الأولى

بقلم
فيصل العش
مغالطات حول الإرهاب
ما كنت لأكتب في موضوع الإرهاب ومخاطره وكيفية مقاومته، فقد سال حوله الحبر الكثير وكتبت مقالات وصنّفت كتب ودراسات، لولا أنّ طريقة معالجة هذا الموضوع من طرف العديد من وسائل الإعلام عندنا وبعض السّياسيين ممّن هم في الحكم وخارجه استفزتني ودفعتني دفعا للحديث في الموضوع والردّ على بعض المغالطات التي من شأنها أن تعقّد المشهد ولا تساعد على معالجة واقعنا من هذا الدّاء بشكل علمي وبطريقة صحيحة. وسأكتفي في هذه الورقة بذكر مغالطتين اثنتين ومعالجتهما بالحجّة والبرهان داعيا الجميع إلى الابتعاد عن المعالجات المغلوطة لآفة الإرهاب ومنبّها الجميع من الانزلاقات الخطيرة التي قد تؤدّي إليها مثل هذه المغالطات. 
الإرهاب دخيل علينا
المغالطة الأولى تكرّرت في أكثر من مناسبة وحاول البعض أن يكرّسها في ذهن المتلقي التونسي وهي أن ظاهرة الإرهاب دخيلة على بلادنا وهي نتيجة تساهل من تسلّم السلطة بعد الثورة وخاصة حركة النهضة مع جماعات المتشددين دينيّا حيث سمحت لهم بالتواجد ثمّ بالعمل العلني إلى أن حدث المحضور. والحقيقة أن الإرهاب ليس وليد اللحظة أو نتيجة ما حدث في البلد بعد 14 جانفي 2011 كما يدّعي البعض، فقد سبق وأن بلغ تخوم العاصمة في 2007 ( حادثة سليمان التي دامت أكثر من شهر كامل) وسبق أن ضرب في قلب جزيرة الأحلام سنة 2002 ( حادثة تفجير البيعة اليهوديّة بـ «الغريبة» من جزيرة جربة بواسطة عمليّة انتحاريّة خططت لها مجموعة لها علاقة بتنظيم القاعدة ونفّذها أحد أفرادها من التونسيين وقد أسفر الهجوم عن مقتل 14 شخصا منهم 6 سيّاح ألمان و6 تونسيين وسائح فرنسي وجرح ما يزيد عن 30 شخصا)، ومن قبل كان له موعد ذات أحد من شهر جانفي 1980 بقفصة حيث قامت مجموعة مسلّحة قدمت من ليبيا بشن هجوم مسلح على المدينة مستخدمة أنواعا مختلفة من الأسلحة وحاولت السيطرة عليها والقضاء على المؤسسات الأمنية بمختلف أنواعها. وهذه الأحداث هي أمثلة قد علم بها القاصي والدّاني نرى أنها كافية لدحر المغالطة المذكورة والتأكيد أن آفة الإرهاب قديمة وأن حدوثها في تونس لم يكن مقترنا بالثورة وما جاء بعدها.
المساجد مصدر تفريخ الإرهاب
المغالطة الثانية تتمثّل في اعتبار المساجد مصدر تفريخ الارهابين وبالتالي تعالت الأصوات هنا وهناك داعية الدولة لبسط سلطتها على أماكن العبادة من خلال وزارة الشؤون الدينيّة التي أعلنت مؤخرا على لسان المشرف عليها بأن الدولة ستمنع على سبيل المثال في خطوة أولى الإعتكاف في المساجد (1) وستتحكم من هنا فصاعدا في عملية تسيير دور العبادة ومراقبة الأنشطة فيها في خطوة يعتقد من دعا إليها أنّها ستحدّ من الإرهاب أو ستقضي عليه. غير أن الحقيقة مغايرة تماما، فأغلب الارهابيين الذين تواجدوا في البلاد ونفذوا عمليات إرهابية خطيرة  أو تمّ استقطابهم من طرف شبكات التعبئة باسم الجهاد في سوريا والعراق هم من الشباب الذي لم يتجاوز عمره الثلاثين سنة أي أنّ جميعهم تربّى في فترة حكم بن علي التي تميّزت بغلق المساجد والتحكم فيها وبثّ الأعين في أرجائها ومعاقبة روّادها ومنع الدروس والتدارس في جنباتها تحت شعار «استئصال التطرف» ونشر العقلانية والتسامح والاعتدال والتفتح على الحضارات الإنسانية. وهذا المعطى العمري يجعلنا نتساءل عن دور سياسة بن علي تجاه التديّن في بروز الأفكار الدينيّة المتشدّدة التي ساهمت بشكل كبير في ظهور الارهاب.
