الأولى

بقلم
فيصل العش
«الإصلاح والتنمية» ذهب الحزب وبقيت الفكرة
 في إحدى أيام شهر فيفري 2011، اتصل بي صديقي «محمد القوماني» هاتفيّا ليعلمني بأنّه ينوي تأسيس حزب سياسيّ مع ثلّة من المناضلين واقترح عليّ الانضمام إليهم ومشاركتهم هذا المشروع. لم أكن متحمّسا للعمل الحزبي منذ كنت في الجامعة لأنّ إيماني كان ولا يزال عميقا بأنّ التّغيير الحقيقي هو ثقافيّ بالأساس يتجاوز الفعل السّياسي بل يحتويه وهو بالتّالي أوسع من أن يحتضنه حزبا سياسيّا مهما كان حجمه أو قوّة مبادئه. غير أنّ الطفرة الثّوريّة التي كنت أعيشها مثل كلّ التّونسيين والأحلام الجميلة التي احتضنتها عقولنا ومعرفتي العميقة بصديقي جعلتني أسرع بالموافقة لأكون من المؤسّسين لحزب الإصلاح والتّنمية. لم تكن تجربتي الحزبيّة سهلة ولكنّها كانت ممتعة غير أنّ نهايتها المأسويّة قد تحجب كلّ ما هو جميل فيها. ففي 30 جويلية الفارط صدر بلاغ عن الحزب أعلن فيه توقّف مسيرته بحلّ نفسه بعد تجربة قصيرة نسبيّا في السّاحة السّياسية لم تتجاوز 4 سنوات. وقد كانت لجنته المركزيّة قد اتخذت هذا القرار في اجتماعها الذي نظّمته يوم 22 مارس 2015 الموافق للذكرى الأولى لإنجاز مؤتمر الحزب الأول والأخير.
لم يكن اتخاذ القرار سهلا بالنّسبة إلى أعضاء اللّجنة المركزيّة،  لكنّه كان حتما مقضيّا خاصّة بعد أن تأكّد للجميع أنّه لا أمل في مشهد سياسيّ يحكمه التّنافس النّزيه على الأفكار والبرامج خدمة للوطن وأبناء الوطن بعد أن سادت فيه الانتهازيّة وهيمن عليه المال السّياسي وتحكّم في مفاصله رجال الأعمال وأصحاب المصالح. فكان القرار صرخة استنكار واحتجاج  من جهة ومن جهة أخرى تشجيعا لبقيّة الاحزاب التي تقاسم حزب الإصلاح والتنمية الانحياز للثورة (أو هكذا تدّعي) على القيام بنفس الخطوة فيحرقوا مراكبهم الصغيرة لعلّ ذلك يساعد في المستقبل على إعادة التشكّل والتوحّد في قوّة قادرة على افتكاك موقع في السّاحة السّياسية (1).
لست أنوي بهذا المقال الخوض في أسباب سرعة نهاية هذه التّجربة الحزبيّة وأسباب فشلها فذلك موضوع يتطلّب مساحة أكبر وهو ما ننوي إنجازه في المستقبل ضمن كتاب سيتمّ نشره في سلسلة «كتاب الإصلاح»، وإنّما أردّت بهذه الكلمات أن أؤكّد بأنّ  نهاية حزب «الإصلاح والتّنمية» لا تعني وفاة فكرة «الإصلاح والتّنمية» بل ربّما تحرّرت الفكرة من السّجن الحزبي وإكراهات السّياسة وانطلقت تبحث عن أجنحة أكثر صلابة وقوّة لتحلّق عاليا بعيدا عن التعصّب الحزبي الضيّق والجدل السّياسي بعقلية الكمين وتكتيكات التّحالفات والاصطفاف الأعمى.
حلم لم يتحقق
الكلّ يحلم بمجتمع يسوده العدل والمساواة بين أفراده ودولة تقوم على أساس المواطنة تحترم حقوق الإنسان وتتبنّى سياسات اجتماعيّــــــــة وتربويّة وثقافيّة وبيئيّــة تحقّق طموحات المواطنين وترسم طريق تنمية عادلة وشاملة تُخرج الناس من التبعيّة وتحقّق الازدهار والرّقي والتّقدّم. لكنّ هذا الحلم لم يتحقّق منذ عقود طويلة، واستمر التخلّف وغياب العدالة ميزة لمجتمعاتنا، ولا تزال شعوبنا تعيش الفقر والتّهميش والتّجهيل بالرّغم من امتلاكنا للثّروات الدّيمغرافية والمادّية. فقد فشلت دول ما بعد الاستعمار أو ما يسمّى تعسّفا الدّول الوطنية الحديثة في أن تكون حرّة ومتقدّمة وتحوّلت إلى دكتاتوريات أُهين فيها الإنسان وغابت فيها مقومات الحياة الكريمة حتّى إذا ثار النّاس وأسقطوا رموز الاستبداد والفساد وأبعدوهم عن رأس الدّولة وحاولوا إعادة التّأسيس فشلوا وانتكست ثوراتهم وتحوّلت مجتمعاتهم إلى بُؤَرِ قتالٍ ونزاعٍ على سلطان يبغي الالتفاف على الإرادة الشّعبية الحرّة والتّحكم في رقاب النّاس واستغلال ثرواتهم. إنّها انتكاسة خطيرة للثّورات العربيّة التي اكتفت بإسقاط رأس النّظام ولم ترتق إلى ثورة حقيقيّة تحقّق تغييرات جذريّة فى ثقافة المجتمع وسلوك أفراده أو في طريقة توزيع الثّروة وتحقيق التّنمية عبر منوال لا تبعيّ لا يخضع إلاّ لمطالب المواطنين خاصّة الفقراء والمهمّشين.
