الأولى

بقلم
فيصل العش
النسيج الجمعياتي في تونس... الواقع والعوائق.
 يعبّر تنوع وتعدّد الجمعيات عن غنى و«جماعيّة» المجتمع ويعكس قناعته بقيم التّعاون والتّآزر والاستعداد للمساهمة في التنمية والرقي. وتلعب الجمعيّات التي هي أحد المكونات الرئيسيّة لما يسمّى بالمجتمع المدني، دورَ الوسيط بين الفرد والدّولة ولها دور مهمّ في تكوين المواطن والارتقاء بشخصيّته من خلال نشر المعرفة والوعي وثقافة الدّيمقراطية وروح المواطنة والمبادرة والتطوع وحثّه على المساهمة في الحياة العامّة وتعبئة الجهود الفرديّة والجماعيّة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتأثير في السّياسات العّامة وتعميق مفهوم التضامن الاجتماعي. وقد كان للجمعيّات التونسيّة أيّام الاستعمار المباشر دور فعّال في خلق الوحدة الوطنيّة وزرع روح المقاومة ومساعدة المناضلين السّياسيين والعسكريين «الفلاقة» مادّيا ومعنوّيا أثناء وقوفهم في وجه المستعمر الغاشم. وعوض أن تتمّ الاستفادة من هذا الرّصيد الثّري للعمل الجمعيّاتي الذي يعكس قناعة المجتمع التّونسي بمفهوم التعاون واستعداده للمساهمة التطوعيّة في التّنمية وفي بناء دولة ما بعد الاستعمار، عمد بورقيبة ومن بعده بن علي إلى تدجين الجمعيّات ومحاصرتها وجعلها تحت سيطرة الحزب الواحد من أجل خدمة برامجه ومخططاته. ولقد كان للثّورة المباركة الأثر البالغ في تغيير هذا الواقع حيث تحرّر التّونسيون وتوجّهوا نحو تأسيس الجمعيّات بشكل ملفت للنّظر. واليوم وبعد أربع سنوات ونيف من سقوط الحاكم بأمره «بن علي» يحقّ لنا أن نتساءل هل نجح التّونسيون في تكوين نسيج جمعياتي قادر على الفعل الحقيقي في واقعهم المعتلّ ؟ أمّ أنّ هذا الكمّ الهائل من الجمعيات ما هو إلاّ أرقام وحسابات بمعناها المادّي والمعنوي ؟ وما هي أهمّ العوائق التي تقف حاجزا أمام نجاح النسيج الجمعياتي التونسي في تحقيق أهدافه؟ وهل يقدر هذا النسيج على تحقيق إستقلاليته والإفلات من  تأثير الأحزاب السّياسية في الدّاخل وأجندات بعض القوى الخارجيّة بما فيها المخابراتية لبعض الدّول والجماعات الدّولية؟ 
النسيج الجمعياتي في تونس بعد 14 جانفي 2011
جاء في تقرير مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيّات «إفادة»(1) أن عدد الجمعيّات في تونس بلغ في موفى شهر أفريل 2015 ، 18 ألف و103 جمعيّة أي بمعدّل جمعيّة لكل 605 تونسي. ورغم أنّ هذا الرقم مازال بعيدا عن متوسّط عدد الجمعيّات بالولايات المتّحدة الأمريكية (جمعيّة لكل 75 مواطن) ومثله في فرنسا (جمعيّة لكل 65 مواطن) وهو أقلّ بكثير من عدد الجمعيّات بالمغرب الشقيق (116386 جمعيّة أي بمعدّل جمعيّة لكل 290 مواطن مغربي)، بالّرغم من هذا النقص فإنّ هذا العدد يعتبر هامّا مقارنة بما كان عليه قبل الثّورة حيث لم يتجاوز 9744 جمعيّة أغلبها تأسس بإيعاز من الفريق الحاكم أو على الأقل بموافقته ورضاه ليكون سندا للحكومة دون أن يكون لديه أي دور في رسم السّياسات، أمّا الجمعيّات الرّافضة لهذا التوجّه فقد كانت محاصرة ومحدودة الإشعاع بسبب ما يسلّط عليها من ضغوطات وانتهاكات. 
