الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد الثامن والعشرين

 بسم الله الرحيم الرحمان والصلاة والسلام على الذي جعل حبّ الوطن من الإيمان

لا يمكن أن نمرّ مرّ الكرام على حادثة انزال العلم الوطني وحرقه أمام الملأ أثناء احتجاجات جماهير النادي البنزرتي على قرار الرابطة الوطنية لكرة القدم بعدم ترشيح الفريق إلى اللعب علــــى لقب البطولـــة، دون أن نشير إلى بعض الاستنتاجات. فالذي حدث ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير وهو ينمّ عن غياب الروح الوطنية والاستهتار بالقيم وضعف الانتماء واستضعاف سلطة الدولة.

الاستنتاج الاول يتمثل في أن الوطنية ليست شعارات ترفع ولا دروسا بلا روح تعطى للتلاميذ في المدارس أو عبر البرامج التلفزية وإنما هي شعور بالانتماء وإيمان بالوطن يترسّخان عبر تراكمات منذ الصغر ويكبران عبر احساس الفرد بالحرية والكرامة وبأن له دورا يؤدّيه ضمن عائلته الكبيرة (الوطن). وحيث أن بورقيبة قد استحوذ على الوطن وأصبح محوره وقلبه النابض ومضى إلى أن يكون فوق الوطن وأعلى مرتبة منه ( كلمات النشيد الوطني القديم والاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة عيد ميلاده التي كانت أطول في الفترة وأضخم في الميزانية من الاحتفال بالأعياد الوطنية) وحيث حوّل بن علي الوطن إلى سجن كبير للشعب ومرتعا لعائلته وأصهاره وغدا في عهده النشيد الوطني فلكلورا تُفتَح به وتُختَم اجتماعات التجمع ومناسبات القاء خطاباته. كما أصبح فرضا يؤدّيه التلاميذ قسرا في ساحات المؤسسات التعليمية بطريقة لا تترك في القلب موقعا للراية والنّشيد الوطنيين، فلا عجب أن يعمّ عدم الشعور بالانتماء إلى هذا الوطن لدى عامّة الناس ولدى الشباب بصفة خاصّة فيقوم بعض الشباب بتغيير راية الوطن براية بلد مجاور أو براية حزبه أو بعَلَمِ فريقه المفضل (لأن الحزب أو الفريق الرياضي هو بمثابة عائلته ووطنه) أو أن يسعى جاهدا إلى الحصول على جنسية أجنبية يحملها معه أين ما سار ودار.

الاستنتاج الثاني يتمثل في أن الثورة السياسية التي حدثت في تونس واطاحت بالطاغية، لم تصاحبها ثورة ثقافية وقِيَمِيَّة  تغيّر العقول وتمحو منها ما كان سائدا من مفاهيم وما تعلق بها من أدران الماضي وتملؤها بمفاهيم جديدة ترفع من مستوى وعي الناس وترتقي بهم إلى رتبة المواطنة. ستكون الثورة التونسية عرجاء ومصيرها الفشل ما لم تتحقق هذه ”المصاحبة“.

وتتحمل الطبقة المثقفة في البلاد الجزء الكبير من المسؤولية في تدنّي الروح الوطنيّة لأنها عجزت عن الفعل الإيجابي وظلت حبيسة معارك وهمية بين العائلات الايديولوجية بعيدا عن نبض الشارع وتطلعاته وهمومه. بل عمدت في العديد من المناسبات إلى استحضار صراعات من الماضي السحيق لتصفية حسابات قديمة نحن في غنى عنها. وارتهن بعضها  ”الوطنيّة“ في استخدامها كسلاح تهاجم به خصومها ويبرز ذلك بوضوح في اختلاف حماسة البعض في تعاطيهم مع عملية انزال الراية الوطنية بكلية الآداب بمنوبة وعملية حرقها ببنزرت.

إننا أمام رهان كبير يرتبط به مصير الثورة ونجاحها . إنه رهان إعادة بناء الروح الوطنية لدى التونسيين وإعادة ارتباطهم بوطنهم.  وهذا عمل جبّار يتطلب القضاء على التصحّر الفكري والتحديث القسري على حساب هويّتنا ومحاربة  كل مشروع يجعلنا نحتقر تاريخنا ووطننا. إن النضال الثقافي لم يعد فرض كفاية بل أصبح فرض عين على كل مثقف ومفكّر قادر على المساهمة في بناء ثقافة الوطن والمواطنة. وستبقى ”مجلّة الاصلاح“ منبرا للمقاومة الثقافية . فإلى أقلامكم أيها المناضلون الشرفاء، فالوقت لم يعد يسمح بالتراخي . والثورة الثقافية المتأكدة بحاجة إلى كل واحد منكم.