الأولى

بقلم
فيصل العش
مقاصد الصوم المنسية
 لشهر رمضان خصوصيّات تميّزه عن باقي أشهر السّنة، وكلّما يهلّ علينا هذا الشّهر يتغيّر الكثير في حياتنا اليوميّة وينعكس ذلك على علاقاتنا وأعمالنا وتصرّفاتنا، وتجدني في كلّ مرّة أطرح على نفسي تساؤلات عديدة حول الصّوم والصّائمين، هل نحن نصوم في رمضان أم ننقطع عن الطعام؟ وهل نحن بحقّ نحقّق المقاصد السّامية من فريضة الصّوم أمّ نفعل العكس تماما ؟ وهل نحن نمارس شعيرة من شعائر الله أم نحيي عادة من العادات الاجتماعيّة لا غير؟ 
إيجابيات وسلبيات
لننطلق من معاينة الواقع ونبحث عن تأثير حلول شهر رمضان على مختلف جوانب الحياة عندنا، لنستنتج أنّ له إيجابيات عديدة لا ينكرها إلاّ جاحد ولكنّ السلبيات كثيرة ولها تأثير لا يستهان به. ونبدأ بالإيجابيات فنذكر أنّ بحلول رمضان تتنظّم العلاقات الأسريّة بصفة خاصّة والإجتماعيّة بصفة عامّة من حيث أوقات الأكل والاجتماع، فترى كل مكونات المجتمع تجلس إلى طاولة الأكل في نفس الوقت ويعمّ الهدوء الطّرقات والأنهج والسّاحات في فترة زمنيّة معيّنة ويجتمع المصلّون بأعداد غفيرة في المساجد للصّلاة وقراءة القرآن على عكس الأيّام العاديّة، وتُنصب موائد الإفطار الجماعيّة في ساحات القرى والمدن في تعبير صريح عن مدى حضور مبدأ التضامن الاجتماعي لدى النّاس الذي لا يحصل بنفس الحجم في بقيّة أشهر السّنة. أمّا السّلبيات فأهمّها ارتفاع نسبة الاستهلاك نتيجة ارتباط هذا الشهر الفضيل في أذهان النّاس بالطّعام والشّراب خاصّة ومن ثمّ الإقبال على الأسواق لاقتناء المواد الغذائيّة بكميّات تفوق الحاجة إلى حدّ الإسراف والتبذير(1)، ومنها طول السّهر في غير طاعة فيتحوّل اللّيل نهارا والنّهار ليلا، وتتأثّر بذلك قدرة الإنسان على العمل والإنتاج ممّا يؤدّي إلى انخفاض نسبتهما بشكل كبير ليصل الأمر في أغلب الأحوال إلى تعطيل مصالح النّاس والحاق الضّرر باقتصاد البلاد(2) بالإضافة إلى تغيّر سلوكيّات النّاس خلال النّهار وارتفاع نسبة التّوتر وسرعة الغضب بحجّة الصّيام حيث يصبح المزاج أكثر تعكرًا خلال شهر رمضان مقارنة بباقي أشهر السّنة.
انحراف عن المقصود
لم يشرّع الله سبحانه وتعالى لخلقه عبادة قطّ إلاّ ولها فلسفة وغاية وحكمة، ولم تشرّع إلاّ لتحقّق لهذا الإنسان مصالح في دنياه قبل آخرته، فجميع العبادات بلا استثناء لها تأثير إيجابي على حياة الإنسان فتسمو به وتجدّد له روحه وكيانه وتحقّق له الإنسجام مع ذاته وترفع من قدره ومكانته وتخلق فيه شحنات إيجابيّة تساعده على مقاومة الصعوبات والاحساس بالأمان والقوّة. ووجود سلبيّات بالحجم الذي ذكرناه يجعلنا نتساءل عن مدى تحقّق مقاصد شعيرة الصّوم التي ميّزها الله عن غيرها من العبادات بأن جعلها له وهو يجزي بها(3) فهل يعني هذا أنّ انحرافا ما قد حصل في تفاعلنا مع شهر الصّيام؟ وهل من طريق نسلكه ليحرّرنا من هذه السّلبيات الخطيرة التي جعلت من شهر رمضان شهر أكل وشرب وسهر وكسل وتراخ لا غير؟ وأيّ دور يمكن أن يلعبه في ذلك الأيمّة وعلماء الدّين الذي ينتصبون كلّ ليلة للحديث إلى النّاس في المساجد وعلى شاشات التلفاز؟.
