الأولى

بقلم
فيصل العش
نعيب مجتمعنا والعيب فينا ...
 الذي يشاهد الصّورة التي أصبح عليها المجتمع التّونسي اليوم ويقارنها مع الصّورة التي ظهر بها هذا المجتمع إبّان ثورته المجيدة، يستغرب من التّحوّل السّلبي الكبير الذي حصل لها. ومن حقّه أن يتساءل هل هذا هو المجتمع الذي ثار على أحد أكبر طغاة العرب وأشدّهم بطشا؟ مالذي يجعل مجتمعا التحمت مكوّناته كلّها (ماعدى الفاسدة منها) للمطالبة بإسقاط النّظام وبالحرّية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعيّة وكان لها ردّ فعل عفويّ تجاه حالة الفوضى التي صاحبت الأيّام الأولى للثّورة تمثّل في تكوين لجان تسهر على الدّفاع عن الأحياء والأنهج و«عطّار الحومة» شارك فيها الكبير والصّغير؟ مالذي يجعل مجتمعا كهذا يغيّر بوصلته بسرعة وينخرط في اللاّمبالاة والسّلبية، لا تفكّر مكوناته إلاّ في مصالحها الذّاتية الضيّقة حتّى ولو كانت على حساب الآخرين، فانخرطت في موجة لا سابقة لها في المطلبية المشطّة وهي تعلم أنّ الدّولة لا حول لها ولا قوّة. وارتفعت أسهم العطالة (وليس البطالة) لدى شريحة واسعة من الشّعب التونسي وقلّ العمل وغاب الإنتاج وانتشر في المقابل الفساد وعادت الانتهازيّة والرّشوة والغشّ والكذب من أجل كسب سريع على حساب الآخرين لتصبح أكثر حضورا منها في العهد البائد؟
مالذي يجعل مجتمعا منهكا استقبل أثناء الثّورة اللّيبية وبعدها أكثر من مليون ليبيّ وإفريقي ليُطعمهم ويسقيهم ويأويهم على حساب قوته، ويعطي درسا للعالم كلّه في الإيثار والتّضامن مع اللاّجئين، يتغيّر في ظرف أربع سنوات فتخبو فيه روح التّضامن والتآزر ليس فقط مع جيرانه بل حتّى بين أبنائه؟
مالذي يجعل الشباب الذي تحدّى القنابل المسيلة للدّموع والرّصاص الحيّ أثناء الثّورة وأثناء اعتصامي القصبة 1 و 2 ينسحب بسرعة من السّاحة وينخرط في السّلبية واللاّمبالاة ويرفض المشاركة في الانتخابات ويعمد إلى الانتحار أو الالتحاق بالجماعات المسلّحة للقتال في الشّام أو يرمي بنفسه في البحر في اتّجاه أوروبا؟ 
أسئلة عديدة تفرض نفسها على كلّ متابع للشّأن التّونسي قد يكمن الجواب عليها في الصّدمة السّلبية التي حدثت للتّونسيين جرّاء فشل الطّبقة السّياسية التي تسلّمت الحكم مباشرة بعد الثّورة وإلى حدّ هذا اليوم في تحقيق أحلامهم في العدالة والكرامة والتّنمية والعيش السّعيد. فلا هي أحدثت تغييرا في السّياسة الاقتصاديّة فتحكّمت في الأسعار وضيّقت على المحتكرين والمهرّبين وخلقت مواطن شغل للعاطلين ولا هي قلّصت الفجوة بين الطّبقة الغنيّة التي قلّ عددها وازداد مالها وتنوّعت ممتلكاتها والطّبقة الفقيرة التي ازدادت فقرا وتوسّعت لتشمل الموظفين والمهندسين والمعلّمين وغيرهم من إطارات البلاد الذين لم يعد لديهم القدرة على مسايرة الارتفاع الصّاروخي للأسعار والغلاء الفاحش للوازم الحياة.  
ولعلّ الجـــواب يكمن في مـــــا يلاحظه المواطـــن العـــــادي من فوضى وانتشار للفساد في مختلف المرافق الاقتصاديّة والسّياسيّة والصّحية والتّربويّة والأمنية والاعلاميّة والقضائيّة.
ولعلّ الجواب يكمن أيضا في طبيعة ما يسمّى بالأحزاب السّياسية وجمعيات المجتمع المدني التي من المفروض أن تقوم باحتضان المواطنين وتأطيرهم وجمع شملهم والإجابة عن تساؤلاتهم وخلق روح المبادرة فيهم، لكنّها فشلت فشلا ذريعا فاكتفت الأحزاب بأنشطة باهتة ضمن حملاتها الانتخابيّة والتّحدث بنفس خطاب الوعود بتحقيق أهداف الثورة والتنمية العادلة والشّاملة حتّى إذا أُعلنت نتائج الإنتخابات أُغلقت المكاتب والمقرّات ليكتفي بعض السّياسيّين بالظهور في وسائل الإعلام ناقدين للحكومة ومتنبّئين بفشلها. أمّا جمعيات ما يسمّى بالمجتمع المدني فاكتفى بعضها  بتقديم «الصّدقات» لبعض العائلات المحرومة وبتنظيم ندوات وملتقيات بالشّراكة مع منظّمات دوليّة في أفخر النّزل يؤثّثها «أهل العلياء» من خبراء ومثقفين وسياسيين فيتحاورون ويتبادلون الرّأي حول قضايا الفقراء والمهمّشين!!! ثمّ يتحوّلون إلى مطعم النّزل فيأكلون ما لذّ وطاب حتّى تمتلئ بطونهم ثم يصدرون بيانا حول نتائج حوارهم ويتواعدون لتنظيم ندوات أخرى.
ليس العيب في التونسيّين فقد أثبتوا مرارا أن مخزونهم الثّقافي والاجتماعي غنيّ وفيه ما يجلب لهم احترام وتقدير الجميع، لكنّ العيب في تقديرنا يكمن في نخبه بمختلف مشاربها الفكريّة وفي المؤسّسات السّياسية والمدنيّة التي أنتجتها هذه النخب والتي لم تحقّق للمجتمع استقراره ولم تلبِّ رغباته ولم تساعده على تجاوز محنه.
ألم يحن الوقت بعد لوقف هذا النزيف فنراجع أنفسنا جميعا حتّى نعيد البناء من جديد على أسس صحيحة نابعة من طموحات المجتمع الأهلي وبمشاركته فنلتحم بالنّاس ونؤسّس معهم مؤسّساتهم المجتمعيّة التي يديرونها بأنفسهم عوضا عن الاستمرار في العمل ضمن مؤسّسات منمّقة الأسماء والشعارات لكنّها فارغة المضمون والفائدة فراغ فؤاد أمّ موسى. ... للحديث بقية...