الأولى

بقلم
فيصل العش
لولا فسحة الأمل
 ما تراه اليوم وأنت تتعامل مع الناس من حولك بداية من أبنائك وزوجتك ومرورا بجيرانك وأصدقائك وأصحابك ووصولا إلى عامّة الناس الذين يحيطون بك من كل جانب من انصراف كلّي عن التفكير في المصير المشترك والبحث عن بدائل للنهوض بالمجتمع ككلّ مقابل الانغماس في الأنانيّة المفرطة وشخصنة المشاغل والاهتمامات والسعي إلى تحقيق الرفاهة الذّاتية خاصة المادّية حتّى وإن كانت على حساب الغير، يجعلك تتساءل عن الأسباب التي أدّت إلى هذا التفكّك المجتمعي وتشكّ في قدرة هذا المجتمع على النهوض والتّطور والخروج من عنق زجاجة الفقر والتّخلّف وتحقيق الرّقي والازدهار بل وحتّى العيش في كنف الأمن والأمان من دون تناحر ولا اقتتال. 
لقد غدا التّناحر والتقاتل واغتصاب الحقوق ورفض الواجب الجماعي سمة واضحة لمكونات المجتمع. فلم يعد مجتمعنا متماسكا ومتّحدا تحكمه منظومة قيم وتقاليد معيّنة ولم يعد لدى الفرد إيمان بواجب التّضحية ولا شعور بالمسؤولية نحو المجتمع بل أصبح همّه الوحيد كيفية تلبية رغباته الفرديّة واستغلال كلّ الامكانيات والفرص لتحقيق المتعة والمكاسب الذّاتية لا غير. 
إننا نعيش أزمة أخلاقيّة وقيميّة وثقافيّة خانقة نتيجة عقود من الاستعمار والاستبداد والاستحمار(1) أبعدتنا عن التماس الطريق الصحيح نحو الانعتاق الحقيقي والحرّية وممارسة انسانيتنا التي اجتباها الله لنا. 
لقد نفذت على المجتمعات العربية الإسلاميّة عمليّات «استحمار» مكثّفة ومتنوعة بعضها أشرف عليها حكام مستبدون ونخب انتهازيّة والبعض الآخر خصوم الأمّة وأعداؤها من صهاينة ومستكبيرن دوليين ولربّما قام هؤلاء باستحمار الحكام وبعضا من النخب ليتولوا الاشراف على تنفيذ مخططاتهم الاستحماريّة. 
والهدف الرئيسي من هذه العمليات الممنهجة هو تجهيل الناس ودفعهم نحو الغفلة والرضوخ والاستسلام، والاشتغال بصغائر الأمور والجزئيات فيصرفون أنظارهم عن مشاغلهم الأساسيّة ويسهل بالتالي استعبادهم وقيادتهم دون أدنى مقاومة أو اعتراض. يقول الدكتور الشهيد شريعتي : «الاستحمار نوعان ؛ استحمار مباشر وغير مباشر. المباشر منه عبارة عن تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، أو سوق الأذهان إلى الضلال. أما غير المباشر منه فهو عبارة عن إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة اللافورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة والفورية» (2).
 
واجهات الإستحمار
لقد نبّهت الثّورات العربيّة الأعداء من الدّاخل والخارج إلى أنّ عمليّات الاستحمار التي حصلت لم تؤت أكلها بالكامل وأنّ في هذه الشّعوب ما يجعلها تنهض بعد السّقوط ولذلك تكثّفت مجهوداتهم لتطوير أساليبهم الاستحماريّـــــة، فلا مجال عندهم لشعوب تفكّر أو تطالب بحقوقها وتأمل في الحرّية والعيش بكرامة. ولهذا كان التركيز كبيرا على تدمير ما تبقّى لهذه الشعوب من قيم ومبادئ معتمدين في ذلك على وسائل الإعلام بجميع أنواعها وعلى تغيير مناهج التعليم والتربية وعلى إبراز نمط ثقافي معيّن يساعد على تلهية الناس عن مشاغلها الحقيقية وتحويل اهتماماتهم نحو جزئيّات لا فائدة ترجى من الخوض فيها وهو ما نلمسه بوضوح في الآونة الأخيرة ببلادنا على سبيل المثال.
