مقالات في التنمية

بقلم
فيصل العش
أي استثمار لتونس ما بعد الثورة

يحظى الاستثمار بمكانة هامّة في أيــة سياســـة اقتصاديــــة تهـــدف إلــــى رفـــــع معدلات التنمية وتحقيق استقرارها الاقتصادي والاجتماعي والعمــــل على إشبـــــاع احتياجاتهــــا الأساسيــــة وتنميــــة ثرواتهــــا الوطنيــــة، حيث يمثّـــل الاستثمــــار العنصـــر الحيــــوي والفعّــــــــال والمحـــرك الرئيــــس لأي نشــــاط اقتصــــادي،وتتلخّــــص أهميتـــه في مساهمتـــه في زيادة الدخل الوطني وخلق فرص العمل وزيادة الإنتاج ودعم الميزان التجاري وميزان الدفوعــــات. 

 ولذلك فإن الدول المتقدمة والنامية تعمل على وضع القوانين والتشريعات التي تكفل استقطاب رؤوس الأموال واستثمارها بداخلها. وقد شهدت تونس وضع ترسانة من التشريعات الاقتصادية التــــــي تشجّـــــع على الاستثمار الوطنـــي والأجنبــي ، ولكن المــــردود من هذه التشريعات لم يحقق التنمية المطلوبة نتيجة غياب منوال للتنمية يعتمد سياسة صحيحة تجاه الاستثمار الأجنبي المباشر خاصّة ، فلم تكن هناك أجندة وطنية، تحدّد احتياجاتها ودور هذا الاستثمار، فتوجه معظمهـــا نحــــو قطاع البتــــرول والاستحـــواذ على الشركات الوطنية، وقطاعي العقارات والسياحة، ولم تسهم بالتالي هذه الاستثمارات في خلق فرص عمل بالقدر المطلوب نظرًا لاتجاهها إلى المشروعات كثيفة رأس المال بينما تحتاج تونس للاستثمارات كثيفـة العمـــل لاستيعـــاب العاطليـــن والداخليــن الجدد لسوق العمل.

ولتفعيل دور الاستثمار المحلي والأجنبي في تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة وإخراجه ممّا تردى فيه من جمود وضيــــق أفـــق عطّلت نســـق تطـــوره، نرى ضرورة القيام بإصلاحات تشريعية وهيكلية عميقة عبر:

◄ مراجعة مجلة الاستثمار وإصدارها بمضمون جديد موحّد ومتطور يواكب متطلبات المنافســة ويستجيب في نفس الوقت لأولويات بلادنا التنموية على المدى المتوسط والبعيد وخاصة منها التشغيل ودفع التنمية بالجهات الداخليـة. ويجب أن تتـــم هذه المراجعـــة عبر استشارة واسعة وتشريـــك مختلف المتدخليـــن في هذا المجال من وزارات وهياكل مساندة ومنظمات وطنية ومكونات المجتمع المدني والقطاع الخاص. وبعد القيام بدراسة تحدد إيجابيات وسلبيات مناخ الاستثمار في تونس، وتقيّم الإطار القانوني ومنظومة الحوافز  الجاري بها العمل حاليا. ويجب أن تنص المجلة بوضوح على عدم التفريق بين المستثمر التونسي والمستثمر الأجنبي واعتماد معيــــار وحيــد هو حجم الاستثمار والمساهمة في تنمية الاقتصــــاد كما يجب أن تتضمن مجلة الاستثمار التشجيع الحقيقي على اللامركزية من خلال تثبيت نظام للحوافز الاستثمارية يساهم في التنمية الجهوية بحيث تتزايد تلك الحوافز حسب درجة حرمان تلك المناطق وحاجتها للاستثمار.

◄ تفادي الإخلالات والعوائق  الموجودة بمجلتي المحروقات والمناجم (غياب الشفافية، ضعف هياكل المراقبة...) من خلال مراجعتهما وإدماجهما ضمن مجلة  الاستثمار الموحدة .

◄إعداد قانون إطاري يشمل مختلف صيغ الشراكة المتاحة لإنجاز المشاريع لاسيما الشراكة بين القطاع العام والخاص ويضبط صيغ التمويل والاستغلال وفضّ النزاعات لدعم المبادرة الخاصّة وتشجيع الخواص على مزيد الاستثمار.

مع مراجعة إجراءات تغيير صبغة الأراضي الفلاحية المخصصة للمناطق الصناعية والسياحية، حيث تعدّ هذه المسألة أحد أبرز معوقات الاستثمار. 

◄ القيام بالإصلاح الهيكلـي الذي يحظى بأهمية كبرى في دعم الاستثمار، حيث يمثّل رافدا مكملا للجانب التشريعي والقانوني وذلك عبر إحداث مركز وطني للاستثمار(هيئة وطنية للاستثمار) يكون بمثابة الجهة المخوّلة للتعامل مع المستثمرين والباعثين في جميع القطاعات بما فيها الطاقة والمناجــــم، تسهّل مهمّتهـــم وتمكّنهــــم من الحصول على التراخيص اللازمة في آجال معقولــــة .ويكلّف هذا المركز بإعداد إستراتيجية عامة للاستثمار تأخذ بعين الاعتبار حاجيات جميع القطاعات في إطار نظرة شاملة، وإعداد خارطة استثمارية تعرض فيها الفرص الاستثمارية جغرافيا في كافة الجهات و غيرها من المهمات العامة ذات الانعكـــاس الإيجابـــي على مناخ الاستثمار مثل تحديد سقف المنح والتشجيعات المالية. 

