الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد الخامس والعشرين

 بسم الله الذي خلق الإنسان حرّا والصلاة والسلام على محمد جهرا وسرّا

عمل بن علي وزبانيته خلال فترة حكمه على تشويه ثقافة الشعب وإرساء ثقافة جديدة ذات خصائص سهّلت السيطرة على المجتمع والتحكم في مفاصله  وارتكزت على الخوف والعنف والنفاق مستعينا في ذلك بماكينة أمنية عنيفة وشبكة من المفسدين من أشباه المثقفين والمتفرنسين. وقد وجد هذا النظام كل الدّعم من قوى الفساد الداخلي التي  رأت في مشروعه مجالا خصبا لتنفيذ مخططاتها، كما وجد الدعم الكافي من القوى الاستعمارية التي تعلم أنه من الصعب التحكّم في شعب متجذّر في ثقافته ومتمسك بهويّته.

استغل بن علي خوف بعض القوى الأجنبية من الظاهرة الإسلامية ومباركة بعض القوى الداخلية المحسوبة على العلمانيين لينفذ مخططا جهنميا للقضاء على كل مظاهر التديّن في البلاد متّبعا في ذلك سياسة تجفيف المنابع ومحاصرة كل فكرة تستند إلى الهوية العربية الإسلامية من جهة وتشجيع كل عمل ثقافي ليس وراءه فكرة أو هدف من جهة أخرى. ولئن تمكّن الشعب التونسي من الإطاحة برأس النظام وطرده خارج الديار وتحقيق نقلة نوعية في الجانب السياسي  بانتخابه من يمثله في الحكم وفي صياغة دستور جديد للمجتمع ، فإن الجانب الثقافي مازال عصيّا ومازال المجتمع تحت سيطرة ثقافة الاستبداد التي تعمل جاهدة بكل ما أوتيت من قوّة على تعطيل المسار الثوري ويظهر ذلك جليّا من خلال التعبيرات الثقافية التي تحصل هنا وهناك وفي أسلوب التعامل بين الفرقاء السياسيين والفكريين المرتكز على مبدأ الإقصاء واعتماد العنف اللفظي والجسدي عوضـــا عن الحوار والمجادلة. كما يظهر جليّا في سيطرة ثقافة المطالبة بدل العطاء والتعطيل بدل الدعم.

إن نجاح الثورة في تونس وإنجاز استحقاقاتها، يتطلب النجاح في تحقيق تحوّل  نوعيّ في المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعيـــة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلاّ عبر القيام بثورة ثقافية  تهدف إلى تحطيم ركائز ثقافة الاستبداد وبناء ركائز جديدة تقوم على مبادئ الحرية بدل القمع والكرامة والعزّة بدل الذلّة والمسكنة والعمل بدل التواكل والتعاون بدل عرقلة الآخرين والتضحية بدل المصلحية وحب الذات. ثقافة ديمقراطية تقدّس المواطنة وتكرّس سيادة القانون وتمنع المحسوبية وتعيد للهوية العربية الإسلامية مكانتها في عملية إعادة بناء النسيج المجتمعي .

لكن هذه الثورة لا يمكن أن تتحقق بين ليلة وضحاها، فتغيير الثقافات ليس بالأمر الهيّــن ويتطلب كثيــرا من الجهد والصبر والتخطيط المحكم. ولا يمكن أن تحدث هذه الثورة إلا إذا تكاتفت جهود السياسيين والمثقفين المدافعيـن عن الثورة بمختلف مشاربهم الفكرية، لخلق جوّ من الحوار والتقارب والتعاون بديلا عن محاولات الإقصاء والمواجهة. وهم بذلك يقطعون الطريق أمام قوى الثورة المضادّة المتمثلة في بعض المثقفيـن والسياسييـــن المنتمين إلى المدرستين الفرنسية والشيوعيّة بطابعهما الإقصائي المعادي للدّين وبقايا منظومة الفساد من جهة وبعض المتشددين الدينيين من جهة أخرى. 

ولتأسيس ثقافة تؤكد على الإبداع والابتكار ضمن رؤية تعددية تفاعلية وبناء مجتمع واثق من نفسه يلج عالم الحداثة وما بعد الحداثة مــن موقــع الإبداع لا الاتباع، فإن من واجب مثقفي الثورة التكفّل بترسيخ عقلية احترام الآخر وتكريس مبدأ التنوع وإبراز ميول التونسي إلى السلم والوسطيّة ورفضه لكل أشكال التطرف والعنف وذلك عبر مختلف الوسائل الثقافية المتاحة من مسرح وسينما وفنّ وموسيقى ومحاضرات وندوات، وبذلك يتسنى خلق مناخ فكري وعلمي يفجّر من خلاله شبابنا قدراته في مختلف المجالات.