الأولى

بقلم
فيصل العش
الأزمة الاقتصادية في تونس وكرة الثلج..
 بالرّغم من النّجاح النّسبي الذي حقّقته على المستوى السّياسي بعد تنظيم الانتخابات التّشريعيّة والرّئاسيّة وتحوّل أعداء الأمس إلى شركاء في الحكم نتيجة التّوافق الذي حصل بينهم والوصول إلى توليف حكومة نالت رضا نسبة كبيرة من نواب الشّعب، فإنّ البلاد التّونسيّة أصبحت تعيش هذه الأيّام حالة غير عاديّة بالمرّة تهدّد الاستقرار الهشّ وتفتح باب الفوضى على مصراعيه، فقد اشتدّت الأزمة الإقتصاديّة وبلغت مداها الذي ينذر بالخطر وأدرك الاحتقان الإجتماعي مستوى لم يسبق له مثيل وتعدّدت الإضرابات وتوزّعت على جميع القطاعات من دون قيد ولا شرط وتنوّعت الاعتصامات وتمّ تعطيل بعض المنشآت العموميّة وانخفض مستوى العمل عند التّونسيين إلى أدنى مستوياته(1). فهل حدث هذا التشنّج الإجتماعي بصفة عفويّة نتيجة تراكم المشاكل وانسداد الأفق وغياب الضّرورات الأساسيّة للحياة الكريمة، أم هو نتيجة حتميّة لسياسة نقابيّة فاشلة اعتمدها الاتّحاد العام التّونسي للشّغل خلال فترة حكم «الترويكا» ارتكزت على المطلبيّة المشطّة واستعراض القوّة والضغط من خلال سلاح الإضراب؟ وهل قدر هذه البلاد أن تعيش الأزمة تلو الأزمة؟ وهل باستطاعة الحكومة الحالية تحقيق شيئ ما لوضع حدّ لهذا النزيف وخلق جوّ من الثّقة والاستقرار يؤدّي إلى الخروج من عنق الزّجاجة والانطلاق في عملية التّنمية الحقيقيّة؟ 
أرقام تدق ناقوس الخطر
لننطلق في هذا المقال بفتح نافذة على الأرقام والمؤشرات، فهي الدّليل على عمق الأزمة وحدّتها وهي الكفيلة بالتمهيد لتجاوزها والتّغلب على الصعوبات التي تخلقها. ونبدأ بمؤشّر نسبة النّمو الذي يعتبر من المعايير الأساسيّة  للحكم على صحّة الإقتصاد أو علّته حيث نزل «للمرّة الأولى منذ الثّلاثي الأول لسنة 2012 تحت سقف %2 ليستقر في حدود %1,7»(2).وسيتواصل انخفاض هذه النّسبة خلال الثّلاثي الثاني والثّالث نتيجة لما يحصل في الحوض المنجمي ( توقف بالكامل لانتاج الفسفاط وما تابعه من مواد كيمياوية) والتّراجع المفزع للسّياحة التّونسية والذي سيتجلى أكثر في الموسم السّياحي الصّيفي...ويعتبر القطاع السّياحي قطاعا استراتيجيّا ضمن السّياسة الاقتصاديّة للبلاد، حيث يساهم بنسبة كبيرة في توفير العملة الصعبة والتشغيل(3) لكنّه يسير نحو الانهيار نتيجة عدم القيام باصلاحات هيكلية وجوهريّة في القطاع من جهة وهشاشة الوضع الأمني بالبلاد من جهة أخرى. 
وقد كشفت بيانات وزارة السّياحة عن تراجع المداخيل السّياحيّة خلال الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2015 بنسبة 13.4 % مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية.(4)
ومن الأرقام المخيفة التي لها انعكاسات خطيرة على الأمن الإجتماعي:
* ارتفاع مؤشّر التّضخّم الذّي بلغ معدّلات عالية مسجّلا نسبة 5.6 % خلال الأشهر الأولى من سنة 2015 وهو ما يمكن معاينته بسهولة من خلال ارتفاع الاسعار وغلاء المعيشة .
* ارتفاع نسبة الفقر لتتجاوز 29.6 % من السّكان مقابل 18.9 % سنة 2010 (استنادا إلى معايير البنك الدولي التي تأخذ بعين الاعتبار مستوى المعيشة ومنظومة مؤشّرات الفقر) وهي نسبة تزداد كلّما توجّهنا نحو المناطق الدّاخلية من البلاد.
