من وحي الحدث

بقلم
فيصل العش
منتدى الفارابي ... حلم يتحقق

منذ سنة أو يزيد ، اتصل بي أحد الأصدقاء ليطرح علي فكرة المشاركة في حوارات تجمع نخبة من رجـــال التعليـــم والمثقفين من صفاقس من أجل التفكير في بعث جمعيّة  فكرية ثقافية ذات أفق إنساني وتكون من حيث المرجعيّة الفكريّة الحضاريّة عربيٌّة إسلاميٌّة ، يسعى المنتسبون إليها إلى الاشتغال على قضايا الفكر والثقافة والتربية والفنون والقيام بدراسة واقع الساحة الوطنية خصوصا والعالمية عموما من حيث الإنتاج الفكري والثقافي والتربوي والفنّي والبحث في الإشكاليات المطروحة من أجل تقديم مقترحات وبدائل كفيلة بالدفع نحو الابداع في هذه المجالات. سعدت للمقترح وانضممت إلى المجموعة التي توفقت بعون الله وقدرتــه بعد سلسلة من الجلسات والحوارات في تأسيس ”منتدى الفارابي للدراسات والبدائل“ على أسس ثابتة و مبادئ واضحة المعالم وتمّت صياغة وتحديد أهدافه ووسائل وشروط تحقيقها في بيان تأسيسي صدر بالمجلّة الورقية ”كلمات“ ويصدر في هذا العــــدد من مجلتنا ”الاصلاح“ وسيتم تقديمه إلى وسائل الإعلام ومناقشته في تظاهرة بمناسبة يوم الأرض لهذه السنة (30مارس 2013).

تميّز نشاط منتدى الفارابي للدراسات والبدائل خلال العام المنقضي بالتنوع شكلا ومضمونا حيث نظّم عدّة لقاءات ونــدوات مع مفكرين وباحثين من مختلف الإختصاصات والمشارب الفكرية ووزّع المنتدى ورقات علميّة تتعلّق بمضمون كلّ لقاء فكـــريّ. ولأن المنتدى يذهب إلى أنّ ”الفنون الرّفيعة والتّعبيرات الثّقافيّة المبدعة والمشاريع الفكريّة الأصيلة كفيلةٌ بإنجاز تّغيير نّوعيّ عميق لعالم القيم والمعايير“ (1) نظّم تظاهرة ثقافيّة بعنــــوان ”على خطى الثّورة على أمل أن تكون ”مساهمةً جادّةً فــــي تكثيف الزّخـــم الثّـــوريّ في بعديه الرّوحيّ والرّمزيّ وبادرةً أوّليّة للدّفع نحو قطب ثقافيّ نشيط وطلائعيّ بولاية صفاقس“(2) وقد جمعت هــــذه التظاهـــرة بين المسرح والشّعــــر والموسيقى فكان اللقاء مـــع المتميّـــز  ”جمال الصليعـــــــي“ يـــــوم 29 ديسمبر 2012 ثم مع عرض مسرحيّة ”آخر بني ســــرّاج“ لفرقــــة حليمــــة داود للإنتاج المسرحــــيّ  يوم 30 ديسمبر 2012 وأخيرا باستضافة فرقة ”المرحلة“ للأغنية الملتزمة بالمسرح البلــــدي بصفاقــــس يوم 26 جانفي 2013) .

ولأن المنتدى لا يعمل في مكاتب مغلقة ولا يهتم فقط بالدراسات والبدائل وإنما يتفاعل ويتواصل مع المخـــاض الثــــوري بالبـــلاد فقد أصدر بيانات تتعلّق ببعض الأحداث الهامّـــة المسجّلة وطنيّا خلال سنة 2012 نُشرت ببعض الصّحف ورُفعت إلى ممثّلي الشّعب بالمجلس الوطنيّ التّأسيسيّ أهمّها بيان حول إشكاليّة”مصدريّة الشّريعة“ وبيان حول أحداث العبدليّة بعنوان: ”من قصر العبدليّة إلى متحف خير الدّين: الفنّ التّشكيليّ التّونسيّ ومغالطات أشباه الفنّانين“. 

 