◄مراجعة منظومة الصناديق الاستثمارية ووضع نظام لإنشاء صناديق الاستثمار المباشرة، لتعمل على استقطاب صغار المدخرين، وتحجيم المضاربات بالبورصة أو في مجالات أخرى كالعقارات والعملات الأجنبية بالإضافة إلى ترفيـــــع  الاستفــــادة من سوق الأوراق المالية من أسهم وسندات وصكوك لتمويل المشروعات الجديدة والقائمة. و لأن الشركات الممولة من السوق البديلة تتميز بالشفافية وحوكمة رشيــــدة لا تتوفــــر في حال التمويل البنكي والتي تتأتى أساسا من الرقابة التي يفرضها المستثمرون بسبب مشاركتهم في إدارة هذه الاستثمارات فإنه لابدّ من تشجيع أصحاب الأعمال على الإقبال على التمويل من البورصة أو السوق البديلة بالتخفيض في الضرائب في حــــال التمويــــل من هذه السوق وربط الحوافز الجبائيّة بنوعية التمويل وهو إجراء لم يقع العمل به سابقا في بلادنا وأثبت مردودية كبرى في بلدان أخرى عملت به أو فرض نسبة تمويل أدنى مضمون من البورصة في حدود ٪10 مثلا خاصة في المشاريع الجديدة.

◄ تحجيم الفساد في الجهاز المصرفي و تعديل قانون البنوك والتركيز على تطبيق قواعد للائتمان تعتمــــد على المتطلبات الفنية، والبعد عن الائتمان السياسي، ووجود دراسات جدوى حقيقية للمشروعات التي يتم تمويلها كما يجب تطبيق مبدأ الاختصاص في القطاع البنكي باعتماد المعيار الدولي للبنوك كبند أساسي ضمن مجلة الاستثمار والذي ينصّ على منع البنوك من تقديم قروض أعلــــى حجـــــم مـــــن ودائعهــــا من المدخرات.فالبنوك الصغيرة مثلا لا تقدر على دعم وتبنّي المشاريع الاستثمارية الضخمة على عكس البنوك الكبيرة ، لذلك  وجب العمل على تخصيصهـــا في مجالات معينة .  

◄ تركيز سياسات الاستثمار على قطاعات الصناعة والفلاحة وتكنولوجيا المعلومات وتشجيع المؤسسات الصغرى والمتوسطة بصفتها "أساس الاقتصاد" كأن تخصص 80 % من الموارد لتمويل المشاريع الصغرى و20 % للمشاريع المتوسطة وتيسير نفاذها إلى التمويل مع الحرص علـــى تطويـــر الاستثمــــار في مختلف مناطق البلاد من اجل إحداث مواطن الشغل ودفع التنمية.

◄ إعادة النظر في قانون الضريبـــــة المعمـــول به على الشركات واعتماد منظومة استثمار تشجع الناجحين وليس الفاشلين فالوضع  الحالي يمنح الشركـــــــات الخاســـــــرة  امتيــــاز عــــدم دفـــع الأداء  وفي المقابل   تدفع  الشركات الرابحة ضريبة أكبر.

ولأن المدخرات المحلية لها دور رئيسي في دعم الاستثمار المحلي، وجب حشد هذه المدخرات لتؤدي الدور المنوط بها، وفي هذا المجال نرى :

◄ ضرورة العمل على  تنمية الوعي الادخاري لدى الأفراد وتبصيرهم بحق الأجيــــال القادمـــة والحث على ترشيد الاستهلاك بعامة والإنفاق الحكومي بخاصة، والحث على عدم الإسراف والتبذير والإنفاق الترفي والمظهري وإنشاء أوعية ادخارية تستوعب وتتناسب مع فئات الدخل المختلفة باستحداث منتجات مصرفية للتوفير والاستثمار مع ترشيد سوق الأوراق المالية (البورصة) كأداة رئيسة لتشجيع المدخريـــن من فئات الدخل المختلفـــــة علــــى توظيف أموالهــــم في استثمــــــارات جديدة (الســــوق الأوليــــة) بدلاً من المضاربة على توقعات الأسعار (السوق الثانوية).

◄  ترويج ثقافة العمل الحر والتوظيف الذاتي، وتشجيع صغار المنتجين بإعداد خرائط بالمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، بما يسمح بدخول الفئات الفقيرة في أنشطة مولدة للدخل، والاعتياد على السلوك الادخاري والاستثماري.

◄  ترشيد الدعم بحصر المستحقين الحقيقيين له وفقًا لمعايير واضحة، والتأكد من وصولــــه فعلاً إلى مستحقيه ممــــا يشجعهــــم على تخصيــــص جزءٍ من مداخلهــــم المحــــدودة لأغراض الادخار والاستثمار.

◄  توجيه بعض أموال الزكاة وموارد الوقف إلى إنشاء المشاريع الاستثمارية لتامين مورد مالي ثابت، ودائم لمستحقيها مع توجيههم وتأطيرهم لضمان نجاح المشاريع.

 ويبقى استتباب الأمن والاستقرار الاجتماعي والسياسي ومحاربة الفساد بتطبيق صارم للقوانين المتعلقة بمكافحته كقانون الإفصاح عن الذمم المالية، وقانون الكسب غير المشروع، وقانون حرية الوصول إلى المعلومات، وتطوير دور الرقابة للهيئات التشريعية، وتعزيز دور هيئات الرقابة العامة، ورفع السرية عن تقاريرها، الضامن الأساسي لنجاح أية عملية إصلاح أو تنفيذ أية سياسات اقتصادية جديدة . فتونس بعد الثورة تستحق أن تتوحّد من أجلها القوى الحيّة الصادقة من باحثين ورجال أعمال ومستثمرين وأصحاب قرار لإرساء نظام اقتصادي بديل يضمن تنمية شاملة ويقلّص الفوارق بين الجهات ويحقق العدالة الاجتماعية المرجوّة