 من المسؤول؟
لقد تميّزت الأشهر الأولى من هذا العام بتعثر كبير على المستوى الاقتصادي خاصة إذا علمنا أنّ «مقدرات الدولة من ناتج خام تراجعت بنحو نصف مليار دينار تونسي في الثلاثي الأول من سنة 2015 فقط، إضافة إلى تراجع الاستثمار الخارجي بنسبة 32 بالمائة عمّا كان عليه سنة 2010 (5) 
 ويعتبر الإرهاب والفساد الإداري والرّشوة والاضطرابات الإجتماعيّة المتواصلة (الإضرابات والاعتصامات المتتالية) التي شملت جميع القطاعات سببا رئيسيّا في غياب نتائج إيجابية سواء في الانتاج الوطني أو في الاستثمارات وبالتالي تدهور الحالة الاقتصادية للبلاد وصعوبة امكانية الخروج من الأزمة(6). 
وقد أرجع حسين الديماسي وزير المالية الأسبق والخبير الاقتصادي تردي الوضع الاقتصادي في تونس «إلى غياب إجراءات حكومية جريئة لإنقاذ القطاعات الأربعة الأكثر حيوية مثل استخراج المحروقات والمناجم ومشتقاته، وقطاع السياحة إلى جانب قطاع الصناعات التّحويلية مثل الكهرباء والميكانيك والملابس والأحذية ومواد البناء»(7).
وإذ تتحمّل الحكومة ومن ورائها الحزب الذي نال رضا النّسبة الكبيرة من المواطنين في الانتخابات التّشريعيّة والرّئاسيّة نتيجة وعوده التي لا تحصى ولا تعد، المسؤوليّة الكبرى في المأزق الذي تعيشه البلاد، فإنّ مؤسّسات أخرى لها دورها في الحياة العامّة على رأسها «الاتحاد العام التونسي للشغل» تتحمّل هي أيضا جزءا من المسؤوليّة باعتبارها حاضنة للتّحركات الاجتماعيّة التي حصلت ومازالت تحصل. 
فقد احتضن «الاتحاد العام التونسي للشغل» أغلب التّحركات الاحتجاجيّة والإضرابات العمّالية التي طالت المؤسّسات العمومية والخاصّة والتي حصلت في سنوات حكم «الترويكا» حيث تجاوز عددها  35 الف إضراب في أقل من سنتين (رقم قياسي لم يسجّل في تاريخ الإقتصاد العالمي البتّة) بتعلّة تحسين ظروف العمل تكبّدت من جرّائها الدّولة خسائر تقدّر بالمليارات. ولقد غدت المطلبيّة - نتيجة ذلك - ثقافة راسخة في أذهان التّونسيين والإضراب وسيلتهم المثلى لتحقيق مطالبهم، حتّى إذا سقطت «الترويكا» وجاءت حكومة «الحوار الوطني» ومن بعدها الحكومة الحالية، عجز «الاتّحاد» عن كبح هذه المطلبية ولم يعد بمقدوره وقف الإضرابات وضمان هدنة اجتماعيّة مع الحكومة تسمح لها بالعمل وتحسين الوضع. ولئن تنصّل «الاتحاد» من عدد من الإضرابات التي اجتاحت البلاد في الآونة الأخيرة وقرّر تجميد عضويّة عدد من النّقابيين المساهمين في الإضرابات العشوائيّة، فإنّ مسؤوليته تبقى كبيرة في ما آلت إليه الحالة الاقتصاديّة في البلاد.
كرة الثلج...