يحتكر إقليم تونس الكبرى 30 ٪ من العدد الجملي للجمعيات على المستوى الوطني يليه إقليم الوسط الشرقي  بـ 19 ٪ في حين لا تتجاوز نسبة الجمعيّات في الجنوب الغربي  7 ٪ وفي بقية مناطق الشّمال الشّرقي 9 ٪. وتدلّ هذه الأرقام على عدم التّوازن في التّوزيع الجغرافي للجمعيّات ويعود ذلك حسب تقديرنا إلى طبيعتها النخبويّة باعتبار أنّ النخب تتواجد أساسا في العاصمة وفي بعض المدن الكبرى.  ولعلّ نظرة سريعة إلى نوعيّة الجمعيّات تؤكّد هذا التمشّي حيث يتبيّن حسب نفس التقرير أنّ نصف الجمعيات التونسية (9018 جمعية) لها صبغة مدرسيّة (مؤسسات دعم تحت إشراف وزارة التّربية والتّعليم) أو ثقافية فنيّة أوعلميّة وهذه الجمعيّـــات لا يمكن أن يكون القائمون عليها من خارج النّخبة.
ولعلّ من الإشارات الهامّة التي تدلّ على أن أغلب الجمعيّات لم تؤسّس ضمن توجّه شعبي نحو ردم الهوّة الاجتماعيّة بين المدن الكبرى وبقية المدن ولم تهدف خدمة المناطق المحرومة التي همّشتها السّلطة السّياسية، أنّ مجموع الجمعيّات التي تنشط في تونس وصفاقس ونابل (3 مدن ساحليّة) يساوي مجموع الجمعيات التي تنشط في 13 ولاية تشمل كامل الجنوب التونسي بشرقه وغربه والشّمال الغربي والوسط.(2) أمّا الجمعيّات ذات المنحى الخيري والتّنموي فإنّ نسبتها لا تتجـــاوز 22 ٪ من العدد الجملي للجمعيات. 
نشاط ضعيف واستراتيجيّات مفقودة
لا يعبّر عدد الجمعيّات على حيويّة المجتمع المدني في تونس لأنّ كثيرا من هذه الجمعيات لا تعرف للنّشاط سبيلا، حيث تمّ تأسيسها إمّا تلبية لرغبات شخصيّة مرتبطة بالزّعامة شأنها شأن بعض الأحزاب السّياسية أو كردّ فعل عفوي على سنوات القمع النوفمبريّة. وإذا استثنينا الجمعيّات الرّياضيّة فإنّ بقية الجمعيّات القليلة النّاشطة هي إمّا :
* جمعيات احتجاجيّة ومطلبية مثل «إتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل» يعبّر من خلالها منخرطوها على مطالب تتعلّق بواقعهم وحقوقهم الاجتماعيّة. 
*جمعيّات ارتبطت بالمسار الانتخابي الذي أريد له النجاح داخليّا وخارجيّا ولعبت فيه هذه الجمعيات دور التحضير والمراقبة.
* جمعيات مرتبطة بالأحزاب والحركات السياسية وتنشط خاصّة خلال الفترات الانتخابيّة لدعم هذه الاحزاب.
* جمعيات دينيّة ودعويّة تعمل على نشر الأفكار التي تأسّست على أساسها وتهتمّ في مجال نشاطها بالمسائل الدينيّة مثل حفظ القرآن وإحياء المناسبات الدّينيّة والدّفاع عن المقدّسات وقد تعرّض بعضها إلى الغلق والتّجميد نتيجة ارتباطها بالإرهاب ومساندة الجماعات المتطرفة حسب الحكومة (3)
*جمعيّات ارتبط نشاطها بالتمويل الخارجي ضمن اتفاقيات شراكة مع منظمات دولية وأجنبية ويتمثل نشاطها أساسا في إقامة الندوات والتظاهرات والحفلات وإعداد الدراسات.
 ولتأكيد ما سبق ذكره يكفي أن نذكّر بما يلي :
* 22 % من الجمعيات فقط تمتلك مقرّا خاصا بها، أمّا البقية فهي موجودة بمكاتب مؤسسيها «محامين،خبراء محاسبين، أطباء وحتى مؤسسات إقتصادية» (20 %) أو بعناوين مساكن بعض مؤسّسيها(37 %) أو ليس لديها مقرأصلا (13 %) 
* 33 % من الجمعيات تمثّل امتدادا لهيكلة وبرامج أحزاب سياسيّة وتعمل كواجهة لهذه الأحزاب في مجال الأعمال الخيريّة والتعبويّة.