الندوات والمحاضرات

في بحثه في المسألة التّربويّة ” من زوايا نظر مختلفة متكاملة تاريخيًّا وسوسيولوجيًّا وفلسفيًّا ومن أجل الكشف عن الأسس الملائمة لبناء منظومات تربويّة أصيلة وخيارات بيداغوجيّة "علميّة" بعيدًا عن كلّ أشكال الاستبداد ومظاهر "الواحديّة" الفكريّة والثّقافيّة الّتي حوّلت المؤسّسة الترّبوية بتونس إلى مؤسّسة "لتنميــط" العقــول و"تسطيح" الوعــــي و"ابتذال" الـذّوق.“(3) طرح منتدى الفارابي سؤالا حول كيفيّة تأسيس مدرسة، في سياق الثورة والمسار الديمقراطــــي، ”قادرة على تربيــة إنســان متجـــذّر في هويّته معتزّ بانتمائه، حرّ مبدع، على نحو تتحقّق معه شروط الانفتاح الإيجابيّ على القيم الكونيّة ومكاسب التّقدّم الإنسانيّ“(4) وخصص مشروعين دراسيين الأول بعنوان”أسباب العطالة الثّقافيّة وشـــروط الإبــــداع“ والثاني بعنـــوان ”التّربية والتّعليم بتونـــس“. ونظّم في الغرض لقاء فكريا مع الفيلسوف أبي يعرب المـــرزوقـــيّ قدّم خلاله محاضـــرة بعنــــوان: ”الإصلاح الثّقافيّ والتّربـــويّ“ وذلك يوم الأحد 29 أفريل 2012 وندوة جمعــــت بيـــن  المـــؤرّخ علي الزّيدي وعالم الاجتماع محمود الذّوّادي، حيث قدّم الأول محاضرة بعنوان: ”التّعليم التّونسيّ من الاستعمار إلى الاستقلال، أيّة مكاسب؟“ وألقى الثاني محاضرة بعنوان:”الصّورة النّفسيّة والاجتماعيّة للّغة العربيّة فـي التّعليــم والمجتمــع وتعثّــر التّعريــب“ وذلك يوم الأحد 03 جوان 2012. 

وفي افتتــــاح الموســــم الثقافـــي 2012-2013، وبالتنسيــــق مع المندوبية الجهوية للثقافة بصفاقس وكرسي اليونسكو للفلسفة بالعالم العربي ومركز ابن عاشور للتنوير، نظّم منتدى الفارابي لقاءا فكريّا مع الفيلسوف فتحي التّريكي ألقــــى فيـــــه محاضـــــرة تحت عنــــوان:”فلسفــــــة التّآنـــس“ وذلك يوم الأحد 04 نوفمبر2012. 

ولأن القائمين على منتدى الفارابي يؤمنون بأن ”التّدافع الايجابيّ للأفكار عبر مقارعة الحجّة بالحجّة داخل فضاء الحوار العقلانيّ وأرضيّة " الصّداقة المعرفيّة " هو المناخ الكفيل بتطوير الوعي وإنضاج الشّروط الفعليّة للتّحرّر“(5) ولقراءة ما حدث في تونــــس من منظور سوسيولوجي ، نظّم الفارابـــي لقــــاء فكريــــا مع  عالم الاجتماع السياسي الدكتور سالم الأبيض وهو أحد الباحثين المبرّزين في الشأن السوسيولوجي بالجامعة التونسية وأحد الوجوه ”العروبية“ المعروفة في تونس ليجيـــب من خــــلال محاضرتـــه عن السؤال التالي : ” هل تفسّر النّظريّة السّوسيولوجيّة التّقليديّـــة ما جرى ؟“ وكان ذلك يوم الأحد 25 نوفمبر 2012. 

لقد ثبت للعيان ”تورّط بعض النّخب المثقّفة في إفساد المؤسّسات الثقّافية والإعلاميّة والتّربويّة وتحويلها إلى أوكار إفساد الناشئة ذوقا ومعرفة وسلوكا“(6) وهذا مؤشر على ضرورة فتح الملف الثقافي وإعادة النظر في دور النخب المثقفة ضمن المسار الثوري الذي تعرفه تونس وإحداث ثورة ثقافيّة تكون سندا وحاميا لمكتسبات الثورة الشعبية التي عاشتها البلاد. ويعتبر منتدى الفارابي للدراسات والبدائل أن ”الثورة الثقافيّة لا تكون بنسخ الماضي وفسخ الحاضر، ولا هي تكون أيضا باستيراد حلول جاهزة والتّملّص من المواجهة الفعليّة لمشكلاتنا في خصوصيّتها. الثورة الثقافية تحكمها جدليّة الماضي والحاضر من أجل تكوين رؤية تستشرف بناء نموذج مجتمعــيّ حرّ وفعّال. فالبناء الجيّد لا تقدر على انجازه إلا العقول الجيّدة الواثقة من أصالتها، المعتزة بهويتها، والمنفتحة على الآخر، المتفاعلة معه إفادة واستفادة“(7). وللبحث في هذه المسألة انتظم يوم الأحـــد 27 جانفي 2013 لقاء فكريّ تحت عنوان:”رهانات الثّورة وتحدّياتها“. حاضر فيه الأستاذ الدكتور منصف ونّاس حول ” المثقّف ورهانات الثّقافة في مرحلة الثّورة“ والأستاذ الدكتور هذيلي منصر حول ” شرط الثّقافة.“ 

التقييم

هي سنة واحدة مضت من عمر منتدى الفارابي للدراسات والبدائل لكنهــــا كانت مليئة بالنشاط والمحــــاولات الجادّة والمفيدة. لا أجزم أن المنتدى قد نجح في تحقيق أهدافه التي رسمها لنفسه لكنه استطاع في وقت وجيز أن يضع اللبنات الأولى  لمشروعه الثقافي والفكري ويرسم الطريق الذي سيسلكه خاصة بعد أن أنجز رؤيته الفكرية التي سيعتمدها بوصلة توجهه إلى المسار الذي ارتآه لنفسه (8) وسيكون على عاتق أعضائـــه سواء بالهيئـــة المديـــرة أو بالهيئة العلمية المسؤولية في إنجاح هذا المسار وتحقيق الهدف المنشود.