نعم، لقد حصل انحراف كبير عن المقاصد الحقيقية للصّوم حين تحوّل إلى عادة اجتماعيّة سنويّة بلبوس ديني تقليدي لا تتعدّى التوقف عن الأكل والشّرب وممارسة الجنس طيلة أيّام الشّهر من دون إرادة ومجاهدة ومن غير إيمان عميق بفوائد هذا العمل وأهمّيته، حتّى إذا حضر الغروب وأذّن المؤذّن للصّلاة تحركت النفس لإشباع حاجتها أو أكثر من الأكل والشرب وغيره ثم تقضي بقيّة ليلها ساهرة لتتمتّع العين بما تقترحه عليها القنوات التلفزيّة من مسلسلات وبرامج ترتكز أساسا على اللعب والهزل وتهييج الغرائز.
إنّ سبب هذا الانحراف هو ضعف معرفة النّاس بمقاصد هذه الشّعيرة فيؤدّونها وكأنّها عادات وتقاليد ورثوها عن آبائهم فلا يشعرون بلذَّتها وحلاوتها، ولا يستفيدون من القيام بها على الوجه المطلوب بل قد تكون نتائج تأديتها بهذا الشكل وخيمة ومضرّة. ومقاومة هذا الانحراف لا تتأتّى إلاّ من خلال إبراز المقاصد السّامية والأهداف التي جاء الصّيام لتحقيقها وهذا يتطلّب الحديث عن فلسفة الصّوم وترسيخها في أذهان النّاس وعلاقتها بنظرة الإسلام للإنسان بكونه جسدا وروحا وهو خليفة الله في الأرض وهو بهذا المعنى مطالب بالعمل والتّعمير والإبداع وليس الاستكانة وتلبية الرّغبات وتحقيق الشّهوات. 
مقاصد الصيام
يقول الله تعالي : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (4) نفهم من هذه الآية أنّ الصّيام لم يفرض حصريّا على أهل القرآن وإنّما فرض أيضا على عباده الذين من قبلهم والله سبحانه لا يكتب شيئاً على عباده إلا إذا كان فيه مصلحة لهم ومنفعة، «أَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ» (5) فالله لا يريد من خلال الصّوم  أن يعسّر على النّاس ويجعلهم يعانون جسديًا واجتماعيًا واقتصاديًا لمدّة شهر كامل كل سنة «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (6) وإنّما الهدف من الصّيام هو بلوغ مرحلة التّقوى وهي قول الله سبحانه وتعالى «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». والتّقوى هي فعل الشيء أو تركه امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى، فهي سلوك إنساني يقوم على الالتزام والانضباط الإرادي الواعي والذي يتوّج بالتّحكم في الشّهوات والسّيطرة على الانفعالات ويشحذ طاقة المرء في التّحمل والصّبر والمكابدة. والإرادة لا تتأتّى إلاّ بتغليب الرّوح على الجسد والعقل على الغريزة. ولهذا نجد الصّوم  يقوم على التوقف عن الأكل (الغذاء الذي يحتاج إليه الجسد) والجنس (الغذاء الذي تحتاج إليه الغريزة) طيلة اليوم فتسكن بذلك الغريزة ويهدأ الجسد ليتحرك العقل وتنشط الرّوح. 
الصّوم رياضة للرّوح وتسليم القيادة للعقل وهو فنّ في التّربية يساعد الإنسان على الإقلاع على العادات السّلبية ويحرّره من أثر ثقافة الإستهلاك ويخلّص نفسه من رذيلة الجشع ويحلّيها بفضيلة القناعة ويقوّي فيه صفة الإخلاص فيحسن عمله ويزيد في إنتاجه وعطائه وينمّي لديه الرّغبة في التغيير والتّجديد وتحقيق ما يمكن أن يعجز عنه في أوقات الإفطار ولنا شواهد في تاريخنا وأدلّة تؤكد ما ذهبنا إليه(7). كما يُعد شهر رمضان أفضل مناسبة للتّغيير الاجتماعي كما التّغيير الذّاتي، ففي أجواء شهر الله الإيمانيّة يتغيّر كل شيء، وتكون النّفوس قابلة للتغيّر والتّغيير، والمجتمع قابلاً لحراك اجتماعي قوي في اتجاه تقليص الهوّة بين طبقاته وتجسيد مبادئ التّعاون والتآزر من جهة واستئصال جذور الفساد ومقاومته في مختلف الميادين وبهذا المعنى يتحوّل الصّيام من شعيرة دينيّة إلى نظريّة وفلسفة مقاومة وبناء أوطان وتحقيق استقلالها وعزّتها.