* 7 % فقط  من الجمعيات تعقد اجتماعاتها بصفة دورية حسب الصيغ القانونية  في حين نجد 52 % من الجمعيات لا تعقد اجتماعات البتّة.(4)
فشل في الاستقطاب وعوائق بالجملة
بالرّغم من شيطنة الأحزاب وحملات تشويه السّياسيين التي قادها جزء كبير من الإعلام لغايات معلومة أدّت إلى نفور التّونسيين وخاصّة الشّباب من الأحزاب ومن الانخراط في العمل السّياسي، فإنّ الجمعيّات (إلاّ ما ندر) لم تقدر على استقطاب هذا الشّباب ولم تنجح في جلب الأنظار إلى أنشطتها التي صرفت من أجلها أموالا لا يعلم أحد مصدرها ومأتاها، وقد يرجع ذلك إلى طريقة التّسويق لهذه الأنشطة أو إلى طبيعة الأنشطة نفسها التي لا تعني المواطن العادي ولا تمسّه في حياته اليوميّة وثقافته وعاداته. 
ومن بين العوائق التي تقف حاجزا أمام نجاح النّشاط الجمعياتي التّونسي في تحقيق أهدافه:
* صعوبة التّعرف على أنشطة الجمعيّات نتيجة سياسة إعلاميّة مغلوطة وخطاب نخبوي أكاديمي وبالتّالي صعوبة الانخراط في العمل التّطوعي بالنسبة للمواطنين.
* الافتقار إلى التّواصل والتّنسيق بين الجمعيّات وبالتّالي صعوبة التّشبيك بينها خاصة تلك التي تنشط في نفس المجال أو في نفس المكان.
* التّصنيف الإيديولوجي للجمعيّات سواء فيما بينها أو من طرف السّلط الحاكمة التي من المفروض أن تتعامل مع مختلف الجمعيّة حسب قدراتها الحقيقية وبرامجها وليس حسب خلفيتها الفكرية أو الإيديولوجيّة لكنّ حقيقة الميدان تؤكّد عكس ذلك (5) 
* ارتهان عديد الجمعيات للمموّلين الأجانب الذين لديهم أجنداتهم الخاصّة التي تختلف مع مطامح التّونسيين والتّونسيات. فقد باتت هذه الجمعيّات تخضع لشروط الجهات المانحة بغية الحصول على موارد ماليّة لأنشطتها. كما أنّها أصبحت تفضّل القيام بالأنشطة التي تموّلها الجهات في مجالات لا تستهدف الاستجابة للحاجيّات المحليّة الملحّة التي تتطلبها المرحلة. وهو ما يجعل هذه الجمعيّات مجرد آليات لتنفيذ المخططات الإستراتيجية للأجهزة المانحة.
فهل سيبقى النسيج الجمعياتي التونسي ضخم الجثّة عديم الفائدة مرتهن في أغلبه للخارج ؟ أم سيُعاد النظر في طبيعة هذا النسيج ليكون أكثر قربا من الشّعب حتّى يعمل ضمن أجندة قوامها تلبية حاجيّاته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية؟
الهوامش
(1) من مهام إفادة رصد واقع النّشاط الجمعياتى وجمع المعطيات والمعلومات والمنشورات المتعلقة به وتوثيقها وإرساء بنك.
(2)  انظر تقرير إفادة : http://www.ifeda.org.tn/
(3)  أصدرت حكومة المهدي جمعة بتاريخ 18 لأوت 2014 قرارا بتجميد نشاط 157 جمعية دينية ودعويّة بدافع “مقاومة الإرهاب” حيث رأت حكومة جمعة أن هذه الجمعيات أصبحت “مصدرا لتمويل الإرهاب” ووجب تجميدها إلى حين التثبّت من مصادر تمويلها وكيفيّة صرفه.
(4)  المرصد الوطني إيلاف لحماية المستهلك و المطالبين بالضريبة - دراسة حول الجمعيات غير الحكومية بتونس ما بعد ثورة 14 جانفي 2011 
(5)  أنظر على سبيل المثال تصرّف وزارة التربية والتعليم في اقصائها العديد من الجمعيّات المحسوبة على التيار الإسلامي في الحوار الوطني حول التربية والتعليم بالرغم من قدراتها في الميدان نذكر منها منتدى الفارابي للدراسات والبدائل وجمعية تطوير التربية المدرسية التي لها 15 فرعا جهويا وتغطي إلى حدّ الآن 18 ولاية.