عمل «المستحمِرون» على واجهات ثلاث، أوّلها الواجهة الدّينيّة، فقد تأكّد لديهم أنّ للدّين دورا فعالا في استنهاض همم الشّعوب العربيّة الاسلاميّة فاتّجهت إلى محاربته بصفة غير مباشرة عبر التّركيز على المظاهر دون الجوهر ودعم الشّعوذة والقراءة الدّينيّة الجامدة التي تعطّل العقل وتمنع التّجديد وتعتمد الخرافة وتقديس الماضي البعيد وتأجيج الاختلافات المذهبيّة، كما عمدت إلى تشويه أحد ركائز هذا الدّين وهو الجهاد لإعلاء كلمة الله فصنعت بتواطئ بعض الأنظمة العربيّة جماعات إرهابيّة مسلّحة ترفع شعار الجهاد لكنّها في الواقع توجّه أسلحتها إلى صدور المسلمين لقتلهم وترهيبهم وتنشر الدّمار حيثما حلّت، ثم تقوم وسائل الإعلام بدورها في تصوير كلّ ما هو إسلامي على أنّه إرهابي فلا تفرّق بين «حماس» و«داعش» ولا بين «المعتدلين» و«المتشدّدين». إنّهم يريدون تكريس فكرة مفادها أنّ الدّين لم يعد أفيونَ الشّعوب فحسب بل سبب شقائها ودمارها. 
 الواجهة الثّانية هي الواجهة السياسية فلا مجال عندهم أن تبني الشعوب العربية الاسلاميّة أنظمة سياسيّة قائمة على الدّيمقراطية الحقيقيّة لأنّ مثل هذه الأنظمة سيكون عمادها المواطن الواعي وهو ما تخشاه، فعملت على منع ذلك إمّا بمساعدة الإنقلاب على اختيار الشّعوب أو بإدخال البلاد في صراعات مسلّحة أو بتخريب السّاحة السّياسية وربطها بالمال الفاسد وفرض ديمقراطيّة مغشوشة لا تفضي لحكم عماده الشّعب.
الواجهة الثّالثة التي يعمل عليها «المستحمِرون» هي الواجهة الثّقافيّة الفكريّة وهي الأهمّ  لما لها من علاقة مباشرة بالإنسان ووعيه وقيمه وسلوكه. لهذا ركّز هؤلاء على تلهية النّاس عن القراءة والتفكّر لأنّ بالقراءة والتفكّر يصنع الإنسان النّبيه ولأنّ «أوّل شرط من شروط القابليّة للاستحمار عند الشّعوب هو العزوف عن القراءة، قراءِة الواقع وقراءِة ما استؤمنت عليه من الكتاب. ولذلك كان التّفريط في فعل القراءة وفي حفظ ما استؤمنت عليه الأمّة من الكتاب إيذانا بدخول مرحلة الاستحمار»(3). يقول القرآن الكريم: «َمَثُل الَِّذيَنُ حِّمُلوا الَّتْوَراَةُ ثَّم لَْم يَْحِمُلوَهاَ كَمَثِل اْلِحَماِر يَْحِمُل أَْسَفاًرا».(4) 
إنّ الهدف الأساسي للإستحمار هو تدمير العقل لهذا نرى سلاح الإستحمار يقوم أساسا على محاربة العقلانيّة ونشر ثقافة الخرافة والميوعة وتلبية الغرائز من دون قيد ولا شرط. إنّه القضاء على إنسانية الإنسان وتحويله إلى كائن حيواني يُتحكم فيه حسب المصلحة والحاجة فيصنعون منه مجموعات لا تعرف غير الهرولة وراء المتعة وممارسة الرذيلة ونشر الفساد بين الناس ومجموعات لا تفهم لغة العقل بل تفهم لغة القتل وحمل السلاح .
يعمل «المستحمِرون» في نفس الوقت عبر مسارات ثلاث سياسية ودينيّة وثقافية مستغلّين تفوقهم التكنولوجي والمادّي وهيمنتهم على مختلف وسائل الإعلام وجزء لابأس به من نخب المجتمع العربي الأسلامي على تدمير هذا المجتمع وترويضه ليصبح  في متناولهم يتحكمون في مصيره. إنه إستعباد جديد بشكل مختلف.