أزمة ثقافيّة بامتياز 
وأنت تتجول في ربوع هذا الوطن تلمس بوضوح غياب الوعي القادر على البناء وحالة اليأس والقنوط التي تسري في عروق النّاس والشّعور بالإحباط الذي لا يقود إلاّ إلى العنف أو اللاّمبالاة مقابل هيمنة ثقافة الاستهلاك والمتعة والتّسول والانتهازيّة، وتعاين بسهولة الفجوة الضّخمة التي تفصل النّخب عن عامّة النّاس والأغنياء عن الفقراء وأهل الشّمال عن أهل الجنوب، فجوة ظاهرها مادّي وباطنها ثقافي واجتماعي بامتياز. الغلوّ والتطرّف هو ما يميّز واقعهنا، تطرّف الأقلية المتّخمة بالغنى وتطرّف الفقر المدقع والمهين على أغلب النّاس، تطرّف ديني وتطرّف لاديني مع غياب تامّ لاستراتيجيات واضحة نابعة عن حوار مجتمعي حقيقي لمواجهة هذا الغلو وهذا التّطرف والمخاطر والتّهديدات التي تنجرّ عنها.
في ظلّ هذه الانتكاسات الخطيرة يصبح «الإصلاح» فرض عيّن على الجميع وتُطرح فكرة «الإصلاح والتّنمية» بالحاح كبديل وكقارب نجاة لشعوبنا المنهكة ونخبنا التائهة وشبابنا الحائر. وبصرف النظر عن التّسمية فإنّ مجتمعاتنا في حاجة أكيدة إلى مثل هذا الاتّجاه الذي يتبنّى الإصلاح الجذري والمتدرّج منهجا، إصلاح يشمل كلّ القطاعات ويبدأ بالإنسان ويمتدّ إلى مختلف المجالات في التّربية والتّعليم والأسرة والعلاقات الاجتماعيّة والمؤسّسات السّياسيّة والاقتصاد والثقافة السّائدة والأخلاق والسلوك ... من أجل تحقيق التّنمية الشّاملة والعادلة وتوفيرالحرّية والكرامة لكلّ مكونات المجتمع. 
فكرة «الإصلاح» الحيّة
فكرة «الإصلاح» الحيّة هي التي تنبع من الإنسان وتعمل بالإنسان من أجل الإنسان. تعبّر عن تطلّعات المحرومين والمهمّشين والكادحين والثّائرين على أنظمة الاستبداد والفساد، تناهض الثّراء الفاحش والخيارات اللّيبرالية الظّالمة وتدعو إلى تحقيق العدالة الاجتماعية عبر وضع تصوّرٍ لنظامٍ اقتصادي اجتماعي يعمل على تحقيق شراكة حقيقية للمواطن في الثّروة ويأخذ بعين الاعتبار امكانيّات البلد ويحرّرها من التبعيّة ومن إملاءات المؤسّسات المالية العالميّة المتوحّشة.
فكرة «الإصلاح» الحيّة هي التي تعتني بثقافة الإنسان بما هي عقليّة ونمط سلوك وطريقة في الحياة، وهي كما عرفها مالك بن نبي «مجموعة من الصّفات الخلقيّة والقيم الاجتماعيّة التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أوّلي في الوسط الذي ولد فيه والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته»(2). «الإصلاح» الثقافي هو ركيزة البناء الحضاري للأمم ومن دونه فإنّ كل الإنجازات والمكاسب إن تحققت لا تعدو أن تكون وهما وزبدا يذهب جفاء ولا ينفع النّاس في شَيء . 
الاعتناء بثقافة الإنسان تنطلق بالاستماتة في الدفاع عن الحرّية كمبدأ أساسيّ للحياة الفرديّة والجماعيّة وترسيخ ثقافة الحوار والتّسامح والقبول بالاختلاف والتعدّد وتربية النّاشئة تربية سليمة متوازنة تُحِـلُّ قيم الأخلاق والسّلوك الحسن والعمل والإتّقان والابتكار والتّضامن مرتبة عالية، وتطوير الحياة الثقافيّة بما يجعلها تساهم في تهذيب الذوق الفردي والعام  ودافعا للإبداع الفكري والأدبي والفنّي.
