الأولى

بقلم
فيصل العش
لكل داء علاج
 مرّة أخرى يضرب الإرهاب الأعمى تونس ويترك فينا جرحا عميقا من الصّعب أن يندمل، ومرّة أخرى تتعامل القوى النّافذة في المجتمع من سياسيّين وإعلاميين ومثقّفين بسطحيّة تزيد في التّأكيد أنّ أزمة تونس تكمن في نخبتها وأنّ الوضع الذي غدونا فيه ليس إلاّ نتاجَ سوء تصرّفنا وعدم حسن تدبيرنا.
لم تمض على عمليّة سوسة سوى أيام معدودات حتّى تّم إعلان حالة الطّوارئ العّامة في البلاد بعد أن تمّ في وقت سابق اتّخاذ عدّة قرارات بغلق عدد من المساجد ومضايقة عدد من الأيمّة ومنع بعضهم من ممارسة مهامهم كخطباء وتجميد نشاط مجموعة لابأس بها من الجمعيات الدينيّة. ومن يدري لعلّ هناك قرارات أخرى هي بصدد الإعداد والتّخطيط. ولست هنا بصدد نقد هذه القرارات أو مساندتها، فالأيّام كفيلة بإبراز نتائجها وما سينجر عنها من تأثير على الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسية. لكنّني أردت من خلال هذا المقال أن أضع النّقاط على بعض الحروف في مسألة القضاء على هذا الدّاء وكيفيّة علاج مجتمعنا منه لعلّ أصحاب القرار يلتفتون إليها ويأخذونها بعين الإعتبار عندما يضعون الخطط  لمقاومته، زاعما أنّ تجاهلها قد يعقّد الأمور ويصبح من العبث الحلم بامكانية القضاء على الإرهاب أو دحره.
 لا يختلف إثنان بأنّ الإرهاب داء استفحل في جسم أمّتنا من المحيط إلى الخليج بنسب متفاوتة ونما بشكل ملفت وخطير فتنوّعت أشكاله وتعدّدت مظاهره، حيث استفاد من هشاشة الوضع الأمني والاجتماعي وحالة الاحتقان والغليان التي ميّزت الفترة الانتقالية التي مرّت بها البلاد العربية. إنّه داء خبيث لكنّ معالجته ممكنة حتّى وإن تطلبت أشهرا وأعواما وتضحيات جساما مادام لكلّ داء علاج.
النقطة الأولى : في التشخيص
لكلّ داء علاج. والعلاج ينطلق بمعاينة المريض والتّشخيص الدّقيق للمرض والكشف عن أعراضه وتحديد خصائصه وتحليل أسبابه وفهم تجلّياته. وكذلك الإرهاب فإنّ التّصدّي له والقضاء عليه يمرّ عبر دراسة عميقة وهادئة لأسبابه والغوص في أعراضه بعيدا عن السّطحيّة في الفهم وحملات التّهييج والشّيطنة والتّجاذبات الايديولوجيّة العقيمة. إنّ إدراك ماهية الإرهاب ومحاولة تشخيص تجلياته ومعرفة أسبابه وما يدور حوله ليس بالأمر اليسير فالتّشخيص الدّقيق لهذا الداء يجب أن يكون من مختلف الزّوايا السيكولوجيّة (التركيبة النفسية) والسّوسيولوجيّة (البيئة الاجتماعية) والأكسيولوجيّة (منظومة القيم التي يستند اليها) والاقتصاديّة (تجارة السلاح والتهريب) والجيوسياسية (الوضع الاقليمي وتداخل المصالح الدولية). أمّا إذا اكتفينا بتحاليل سطحيّة لبعض الصحافيّين وأشباه المحلّلين المتخاصمين مع الهويّة والمهووسين حدّ النخاع بالعداوة لكلّ ما هو إسلامي فإنّ التّشخيص لن يزيد الأمر إلاّ تعقيدا، فمثلنا في هذه الحالة  كمثل مريض استعان بطبيب رعوانــــي أو بمتطبّـــــب لتشخيص مرضه وعلاجه فلم يزده ذلك إلاّ سقما وآلاما.
