قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
زمن لا يحتمل الخطأ
 انتظر التونسيون بفارغ الصبر يوم الإنتخابات بعضهم ليدلي بصوته وبعضهم ليرى المآل الذي ستؤول إليه البلاد بعد نهاية الإختبار الثاني في عمر التجربة التونسيّةالجديدة.جاء اليوم الموعود وتمخّض عن زلزال جديد ؛ ولكن هل يعدّ ما حدث في ذلك اليوم مفاجئا كالزلازل أم كان منتظرا أم ماذا؟ وهل يعكس ما جرى من تصويت عقابا لجماعة أم هو ندم على الزلزال الأول أم هو فقط تذكير للحالمين من الثّوار وغيرهم أن لا شئ مستحيل الحدوث؟
جاءت المفاجأة من نواح عدة؛ فالذين استطاعوا الإنتصار في أولى الإنتخابات وجدوا أمامهم كل ما يهيء للانتصار من نقمة النّاس على النّظام السّابق إلى شعور النخبة الحاكمة حينها بحاجتها لشرعيّة الصندوق الانتخابي من دون أن تشكّ في أنّ هذا الصندوق سيمنحها القليل الذي تبني عليه وهذا في أسوإ الأحوال؛ ولكنّ الرّياح جاءت بما لا تشتهيه السّفن رغم حملات التّشكيك والتّفتيش في النّوايا ورغم القانون الانتخابي والإصطفاف الايديولوجي وغيره. لقد أراد صاحب الصولاجان ومدبّر كثير من الأمور استبدال فئة حاكمة بأخرى تحكم من دون تغيير العقل الحاكم الذي ظلّ يدير دولة الاستقلال منذ نشأتها.
استنفر المنهزمون كلّ قواهم منذ لحظة الإعلان عن النتائج بغية تقزيم ما حدث والتقليل من شأن ما أنجزهم خصومهم وقد استطاعوا في فترة وجيزة إحداث شرخ بسيط في ثلاثيّة الحكم بجعل طرف أكثر استعدادا لمعارضة حلفاءه كلّما كانت المعارضة ممكنة حفاظا على مشاعر من يشترك معهم في الايديولوجيا أو وهْما منه بأنّهم قد يعطونه أكثر ممّا أعطته تجربة الحكم الجديدة أو ربّما لكي يضع يدا مع الخصوم قد تشفع له عندهم يوما.
لم يكن هذا وحده من ساهم في ما نشهده اليوم من زلزال فقد عاش الجميع حاضرهم بعقل الماضي وكان الجميع يتخاصمون على وطن كلّ يظنّه ملك له وحده ؛وطن ليس فيه أرض ولا سماء ولا مواطنون انتفظوا من أجل غدٍ أفضل وحرية أكثر؛ وإنّما وطن حدوده الايديولوجيا ومواطنوه مواطنوا الصّف الايديولوجي لا غير وهكذا انخرط حلفاء الأمس معا واستجمعوا قوى الدّاخل واستعانوا بقوى الخارج من أجل دفع خصومهم إلى الزّاوية وإجبارهم على الخطأ حتى وصل الأمر إلى نتيجته المحتومة وبتنا قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى مشهد التسعينات من القرن الماضي.
يختلف المحلّلون للمشهد من شقّ إلى آخر فمنهم من يجزم بأنّنا لن ننتظر كثيرا قبل أن نرى صخرة الديموقراطية تتفتّت ومعها الإسلام السّياسي بكل مشاربه وتنظيماته؛ ليقبل مع تفتّت الصّخرة كلّ ما يقتضيه المشهد من زيف وحيف ومآلات غاية في السوء ومنهم من يرى أنّ الأمل في انقاض الوضع مازال قائما وحجّة الأوّلين أنّ القضاء على الإسلام السّياسي لن يتأتّى للرّاغبين فيه في ظلّ ديموقراطيّة قائمة على الإحتكام للشّعب والتداول السّلمي على السّلطة ؛ هم يرون ببساطة أنّ الأسلامييّن سوف يستفيدون من هذه الدّيمقراطية في درء الشّر عنهم وأنّهم قد يعودون من بابها أكثر قوة. أمّا أصحاب الرّأي الثّاني فلا يرون العودة إلى الماضي الرّهيب ممكنة ويقولون بأنّ التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه وأنّ هامش المناورة ما زال ممكنا بدأ من انتخاب الرّئيس وصولا إلى شراكة سياسيّة تجعل من السّنوات الخمس القادمة مرحلة انتقاليّة ثانية يحكمها قانون اللاّغالب واللاّمغلوب تليها مباشرة مرحلة الفرز النّهائي.
لست من دعاة التّشاؤم ولا من الغارقين في التفاؤل ولكنّي من المؤمنين بأنّ دعاة الإستئصال قد فازوا في هذه الجولة بقدرتهم هم وبغباء غيرهم من حيث يدرون أو من حيث لا يرغب جلهم أن يدري؛ ولكنّي أيضا من الحالمين مثل كثيرين غيري بوطن جميل يسع الجميع ويدع للجميع فرصة المساهمة بجهد في بناءه؛غير أنّي من الذين يعتقدون أن دعاة الإستئصال لا يهمهم بناء الوطن بقدر ما يهمهم استبعاد الخصوم ومن لا يرى في غيره إلاّ شرّا محضا لا يمكن أن يسكن معه بيتا واحدا وإن فعل فلن يشاركه في شيء. وليس علينا حينئذ إلا أن نعمل من أجل تجنيب هذا الوطن مطحنة جديدة لا رغبة له فيها ولن تجلب عليه إلا الكوارث والشرور.
إن الذين خرجوا للتّصويت في هذه الانتخابات إنّما أخرجتهم الديموقراطية وأخرجهم في الغالب حبّهم لهذا الوطن كلّ على نهجه وطريقته، ولم يخرجوا من أجل هدم هذا الوطن على رؤوسهم وهم بالتّالي لا يرغبون في الغالب الأعمّ منهم أن ينساقوا وراء دعاة إستئصال الخصوم والتمييز بين النّاس وممارسة العقد الايديولوجيّة الهدامة. 
الظّن كلّ الظّن أنّ الكثير ممّن صوّتوا لفائدة الطرف المزهو بانصاره قد ندموا على ما فعلوا بعد أن رأوا بداية الشّرر وشحن النّفوس  وهم إن عادوا إلى الصندوق ثانية فسيكون لهم رأي  آخر ولذلك فهذا زمن لا يحتمل الخطأ.
lotfidahwathi2@gmail.com