فكرة «الإصلاح» الحيّة هي التي تساهم في بعث الضّمير الإنساني من جديد، فالعالم قد دخل في مرحلة لا يمكن أن تحلّ فيها أغلبية مشكلاته إلاّ على أساس نظم الأفكار، وفي مرحلة كهذه يتحتّم على «الإصلاحيين» أن يولّوا أكبر قدر من اهتمامهم لمشكلة الأفكار، وبما أن فكرتهم تنبع من خلفيّة عروبيّة إسلاميّة تجديديّة وتنويريّة وتحرّرية فهم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بإشباع الخطاب الإسلامي بأبعاد حضاريّة وإنسانية أوسع، لإخراجه من طائفيته الخانقة إلى آفاق إيمانيّة وإنسانيّة أرحب وتحريره من الاستغلال السّياسي الرّخيص سواء من بعض أحزاب ما يسمّى بالإسلام السّياسي أو من الجماعات الإرهابيّة المتطرّفة، وهذا لا يتمّ إلاّ عبر «تجديد الفكر الدّيني».
فكرة «الإصلاح» الحيّة هي التي تدافع عن حرّية الفكر وتتبنّى كل موقف يخدم الإنسان ويعزز حريته ويحقق مقاصد الإسلام العليا في العدل الاجتماعي والحرية ونصرة المستضعفين مهما كان مصدرها سواء جاءت من داخل الفضاء الإسلامي أو من خارجه.  
على «الإصلاحيين» أن يفكّروا جيّدا وبعمق وفق أولويات ومصالح المجتمع العليا، وليس استجابة لأسئلة يطرحها الفكر التّقليدي الموروث أوالنّخب المؤدلجة أو تفرضها علينا العولمة وما تسوّقه لنا من أفكار.
فكرة «الإصلاح» الحيّة هي التي تساهم في الارتقاء بالوعي البيئي للإنسان وتساهم مع مختلف الأطراف المعنيّة في الحفاظ على حقّ الأجيال القادمة في العيش على سطح الأرض في بيئة سليمة وبالتاّلي فهي فكرة مناضلة تفضح جشع القوى العظمى واستغلالها الفاحش للثّروات الطبيعيّة، ممّا تسبب في تغيّرات مناخيّة خطيرة أصبحت تهدّد الحياة على وجه الأرض وتنذر بمخاطر وكوارث رهيبة. 
فكرة «الإصلاح» الحيّة هي التي تعمل من أجل تأطير الشّباب وتثويره في اتجاه البناء والابتكار وتغرس فيه فلسفة الحياة في سبيل الله بعد أن هيمنت عليه فلسفة الموت. يقول  الكاتب السّوري جودت سعيد : «في شباب العالم الإسلامي من عندَهُم استعدادٌ لبذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الإسلام، ولكن قلّ أن تجد فيهم من يتقدم ليبذل سنين من عمره ليقضيها في دراسة جادّة، ليُنضِجً موضوعاً، أو يصل به إلى تجلية حقيقية»(3)، أن نتعلّم كيف نعيش في سبيل الله لنعمّر الأرض ونخدم المستضعفين والفقراء ونبني المشاريع ونضع البرامج التي تحرّرنا من تبعيّة قوى الاستكبار العالميّ وتحقق الرّفاه والعيش الكريم للنّاس من حولنا، ذلك هو الجهاد الحقّ الذي نفتقر إليه. لقد خلقنا الله لنعيش لا لنموت وما الموت إلاّ لحظة بين حياة وحياة.
إن الفكرة التي ترفع لواء الإصلاح في مجتمعنا يجب أن تتقدّم ثقافيّا قبل كلّ شيئ وحينما يصير التّوجه الثّقافي والاجتماعي ضابطا رئيسيّا لخط سيرها ويكون التحرك السّياسي الناضج أحد أبعاده، فإنّها ستنجح في اقناع الجماهير وخاصة الشّباب منهم وبإمكانها أن تُحدث التّغيير المطلوب. ستبقى فكرة الإصلاح حيّة وسنواصل التّمسك بها وسنعمل من أجل أن نغيّر ما بأنفسنا حتّى يغيّر الله واقعنا إلى أفضل حال. « إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (4)
الهوامش
(1) انظر مقالنا «في مأزق العائلة الديمقراطيّة وفشل أحزابها»صدر بالعدد 76 بتاريخ 20 فيفري 2015 أي قبل اتخاذ اللجنة المركزية قرار حلّ الحزب بأكثر من شهر.
(2) مالك بن نبي - مشكلة الثقافة. دار الفكر ، الجزائر. ص74
(3) «حتى يغيروا ما بأنفسهم» - جودة سعيد، مدخل الكتاب ، مطبعة زيد بن ثابت الأنصاري الطبعة السادسة - دمشق
(4) سورة الرعد - الآية 11