إنّ تسليم القيادة للعقل وتفضيل الرّوح على الجسد هو إعلان حرب على ثقافة الاستهلاك المهيمنة على العالم والتي صبغت حياة الشّعوب بالحروب والدّمار وهيمنة الإنسان على أخيه الإنسان وما تاريخ الحروب المدمّرة التي أنهكت الإنسانية إلّا قصص من الجشع الفردي وصراع على الثّروات لضمان الرّفاه لقلّة من البشر على حساب الأغلبية الباقية. إنّ الصّوم هو في أحد وجوهه تصادم مع النّظرة المادّية للإنسان المهيمنة على العالم والتي تؤمن بالجسد ولا تؤمن بالرّوح، وتؤمن بالحياة العاجلة ولا تكترث باليوم الآخر وهي لا ترى في الإنسان سوى حيوان ناطق همّه تلبية رغباته والبحث عن المتعة وتحدّد مطالبه الأساسيّة في الطعام والشراب والمسكن والجنس وهي مطالب للجسد لا غير وهي بالتالي تعادي عبادةً تُقيِّد الشّهوات ولو إلى حين.
إنّ الصّوم بما هو تفضيل للرّوح على الجسد إنّما هو سموّ بالإنسان نحو الكمال بما أنّ الرّوح التي فيه هي من روح ربّه «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» (8) وهو تذكير للإنسان   بمهمّته على الأرض وهي الخلافة بما تتضمّنه من معاني التّعمير ونشر السّلام والعدل والرحمة. 
إنّ مفهوم عبادة الصّوم يتجاوز البعد الشّعائري ليمتدّ إلى جوانب عديدة من الحياة وهي عبادة تتّجه بالقصد إلى الله لكنّ نفعها يعود على العبد في ذاته وعلى المجتمع الذي يعيش فيه وعلى الإنسانيّة جمعاء. هذه المعاني غائبة عن وعي أغلب الصّائمين وعن دروس الخطباء والوعّاظ التي لم تتحرّر من قيود الأحكام الفقهيّة .
ما نقترحه هنا هو عمليّة تربويّة ثقافيّة شاملة ومعقّدة في نفس الوقت يساهم فيها علماء الدّين والإعلام ورجال التّربية والتّعليم تسعى للنفاذ إلى المعاني العميقة لعبادة الصوم وتغوص في مقاصدها التّربوية وآثارها الروحية والمادّية على الفرد والمجتمع. إنّها لبنة من لبنات الثّورة الثّقافية التي نأملها من أجل تغيير حقيقي في واقعنا، ثورة على تقاليد اجتماعيّة بالية وفهم سطحي للدّين يحصره في عبادات لا علاقة لها بالواقع وطقوس لا تأثير لها في الحياة اليوميّة للنّاس. فهل باستطاعتنا تحقيق ذلك؟
الهوامش
(1) يرتفع استهلاك التونسي للخبز الصغير «باقات» خلال شهر رمضان بنسبة ٪135 ولحم الضأن بـ٪47 ولحوم الأبقار بـ٪130 ولحم الدجاج بـ٪40 والبيض بـ٪100 والحليب بـ٪120 والياغورت بـ٪140 (من حوار السيد طارق بن جازية مدير الدراسات والبحوث بالمعهد الوطني للاستهلاك في لقاء مع «الصحافة اليوم» - 21 جوان 2015). 
(2) تنخفض إنتاجية المؤسسات في أغلب الدول الإسلامية خلال شهر رمضان بنسب قد تصل إلى النصف، نتيجة انخفاض عدد ساعات العمل حيث يعمل الموظفون سبع ساعات عمل مقارنة بثماني ساعات ونصف في الأيام العادية، بالإضافة إلى حالات التغيّب والنوم خلال حصص العمل (...) 
(3) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ»(متفق عليه)
(4) سورة البقرة، الآية 183.
(5) سورة البقرة، الآية 184.
(6) سورة البقرة، الآية 185.
(7) تمت أهم الفتوحات وأكبر مفاخر الإسلام والعروبة في شهر رمضان بفضل أرواح صائمة عن الباطل مفطرة على الحق ( في 17 من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى / في 20 رمضان في السنة الثامنة للهجرة كان فتح مكة  / في رمضان 92 هـ  فتح الأندلس/ معركة عين جالوت (25 رمضان 658 هـ / 3 سبتمبر 1260)، أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، إذ استطاع جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز من إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول بقيادة كتبغا / في 10 رمضان الموافق للسادس من اكتوبر 1973 إنتصر الجيش المصري على العدو الصهيوني.
(8) سورة الحجر، الآية 29.
-----
- مهندس - مدير المجلة
faycalelleuch@gmail.com