النقطة الثانية : في العلاج
لكلّ داء علاج. والعلاج يكون عبر أدوية بعضها لتسكين الألم أو تخفيفه أو علاج الأعراض المزعجة المصاحبة للمرض مثل الحمّى (الحلول المرحليّة) والبعض الآخر للقضاء على جرثومة الدّاء (الحلول متوسطة المدى) وأخرى لتقوية المناعة وحماية الجسد العليل حتّى لا يعود الدّاء لينهشه من جديد (الحلول طويلة المدى). وكذلك الإرهاب، فإنّ مقاومته لا تكون إلاّ عبر ثلاث مسالك في نفس الوقت، الأول يتمثل في العلاج الآني وهو ما تتكفل به الوحدات الأمنية من متابعة للعناصر الإرهابيّة والقضاء عليها أو مسكها والتحقيق معها، فلا يعقل أن نترك المريض يعاني من الآلام والأوجاع حتّى ننتهي من التّشخيص الدّقيق للمرض فلا بدّ من أدوية مسكّنة ومعالجة الأعراض الأوليّة للدّاء، وكذلك الإرهاب، فلا يعقل أن ننتظر حتّى ينتهي المختصّون من دراسته وتحديد أسبابه ووضع الإستراتيجيّات والخطط الكفيلة بوأده لنتحرك، فلابدّ إذا من التّصدّي الآني لمظاهره وتجلّياته في أرض الواقع من محاولات تخريب أو قتل أو فساد.
أمّا المسلك الثاني فيتعلق بالحلول متوسّطة المدى ويشمل تطوير قدرات البلد الأمنيّة والعسكريّة وتحسين الأساليب والتقنيات لحماية المنشآت والمواطنين ووضع القوانين الضّرورية لحماية رجال الأمن والعسكر وتسهيل مهامهم في مواجهة الجماعات الإرهابيّة ومداهمتها في حصونها بالإضافة إلى التّكوين المستمر للإطارات المكلفة بتفكيك الخلايا الإرهابيّة ومقاومتها والتّنسيق مع الدول الصديقة والشقيقة آخذين بعين الإعتبار تقاطع مصالح بعض الدول والقوى الإقليمية مع الجماعات الارهابية والعمل على الاستفادة منها في تحقيق أهدافها الاستراتيجيّة في الهيمنة وتركيع الشعوب التوّاقة إلى التحرّر. 
أما المسلك الثّالث فهوالمسلك الوقائي ويتمثل في تجفيف منابع الإرهاب وتطوير مناعة المجتمع ضدّ هذه الآفة. 
النقطة الثالثة : في الوقاية
قلنا أنّ المريض أثناء خضوعه للعلاج وبعد استئصال المرض لابدّ أن يبقى في محيط سليم تحت الرّعاية الصّحيّة المتواصلة وذلك باستعمال بعض الأدوية التي من شأنها أن تقوّي مناعته حتى لا يجد المرض طريقا للعودة إليه نهائيّا وإلاّ فإنّ الإنتكاسة إن حصلت ستكون كارثيّة وقاسمة للمريض. كذلك المجتمع الذي ابتلي بداء الإرهاب، فلا بدّ أن يتمّ توفير كلّ الظروف الملائمة ليكون عصيّا عن تغلغل الإرهاب فيه مرّة أخرى بعد القضاء عليه. ويشمل ذلك كل الأعمال التي تهدف إلى استئصال الإرهاب ومحاصرته وغلق المنافذ التي يمكن أن يتسلّل منها ليضرب من جديد والتي لا تدخل تحت طائلة العنف المشروع الذي هو من مهام المؤسستين العسكرية والأمنية:
* إن محاربة الارهاب لا يمكن أن تقتصر على استخدام القوّة، لأنّ الإرهاب الذي ابتُلينا به هو إرهاب جماعات دينيّة مأدلجة يتربّى أفرادها على حبّ الموت ويعتبرون أنفسهم مشاريع شهادة وعليه فلا معنى عندهم للتّهديد بالقتل والموت، فالموت هو أقرب طريق إلى الجنّة كما يعتقدون، ممّا يعني أنّ المواجهة تتطلّب سلاحا آخر قادرا على تدمير الأسس العقائديّة لهذه المجموعات أو على الأقل تحصين الشّباب حتّى لا يقع فريسة لها، ولا يتوفّر هذا السّلاح إلاّ في نشر فكر ديني معاصر يجيب عن تساؤلات الشّباب ويفتح باب الحوار على مصراعيه لمناقشة أهم القضايا المرتبطة بالإسلام كدين يعلّم الانسان كيف يعيش في سبيل الله ويكون دافعا لحراك فكري يؤدّي إلى الإبداع الثقافي والعلمي وتقديس العمل والإنتاج ونشر قيم التّسامح والخير بين البشر ولا يمكن أن يحدث هذا بالتّضييق على الجمعيّات الدينيّة وتجفيف منابع التديّن مهما كان نوعه وإنّما بفتح قنوات الحوار ودحض الحجّة بالحجّة وتسليط الضوء على الأفكار المتطرفة وكشفها تحت أشعة حوار موضوعي يقوده علماء وأيمّة متشبعون بقيم الإسلام الخالدة وبمبادئه وأصوله ومقاصده ، فالحوارات الهادئة هي الوصفة الأنجع لفك طلاسم ظاهرة الإرهاب المتشعّبة وقد علّمتنا التجارب أنّ محاولات التّضييق على التديّن تؤدّي دوما إلى نتائج عكسية وكارثية وتوفّر للجماعات الإرهابيّة حججا لإقناع الشّباب بضرورة الالتحاق بها دفاعا عن الدّين. 
إنّ تجفيف منابع الإرهاب لا يتمّ بتجفيف منابع التديّن بل بتشجيعه وخلق إطار فكري وثقافي لتجديد فهم العقيدة الإسلاميّة ودحض الحجج الواهية للفكر المتطرف بالحجّة والبرهان لا بالقمع والسجّان.
* علينا بالبحث الجاد في أسباب تدنّي الوعي الإجتماعي والفكري لدى شعوبنا ممّا سهّل نمو ايديولوجيات متطرفة تتبنى العنف والفكر السلفي التكفيري ترفض كل بناء إجتماعي عصري وتعمل جاهدة على إحياء نمط مجتمعي قديم بتعلّة أنه واجب ديني مقدّس. علينا كنخبة أن نصارح أنفسنا قبل شعوبنا بأن مشروع الدّولة الحديثة الذي جاء بعد نهاية الاستعمار المباشر لم يكن سوى مشروع مشوه لم يهدف إلى الارتقاء بالمجتمع وتحصينه من أشكال التّخلف الفكري والثقافي وإنّما جاء ليجسّد قطيعة مع ثقافة المجتمع ويكرّس تبعيّة إلى الغرب ففشل في أن يدخل عقل المجتمع وكانت النتيجة أنظمة دكتاتورية  ووعي اجتماعي وفكري مشوّه منبتّ تحوّل مع مرور الوقت وبتوفر ظروف أخرى إلى أرضيّة خصبة لقبول الفكر المتطرّف الجامد.
* ترسيخ مبدأ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان بشكل حقيقي يحسّ من خلاله المواطن أنّه شريك في الحكم وأنّه صاحب القرار وبالتّالي يصبح الدّفاع عن الوطن إحساسا طبيعيّا يكمن داخل كلّ مواطن ممّا يخلق فيه مناعة ضدّ أيّة محاولة للاستقطاب تقوم بها الجماعات المتطرّفة الإرهابيّة ويمنع نموّ أي تعاطف نفسي مع هذه المجموعات.  
