قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
لعل وعسى
 بلغ الرجل سن التقاعد  وكان عليه من ثم أن يغير الكثير من عاداته التي ارتبطت في معظمها بالشغل  ولكن لم يستطع تغيير عادته في شرب القهوة صباحا مستأنسا بصحيفة يومية لم يغيرها منذ سنين .صار الرجل الآن يصحوا كما اعتاد ويذهب كل صباح إلى مقهي الحي حيث ينتحي ركنا منه ويبدأ القراءة مع أول رشفة وأول نفس من سيجارته .سنوات مرّت عليه وهو يقرأ من صحيفته شيئا قليلا من أخبار السّياسة في العالم وبعض المتفرقات والكثير من أخبار الرياضة وفريقه المفضل . يوما بعد آخر وشهرا إثر شهر حتى تعوّد على المكان وأنس له المقهي ومن فيه غير أنّ حدثا جديدا بدأ ينغّص عليه جلسته ويصيبه بالتوتر والخوف يوما بعد يوم. 
ظهر رجل غريب عن المقهي وعن الحي، اتخذ لنفسه ركنا قبالة ركنه ليحتسي قهوته ويقرأ جريدته،  لم يعر الأمر اهتماما في بداية الأمر واكتفي ببعض المراقبة للزّائر الجديد. لاحظ في البدء أنّ الرجل لا يستقر على صجيفة واحدة  ولا يقرأ بتركيز ثمّ صار الرجل يشتري ذات الجريدة ولا يقرأ منها ما يختص بأخبار الرياضة وأحيانا لا يقرأ منها إلا بعض الصفحات ثم ينصرف .
بدأ اهتمامه بالرّجل يأخذ كثيرا من وقته ولاحظ مثلا أن موعد وصوله ثابت وأنه لا يشرب القهوة بتروّ  وأنّه يدخّن كثيرا، أما موعد الانصراف فغير مستقرّ، كما لاحظ أنّ الرّجل لا يدفع ثمنا لما يشربه فكان ذلك مدعاة للقلق من وجوده وكان يسأل نفسه كلّ صباح لماذا يأتي الرّجل إلى المقهي؟ ولماذا يجلس قبالته ؟ ولماذا يقرأ مضطرا؟ كانت الأسئلة تزداد الحاحا عليه وكان هو يزداد يقينا بأنّ الرجل في مهمة ما وأنّه من البوليس.
فجأة بدأت الأخبار تترى عن أنّ شيئا غير عادي يحدث في البلد لا يجد خبره في صحيفته ولكن أخباره تملأ الوجوه والمكان،  بدأ التّوتر على وجه الزّائر الجديد يظهر أكثر وبدأ يتخلّي أحيانا عن عادته المصطنعة في القراءة ليصبح اهتمامه بالناس وبه هو على الأخص أكثر جلاء. 
جاء اليوم الأخير مفعما بأخبار لم يعد من الممكن اخفاؤها ذهب الرئيس، فرّ الرئيس، انهار النّظام. كان يوما فارقا طال ليله على السّاهرين بانتظار صباح جديد. جاء الصّباح فتسلّل إلى المقهي حاثّا خطاه،  فتح الجريدة  وأشعل السّيجارة وظلّ ينتظرصاحبه بفارغ الصبر لعل وعسى.
أغلق العمدة باب بيته خائفا مترقّبا. عشرون عاما من العموديّة كان فيها هو الآمر النّاهي في القرية كلها بلا منازع  يأمرفيطاع . لا يحلّ مسؤول بالقرية حتى يكون هو من رتّب له الزّيارة و المقام . وكان يعمل بمبدأ اطعم الفم تستحي العين ولذلك فقد دأب على اشتراء كل شيء بالمال. 
بدأ العمدة حياته معاونا لأبيه في فلاحة قوامها الرعي وجني الزيتون والزراعة وقد كان والده غنيّا بالقدر الذي سمح له بتدريسه حتي بلغ المرحلة الثانويّة ثم اصطفاه لنفسه واتخذه شريكا في الفلاحة وفي المال، فلمّا شغرت العمودية بالوفاة عمل والده كل ما في الوسع حتي ثبته عمدة على القرية. ولأن المال قوام الأعمال، فقد سعي الرّجل إلى أبّهة لم تكن من شأن من كان قبله وكان طموحه من المنصب أكثر مما تسمح به التقاليد.
كان كثير الزّيارة إلي مركز الولاية لا يمكن أن تفوته زيارة مسؤول أو يفوته اجتماع وكان يخلط طموحه الشخصي بطموح أهل القرية حتى يكون أكثر العائد من كل مشروع نصيبا له. كثرت زيارات أهل السلطان إلى القرية بسبب رغبة العمدة الجامحة في جعل الريادة له ولقريته وكم خاض من المعارك في سبيل ذلك فقد كان أول المبشّرين بوصول نور الكهرباء إلى القرية قبل غيرها وبذل في سبيل ذلك الكثير من المال والهدايا حتى اضطر لإقامة مأدبة للوالي لم يسلم من ضررها أحد بعد أن فرض العمدة على كل عائلة خروفا يذبحه على شرف الوالي وهو يردّد في وجوه المتمنّعين « آه تحبو  الضوء بلاش؟» . ولمّا جاءت الكهرباء جاءت معها تباعا كل مشاريع العمدة المعطّلة كالمخبزة والمطحنة  ومعمل العلف وغيرها ممّا لا يقوم إلا بالكهرباء.
كان العمدة يزداد سطوة وغنى كلما اتسعت القرية وزاد الوافدون عليها. ولم يعرف ما ينغص عليه عيشه أو يحدّ من سطوته حتى بدأ الوشاة ينقلون إليه خبر شباب كثيرين صاروا يقولون عنه سارق وآخرون يعتبرون نظام الحكم كلّه جائر ويرون في القرية مثالا للجور والحيف . توجّس منهم خيفة ثم بدأ يبعث من يتعقّبهم ثم ارتآي أن يستميل أهلهم بالمال ثم قرّر أن يشي بهم دعهم يذهبون للسّجن ولم يدر بخلده أن شمس السّلطان إلى زوال. 
جاء اليوم الموعود فلم يحمل له من الأخبار إلاّ كل ما يعكّر المزاج  استبد به الخوف  فقد كان على يقين بأن كارثة ستحلّ به  فقد فات أوان الجبروت وولي زمن الفرد.
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
  lotfidahwathi2@gmail.com