ومن النقاط المضيئة التي تميّز منتدى الفارابي للبدائل والدراسات وتعطي أملا كبيرا لنجاحه :

◄وجود هيئة إدارية ناشطة على رأسها الأخ الدكتور سالم العيادي  وهو شخصية ديناميكيّة وفاعلة أهمّ ما فيه أنه يتمتع بخاصيتي الفارابي رحمه الله وهما الفلسفة والموسيقى فهو أستاذ مساعد للتعليم العالي في اختصاص فلسفة وهو في نفس الوقت موسيقار وعازف محترف. 

◄بالرغم من طغيان انتماء أعضاء الهيئة العلمية التقريريّة للمنتدى إلى الأســــرة التربويــــة ( 35 عضو من مجمــــوع 38 ) إلآّ أنها تتميز بالتنوع في الخطّة ( 16 تعليم عال و 15 تعليم ثانوي) وفي الاختصاص ( فلسفة، تاريخ، لغات ، اعلاميّة ، مسرح، موسيقى، فنون تشكيلية، تفكير اسلامي، علم النفس، الهندسة ، اجتماع...،) وهو ما يجعل الهيئة متنوعة وثريّة.

◄ التفتح على مختلف المدارس الموجودة على الساحة الفكرية التونسية ويظهر جليّا في تنظيم المنتدى لندوات ومحاضرات لشخصيات مختلفة المشارب الفكرية ( القومية والإسلامية واليسارية ....) وهذا يؤكّد أن المنتدى لن يكون أسيرا لإيديولوجية معيّنة ولن يكون منبرا ثقافيّا لتيار معيّن يقصي الآخرين بل مجالا  للتّدافع الايجابيّ للأفكار عبر مقارعة الحجّة بالحجّة وفضاء للحوار العقلانيّ وأرضيّة للصّداقة المعرفيّة من أجل بناء أموذج ثقافيًّ كونيًّ قوامه الحقّ والحرية والتواصل الخلاّق.

غير أن نجاح المنتدى في تحقيق أهدافه لن يحصل إلا إذا تكاثفت جهود مؤسسيه لتوسيع النشاط ليشمل جوانب أخرى فنيّة وثقافية والعمل على مزيد الانفتاح على الطاقات الخلاقة في كل المجالات الثقافية والفنية والفكرية. كما أن هذا النجاح يتطلب تمويلات هامّة هي مفقودة في الوقت الراهن لكننا نأمل أن يتم توفيرها سواء بالدعم المباشر من القائمين على الثقافة والفكر والتربية والفنون بالبلاد أو عن طريق رؤســاء الأموال الوطنييـــن الذين يطمحـــون إلى تحقيق نمو وازدهار اقتصاديين وهو ما لا يتحقق في غياب ثقافة وطنية تدفع نحو إبداع فكريّ وتربويّ وثقافيّ وفنّيّ .

إن منتدى الفارابي مازال في خطواته الأولى لكننا واثقون من نجاحه في سلوك الطريق المؤديّة إلى النجاح وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة  وأول الغيث قطر ....

الإحالات

(1) د. سالم العيّادي. كلمـــة المنتــــدى في افتتـــاح تظاهــــرة ”على خطى الثورة“

(2) المصدر السابق

(3) د. سالم العيّادي. كلمة المنتــــدى في افتتــــاح اللّقاء الفكـــريّ في المسألة التّربويّة 

(4) المصدر السابق

(5) صابر الخراط. عضو الهيئـــة العلميّـــة لمنتدى الفارابـــي، كلمة المنتدى في افتتاح اللّقاء الفكريّ مع عالم الاجتماع السّياسيّ د. سالم الأبيض. 

(6) سفيان سعد الله. عضو الهيئة العلميّـــة لمنتـــدى الفارابـــي. كلمة المنتدى في افتتاح اللّقاء الفكريّ في رهانات الثّورة وتحدّياتها 

(7) المصدر السابق

(8) انظر البيان التأسيسي للمنتدى وهو عبارة عن ورقة في المشروع الفكريّ والثّقافيّ للمنتدى ”هويّة مبدعة في مدى الحرّيـّـة والكرامة“ في ركن وثائق بهذا العدد من مجلة ”الاصلاح“.