* معالجة الشّعور بالغبن والظّلم الذي يسيطر على مجموعات كبيرة من الشّباب المتعلّم أصيلي المناطق الدّاخلية المهمّشة نتيجة وعيها بالحيف الاجتماعي السّائد بين المناطق والجهات نتيجة السّياسات الاقتصاديّة التي انتهجتها الحكومات فتسببت في اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وبين ذوي المصالح الاقتصاديّة الواسعة والفئات الاقتصاديّة المهمّشة. فمن دون هذه المعالجة لا يمكن أن نجفّف منابع الإرهاب لأنّ الجماعات الإرهابيّة ستجد حتما في هذا الشّباب الحانق من هو مستعدّ للتّضحية بحياته في سبيل تحقيق مكانة أو التّخلص من واقع الحياة. لهذا فإنّ التّخطيط المحكم لسياسات الدّولة وتبنّي منوال تنموي يساوي بين الجهات بل يميّز بعض الجهات المحرومة في التّنمية والتّشغيل وتحسين ظروف العيش، لأداة فاعلة لقطع الطريق أمام الجماعات الإرهابيّة حتّى لا تستغل الوضع النفسي والاجتماعي للشّباب وتقنعه بالالتحاق بها وممارسة الإرهاب أو على الأقل توفير المساندة اللوجستية (الإيواء، تقديم الحماية، توفير معطيات...) 
* تطوير المعالجة الإعلاميّة لآفة الإرهاب، فما نشاهده اليوم على السّاحة الإعلاميّة في تونس أو في غيرها من الدّول العربيّة سواء على مستوى تغطية الأحداث الإرهابيّة أو على مستوى تحليلها ومناقشتها، لا يخدم إلاّ الإرهاب ويغذّيه كما يدلّ على غياب رؤية تكامليّة لدور الإعـــلام فى إطار استراتيجيّات المواجهة السّياسيـة والتّعليمية والثّقافية والأمنيّة للإرهـــاب. وهو ما يحتّم علينا جميعـــا أن نقف لنقيّم المعالجة الإعلاميّة في جميع جوانبها حتّى تكون سلاحا ضدّ هذه الآفة وليس في خدمتها. 
فعلى مستوى الإخبار، قد تؤدّى بعض التّغطيات الإعلاميّة للعمليّات الإرهابيّة، وتضارب المعلومات والأخبار والقصص حولها إلى بثّ البلبلة والغموض وربما تؤدّي إلى خلق تعاطف بعض الشّرائح الإجتماعيّة مع منفّذي العمليّة أو الجماعة التي تقف وراءها. وأمّا على مستوى التّحليل، فإنّ إطلاق العنان للّسان ليقول ما يشاء من دون رقيب ولا حسيب كما يفعل بعض الصّحافيين والمحلّلين على شاشات التّلفاز أو عبر أمواج الأثير حيث يستغلّون كلّ حدث إرهابي ليكيلوا التّهم الجزاف إلى الشقّ المتديّن من التّونسيين، بل تصل ببعضهم الوقاحة إلى وضع الدّين الإسلامي نفسه في قفص الاتّهام ويتحوّلون في أغلب الحالات إلى دعاة لتصفية التّيار الإسلامي بأكمله، رافضين مبدأ  الفرز بين ما هو متطرّف ومعتدل ومعتبرين أنّ السّجون والمقابر الجماعيّة هى المكان الوحيد الجدير بهم جميعا. أليس نهج هؤلاء «داعشى» بامتياز كما يقال؟، ألا يساعد  هذا النّوع من الإعلام على نشر الثّقافة الإرهابيّة، ومن ثمّ إلى تنامي ظواهر العنف والإرهاب؟ 
إنّ للمعالجة الإعلاميّة دورا حاسما في مقاومة الإرهاب لكنّها قد تؤدّي إلى نتائج عكسيّة إذا لم نبادر بإدراجها ضمن استراتيجيّة واضحة المعالم لمواجهة الإرهاب تضمن حرّية التعبير لكنّها تحدّ من حرّية الكلام فشتّان بين «حرية الكلام» و«حرّية التعبير».
 -----
- مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com