الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد الواحد والعشرين

 بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

 

يصدر العدد الواحد والعشرون من مجلة ”الإصلاح“ متزامنا مع ذكرى هروب الطاغية ”بن علي“ بعد ثورة شعبية عارمة قدّم فيها عدد كبير من الأمهات فلذات أكبادهن شهداء وجرحى قربانا للقطع مع الاستبداد وتحقيقا للحرية والكرامة. وبهذه المناسبة، يحق لنا أن نتساءل عن مدى نجاح التونسيين في فك الارتباط مع نظام الاستبداد والانطلاق في مسيرة تحقيق أهداف ثورتهم بالرغم من أن سنتين لا تعني الشيء الكثير في عمر ثورات الشعوب.

فبالرغم من النجاح النسبي في مرحلة الانتقال الأولى التي أفضت إلى انتخاب مجلس تأسيسي لصياغة دستور جديد للبلاد، فإن المرحلة الثانية التي أشرفت عليها حكومة الترويكا لم تكن في مستوى تطلعات المواطنين ولم تحقق ما بشّر به الحكام الجدد من تحقيق للتنمية وقضاء على الفقر والبطالة وتحسين لمستوى العيش، حيث تميز أداء الحكومة ومؤسسات الدولة بالاضطراب والتذبذب لم يجن منه المواطن سوى ارتفاع في الأسعار ونقص في المواد الأوليّة .

ويعتبر بعض المحللين أن ما حدث خلال السنة الثانية من الثورة أمر عادي وأن حصول عكسه سيكون معجزة من معجزات هذا الزمان ويرجعون هذا الاضطراب إلى الصراع الخفي تارة والعلني تارة أخرى بين قوى الثورة و قوى الثورة المضادّة ذلك أن الشعب بثورته لم يسقط إلا رأس النظام أما بقية الجسد فمازال يتحكم في مفاصل الدولة ويحاول جاهدا إعادة صياغة رأس جديد.

إن قوى الثورة المضادّة كما يرى الدكتور أبو يعرب المرزوقي ”متغلغلة في عدّة مؤسسات داخل جسم الدولة وأن التصدي لها لا يكون بالتظاهر والاحتجاج، وإنما من خلال إعادة بناء هذه المؤسسات “. ونحن نرى كما يرى الدكتور أن قوى الثورة  المضادّة مازالت تتحكم في عدّة مفاصل من الدولة وأنها لا يمكن أن تستسلم بسهولة، لكننا نتساءل عن كيفية إعادة البناء. فالنهضة التي يمثّلها أبو يعرب اختارت التمسّك بوزارات السيادة والعمل على كسر عظام القوى المعادية ومحاصرتها داخل أجهزة هذه الوزارات معتمدة في ذلك على ”شرعيتها“ الانتخابية وهي بذلك تختار حلاّ سياسيا أمنيّا. ونحن نرى أن هذا التمشي لن ينتج غير إعادة بناء نظام الحزب الواحد المتسلّط ولن يذهب بالثورة بعيدا لأن الصراع مع قوى الثورة المضادّة لا يمر عبر استئصال الأشخاص بل عبر تغيير ثقافة تغلغلت في الجميع، عمل الطاغية وزبانيته على تجذّرها في واقعنا محاولا بذلك تحطيم الثقافة الأصيلة للشعب التونسي. لكن سيطرة رجال السياسة على المشهد العام وتحكمهم في مواقع القرار واهتمامهم بتصفية حساباتهم القديمة جعل من التغيير الثقافي مسألة ثانوية. ومن المؤسف في هذا الاتجاه أن نرى حكومة الترويكا تقوم بخفض ميزانية وزارة الثقافة لسنة 2013 بنسبة 4.7 بالمائة مقارنة بمثيلتها سنة 2012 عوضا عن الزيادة فيها والمؤسف أكثر أن يشمل هذا التخفيض بالتحديد ميزانية التنمية وهي مخصصة بالأساس لبناء وتجهيز المكتبات العمومية ودور الثقافة ومراكز الفنون ومعاهد الموسيقى والعناية بالتراث. فكيف يمكن أن نبني ثقافة دون فضاءات؟

إن الثورة التونسية ستبقى عرجاء وقد تصيبها الإعاقة الدائمة ما لم تصحبها ثورة ثقافية شاملة تعيد بناء شخصية التونسي على أسس صحيحة نابعة من هويته تكون بديلا لثقافة ”الاستبداد“ التي قامت على الكسل والخنوع والرشوة والكذب والسرقة والأنانية وبيع الذمم والتي عملت على مدى السنين على تحطيم حبّ التونسي لوطنه وهويّته.

ولن تنجح الثورة الثقافية المطلوبة إلاّ إذا شارك فيها الجميع بمختلف أطيافهم الفكرية والسياسية والاجتماعية بعيدا عن الإقصاء والتمييز مع ضمان أمن المثقفين والمبدعين والفنانين وعدم تقييد حريتهم حتّى يدل كل بدلوه ويقدّم وجهة نظره وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

وهكذا تتأسس ثقافة جديدة نابعة من حراك كل التونسيين لأن الثقافة ليست قوالب جاهزة تأخذ من كتب التراث أو تستورد من الخارج وتفرض فرضا على الناس، إنها بناء يشيّد حجرة حجرة .وبتأسيس هذه الثقافة الوطنية الجديدة تتحقق الثورة الثقافية وتكون بذلك قد فسحت طريق النجاح أمام الثورة السياسية في صراعها مع قوى الثورة المضادّة.