البرلمان أحزاب جديدة وتخرج منه أحزاب فائزة في الانتخابات السّابقة وهو ما سيعمل «أردوغان» وحزبه على تحقيقه. غير أنّ لأحزاب المعارضة سلاحا باستطاعتها الاستفادة منه وهو البرلمان الحالي الذي انطلقت أشغاله ولن تتوقف قبل انتخاب البرلمان الجديد. فباستطاعة المعارضة أن تطرح على البرلمان بعض الملفّات التي وعدت بطرحها في حملتها الانتخابيّة السّابقة وهي بذلك تضرب عصفورين بحجر واحد، فهي من جهة تكسب مصداقيّة لها وزنها الانتخابي ومن جهة أخرى تحرج «حزب العدالة والتّنمية» بما أنّ هذه الملفّات لا تتوافق مع سياسة الحزب(5) غير أنّ هذا الأمر مرتبط بمدى توافق الأحزاب المختلفة على الملفّات والقرارات التي ستُطرح وهو أمر من الصّعب توقّعه.
الخاتمة
يعمل «أردوغان» و«أوغلو» ضدّ الوقت وضدّ المنافسين لامتصاص صدمة الانتخابات الفارطة وتجاوز أخطاءها ويحاولان الاستفادة ممّا يحصل الآن على الساحة التّركية مستعينين بخبرتهما السياسية التي اكتسباها وقدرتهما على المناورة واحراج الخصوم لجلب أكبر عدد من الأصوات لصالحهم يوم غرّة نوفمبر القادم وتغيير المعادلة التركية الجديدة إلى ما يصبوان إليه.
لقد بقي لحزب العدالة والتنمية شهران ليعدّل فيهما أوتاره حتّى يحقّق ما عجز عن تحقيقه في انتخابات 7 جوان. فهل ستعيد انتخابات غرة نوفمبر عهد حكومة الحزب الواحد بقيادة «حزب العدالة والتنمية»، أم ستفرض على القوى السّياسية المتنافرة أن تسلك طريق التوافق لتجنب البلاد الدخول في نفق لا يعلم مداه إلا الله .
الهوامش
(1) انظر مقالنا «الانتخابات التركية ... هل انهزم أردوغان؟» الصادر بالعدد 84 بتاريخ 12 جوان 2015 - عند الحديث عن السيّناريوهات الممكنة..
(2)  كشف استطلاع أجرته مؤسسة «متروبول» بأن حزب العدالة والتنمية، الذي ينتمي إليه أردوغان، سيحصل في الدور الثاني على 41.7 % فقط من أصوات الناخبين. وسيحصل  حزب الشعب الجمهوري على 25.5 % من الأصوات، مقابل 15.7 % لحزب الحركة القومية، و14.7 % لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي.المصدر: سكاي نيوز 26 أوت 2015 - 
كما أشار الاستطلاع – الذي أجرته مؤسّسة «كيزيجه»- أن نسبة التأييد لحزب العدالة والتنمية بلغت 38.9 % فقط، وأنّ التأييد الراهن لحزب الشعب الجمهوري، وهو حزب المعارضة الرئيسي، بلغ 27.8 %، فيما حصل حزب الحركة القومية على نسبة تأييد 16.3 %، وحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد على 13.5 %.المصدر: سكاي نيوز 28 أوت 2015 -  http://www.skynewsarabia.com
(3) الذي كان نجح في اجتياز عتبة الـ10 % الضرورية لدخول المجلس النيابي في انتخابات 7 جوان الفارط وجرّد العدالة والتنمية من الأغلبية 
(4) بلغت حصيلة شهداء الجيش والأمن التركي وحراس القرى، جراء هجمات المنظمات الإرهابية، في مقدمتها «حزب العمال الكردستاني»، خلال 54 يومًا الأخيـــرة، 65 شهيــــداً (7 جويلية/29 أوت 2015)
(5) يأتي في مقدمتها ملف اتهامات الفساد بحق أربعة وزراء سابقين حال العدالة والتنمية دون تحويلهم إلى المحكمة العليا، وتعهدت كل احزاب المعارضة في دعايتها الانتخابية بإعادة فتح ملفهم وملف مادة “العتبة الانتخابية” التي كانت محور الانتخابات السابقة، والتي تشترط الحصول على نسبة %10 من الأصوات لدخول البرلمان. وكان العدالة والتنمية – المستفيد الأكبر حالياً منها - لمزيد من التحليل يرجى الاطلاع على مقال الباحث في الشأن التركي سعد الحاج تحت عنوان: «هل الانتخابات المبكرة مجرد إعادة للانتخابات كما قال اردوغان؟»
 http://akhbarturkiya.com/?p=63649
(6) سارعت قيادة حزب الحركة القومية إلى استنكار قبول «توركش» الوزارة، معلنة أنها حولته إلى لجنة التأديب بطلب فصله من الحزب. ترك براس 28 أوت 2015
-------
    - مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com