إن مجتمعا بدون مرجعيّة وقيم ومبادئ لن يقدر على حماية نفسه والصمود أمام حملات إعادة صياغته على قياس المستكبيرن المحلين والدوليين وإنّ إنسانا بلا هويّة ولا عقل لا يمكن أن يكون نبيها فاهما لواقعه فاعلا فيه وهو أقرب إلى الحمار يسخّره الأعداء كيفما شاؤوا، لهذا فإنّ الحكومات والمنظمات والمؤسسات التي لا تراهن على بناء الإنسان والاستثمار فيه وتتسابق على تقديم أفضل الخدمات التعليمية والبرامج التأهيلية إيمانا منها أنّ الإنسان هو الثّروة الحقيقيّة لتحقيق أيّ نهضة لأيّ بلد هي في الحقيقة أداة من أدوات الإستحمار وهي سواء بوعي أو بدونه أخطر بكثير على المجتمع والوطن من القوى الأجنبية الاستعمارية.
لولا فسحة الأمل ...
إذا ما نظرنا إلى النتائج على أرض الواقع نستنتج أنّ الأمل في تحقيق النهضة المنشودة والتحرّر من براثن قوى الاستكبارلم يعد كبيرا، فالوضع حرج وليس هناك بوادر استفاقة لا على مستوى النخبة ولا على مستوى الشعوب. لقد غدت موازين القوى مختلّة بين «المستحمِرين» و«القوى الرساليّة» (5) فهذه الأخيرة وإن وجدت ليس لديها خطط وبدائل ثقافيّة وفكريّة واضحة وليس بامكانها اقناع النّاس وإخراجهم من واقع الاستحمار وما الأصوات التي نسمعها هنا وهناك سوى صرخات في واد غير ذي زرع  لا يسمع صداها غير أصحابها ... لكنّ التاريخ يعلّمنا أن «النفس الرّسالي» لا يموت وأنه منتصر لا محالة على «المستحمِرين» وإن طال الأمد «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ»(6) ذلك حكم الله لا ريب فيه «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» (7) 
علينا أن لا نستسلم برغم اختلاف موازين القوى، وعلينا بالعمل والأخذ بالأسباب وذلك بالتفكير العميق والجاد ووضع الخطط الكفيلة ببناء جيل طلائعي يرفض ثقافة الاستحمار، له إرادة مستقلة يستطيع من خلالها بناء مستقبله ومستقبل وطنه. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلاّ إذا تبنّينا فكرا رساليّا متحرّرا وأنتجنا ثقافة قادرة على الرفع من مستوى الإنسان ومواجهة كل المشاكل الناجمة عن الاستحمار والاستبداد وطغيان الأنظمـــة وتسلط القوى الخارجيّـــة. يقول جمال الدّين الأفغاني:«إن الأزمة تلد الهمّة ولا يتّسع الأمر إلاّ إذا ضاق ولا يظهر نور الفجر إلاّ بعد الظّلام الحالك»
الهوامش
(1) «الاستحمار» مصطلح أطلقه المفكر الشهيد الدكتور علي شريعتي في كتابه «النباهة والاستحمار»، وعرفه بأنّه: «تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره وحرف مساره عن النباهة الإنسانيّة والنّباهة الاجتماعيّة فردا كان أو جماعة» (ص. 44) وهو بالتالي «تسخير للإنسان كماُ يسَّخر الحمار» (ص. 43). 
(2) النباهة والاستحمار، د.علي شريعتي الصفحة 69 - الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان -الطبعة الأولى 1984
(3) انظروا إلى نسب الاستبداد والقابلية للاستحمار: المغرب ، الحسن الرويجل ، موقع مجانين
 http://www.maganin.com/content.asp?contentId=19255
(4) سورة الجمعة الآية 5
(5) نقصد بالقوى الرّسالية كلّ صوت يناضل من أجل تحقيق إنسانيّة الإنسان ومساعدته على القيام برسالته التي خلق من أجلها وهي تعمير الأرض وتحقيق صفات الله فيها من عدل وسلام ورحمة.
(6) سورة الرعد  الآية 17
(7) سورة القصص الآية 5.
-----
- مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com