لقد اتّبع بن علي سياسة تجفيف المنابع، فأغلق المساجد ومنع فيها كل أشكال التعليم الدّيني ( الدروس والمحاضرات والحوارات ....) وغيّر المناهج التعليميّة وشجّع على نشر ثقافة الميوعة والاغتراب في محاولة منه للحدّ من ظاهرة التديّن والقضاء على خصم سياسي كان يقضّ مضجعه، فعمّق بذلك عن قصد الفراغ الدّيني والروحي الضارب في عمق المجتمع التونسي منذ العهد البورقيبي، فدفع بذلك نفر من الشباب المتعطّش لدينه إلى البحث عن هويّته وما يثلج صدره ويحقق له توازنه الروحي خارج المساجد من خلال ما تقدّمه القنوات الفضائيّة ومواقع الشبكة العنكبوتيّة. ولأنه كان يشعر بالقهر والكبت ويرى بأمّ عينيه كيف يحارب التديّن صباحا ومساءا وفي كلّ حين، فإنّ هذا الشباب كان مهيئا لتبنّي الأفكار المتطرّفة والسّقوط في براثن الجماعات التي كانت ترفع شعار نصرة الإسلام والمسلمين ومحاربة «الطواغيت». وبنظرة سريعة إلى عدد التونسيين الذين التحقوا بهذه الجماعات للقتال في مرحلة أولى مع القاعدة في افغانستان والبوسنة والعراق ثمّ مع جيش النصرة وداعش بأرض الشام (2) يمكن أن نستنتج مدى خطورة التصحّر الدّيني وفشل سياسة تحجيم دور المسجد كمؤسسة اجتماعيّة وتعليميّة وثقافيّة. 
إن مثل هذه الممارسات إن صحّ اعتمادها في مقاومة الإرهاب لن تزيد إلاّ في تأزيم الوضع الدّيني في البلاد وستقدّم للإرهابيين حجّة إضافيّة لإستقطاب المزيد من الشّباب. ولهذا فإنّ الحلّ ليس في سيطرة الدّولة على المساجد ودور العبادة وتحجيم دورها بل في تشريك المجتمع ليتحمّل مسؤوليته كاملة في حماية أماكنه المقدّسة وفتح المجال لتقوم هذه المؤسسة بدورها في الدفاع والذود عن مبادئ الإسلام وقيمه النبيلة السّمحاء وإبرازها ونشرها في مواجهة حملات التشويه التي تتبناها التنظيمات الإرهابية. 
للمسجد دور أساسي في تحقيق الأمن الروحي للأفراد وهو في خدمة المجتمع المسلم من خلال مهمّته التربوية في الحفاظ على قيمه وأخلاقه وهو احدى الدعائم لتحقيق الأمن الاجتماعي ومقاومة كل أنواع الفتن وتعميق الوحدة ونبذ الفرقة. ولهذا فإنّ من الأجدر أن توجّه الدولة ممثلة في وزارة الشؤون الدّينيّة كلّ طاقاتها بمساعدة الشخصيات الفكرية المؤثرة و شيوخ الدّين و أئمة المساجد و المُربّين الذين يتمتعون بالمصداقية والإشعاع والقدرة على الإقناع في وضع الخطط والبرامج في اتجاه تأسيس خطاب ديني متميّز ومقنع لمواجهة خطاب التكفير والعنف والبحث عن حلول لهشاشة وضعية الأئمة نتيجة عقود من “الإحتواء” السياسي الذي همّش المضمون العقائدي لصالح المظاهر الخارجية للعبادة. وعوض غلقها بتعلّة أن الإرهابيين هم من روّادها، عليها تحويلها إلى فضاءات للحوار ومقارعة الأفكار المختلفة بقوة الحجّة لا بحجة القوة من جهة وتشريك المصلّين وروادها في تحمّل مسؤولية إدارتها وعبئ الحفاظ على سلامتها ومنع أي استغلال لها من قبل المتطرفين في تنفيذ مخططاتهم الإجراميّة من جهة أخرى. ألم يحن الوقت بعد لانتهاج سياسة جديدة مع التديّن و«دمقرطة» المسجد بوصفه مؤسّسة مجتمعيّة؟
الهوامش
(1) حوار وزير الشؤون الدينية مع جريدة الصباح ليوم الثلاثاء 31 مارس 2015 ، في إجابته على سؤال طرحته الصحفية منية العرفاوي «هناك من استغلّ المساجد في الفترة الماضية للاعتكاف والاعتزال بدعوى التزهد والقرب من الله ؟» فكام جواب الوزير : «لاسبيل للاعتكاف في المساجد من الآن وصاعدا»
(2) يناهز عدد التونسيين الناشطين ضمن الجماعات المسلّحة في بؤر القتال في العراق وسوريا والمشاركين في أبشع مدّ للتكفير والقتل والإجرام حسب بعض الإحصائيات 3000 نفر.