نتيجة للوضعيّة الحرجة للماليّة العموميّة وتدنّي مستوى النّمو وتقلّص الاستثمار وتعطّل آلة الانتاج في عدد من القطاعات الحيويّة فضلا عن تفشّي البطالة وارتفاع وتيرة المطلبيّة لدى النّاس، وفي غياب رؤية استراتيجيّة للحكم ومقاربة اقتصاديّة اجتماعيّة، سلكت الحكومات المتتالية بعد الثّورة طريق المديونيّة لتخفيف الضّغط عليها وتغطية الأزمة، حيث التجأت إلى التّداين الخارجي  بالرّغم من أنّ هذا التداين له انعكاسات خطيرة مستقبليّة على قدرات البلد واستقلالية قراره الوطني. فقد ارتفعت المديونيّة الخارجيّة ،التي كانت تناهز 5 مليار دينار مطلع التسعينات الى 26،5 مليار دينار، نسبة تقدر بـ 40 % من الناتج الاجمالي الخام(8) 
والخطير في الأمر أنّ نسبة كبيرة من الأموال المقترضة من الخارج ترصد لتسديد أصل وخدمة الدّيون، والنسبة الباقية تخصّص لمصاريف الاستهلاك والإنفاق العام وليس لخلق الثّروة والاستثمار. ويشير تقرير الهيئة الدوليّة الناشطة في مجال «الغاء ديون العالم الثالث» حول صعوبة الأوضاع الاقتصاديّة بتونس وتفاقم أزمة المديونيّة التونسيّة (صادر خلال شهر جانفي 2015) الى أنّ الإعتمادات المرصودة بميزانيّة 2015 لتسديد المديونيّة الخارجيّة والدّاخليّة للدّولة بلغت 5.130 مليون دينار ( 2,3 مليار أورو) وهو ما يعادل مجمل ميزانيات الصّحة والشّؤون الاجتماعيّة والتّشغيل والتّكوين المهني والتّنميّة والعناية بالمحيط والثّقافة والشّؤون الاجتماعيّة والبحث العلمي والسّياحة(9).
وعلى غرار كرة الثّلج، التي تتضخّم وتستجمع أثناء انحدارها، ستدخل تونس في دوامة التّداين الخارجي وستصبح في حاجة مستمرّة لمزيد التّداين ليس من أجل تحقيق تنمية وإنّما للحفاظ على قدرتها على تسديد الدّيون السّابقة وهو ما سيزيد في تعقيد الحالة التونسيّة ممّا يجعل العديد من التساؤلات تحوم في ذهن التونسيين خوفا من المصير الذي ستؤول اليه البلاد في الفترة القادمة خاصة مع وجود قوى داخليّة وخارجيّة متربّصة ستعمل على تعميق الأزمة وتدمير كل مقومات الاستقرار في البلاد.. فهل من وقفة تأمّل يشارك فيها الجميع من دون تشنّج ومزايدات، تُوضع فيها المصلحة العليا للبلاد نصب الأعين ويُبحث عن سدّ الثقوب قبل أن تتوسّع فيغرق المركب بمن فيه؟ 
الهوامش
(1) أكّدت دراسة أعدّتها الجمعية التونسية لمكافحة الفساد، أن معدل الوقت الذي يقضيه الموظف التونسي في العمل الفعلي لا يتجاوز الـ8 دقائق في اليوم، فيما لم تتجاوز أيام العمل 105 أيّام من أصل 365 - وكشفت نفس الدراسة أيضا أنّ نسبة غياب الموظفين داخل الإدارة التونسية ارتفعت بنحو 60%، مشيرة إلى أنّ نسبة الموظفين الحاضرين بصفة قانونية في مراكز عملهم والمتغيبين ذهنيا بلغت 80%. 
جريدة الضمير - الخميس 2 أفريل 2015
 (2) الحسابات القومية - الناتج المحلي الإجمالي - الثلاثي الأول لسنة 2015 -  المعهد الوطني للإحصاء 18 ماي 2015
(3) تعتبرالسياحة المصدر الثانيّ الرئيسيّ للبلاد من العملات الأجنبيّة بعد الصناعات التصديريّة بقيمة بلغت 2،8 مليار دينار(سنة 2013) - 
(4) السياحة في أرقام -إنجازات القطاع السياحي لسنة 2015 - الموقع الرسمي لوزارة السياحة
(5) حوار مع جريدة الصباح في عددها الصادر السبت 23 ماي 2015
(6) قال رئيس كنفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية ‹كوناكت› طارق الشريف في حوار مع إذاعة موزاييك في برنامج ميدي شو اليوم الأربعاء 6 ماي 2015 ، أنّ 45 % من أسباب التعطّل تعود إلى عدم توفر الأمن و44.9% بسبب الرشوة. 
(7) حوار مع جريدة الصباح في عددها الصادر السبت 23 ماي 2015
(8) السيد جمال بالحاج ممثل وزارة المالية خلال اللقاء الاعلامي الدوري الـ29 بمقر الوزارة الأولى - لابراس 23 ماي 2015
(9) المديونيّة خطر داهم على سيادة واستقــــلال تونس - أحمد بن مصطفــــى - موقع نواة - 15 فيفري 2015.