مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
من الانتقال الديمقراطي إلى الانطلاق الحضاري
 يحق لنا كتونسيّين بعد أن قمنا بثورة على ظلم استشرى لعقود واستبداد كاد يأتي على الأخضر واليابس، أن نتأهّب إلى انطلاقة حضاريّة جديدة ونحن على عتبة تجاوز مرحلة الانتقال الديمقراطي عبر توجه مرتقب يوم 26 أكتوبر الجاري إلى صناديق الاقتراع لنكرّس مرة ثانية خيارا استراتيجيّا أعاد الحكم للشّعب عبر آلية الاقتراع المباشر الحرّ والنزيه.
وإن كانت مرحلة الانتقال الديمقراطي مكّنتنا من تحقيق إنجازات وطنية وسياسية وقانونية وهيكلية، إلاّ أنّ التّحديات التّنموية والاقتصاديّة الماثلة أمامنا سواء الكلّية منها (التوازنات الكبرى- المؤّشرات العامة...) أو الجزئية والتي تتعلّق بحالة الأفراد والمؤسّسات وكذلك التحديات الخارجيّة الإقليميّة منها والدّولية، تفرض علينا كوطنيّين غيورين على بلدنا وكمهتمين بأمر شعبنا -عنوان انتمائنا له- مجموعة من الإجراءات لنضمن انطلاقة حضاريّة حقيقيّة وواعدة:
أولا - المشاركة الواسعة في العمليّة الانتخابيّة القادمة لنوفّر الشّرعية القويّة لمؤسّسات دولتنا الدّائمة ولنفوت الفرصة مرة أخرى على قوى الجذب إلى الوراء والحنين إلى منظومة الفساد والاستبداد.
ثانيا - امتلاكنا لوضوح في الرّؤية ودقّة في الرسالة وضبطنا لمتطلبات تحقيق الأهداف المتضمّنة في رؤيتنا كمنطلق لرفع التّحديات التي نواجهها.
ثالثا - معرفتنا بحاجات شعبنا أفراد وفئات وجهات وإلمامنا بالملفات المنتظرة وامتلاكنا لآليات التنمية.
(1)  الإنجازات الوطنية
* إنجازات سياسيّة (إنهاء حكم الدكتاتوريّة – بسط الحرّية – التّوافق – إجهاض محاولات انقلابيّة..)
* إنجازات قانونيّة وهيكليّة (الدستور – قانون انتخابي - هيئة الحقيقة والكرامة - الهيئة العليا المستقلة للانتخابات...)
* إنجازات تشريعيّة في مجال الماليّة (قانون الصّكوك الإسلاميّة والتّأمين التكافلي - مشروع قانون بيت الزّكاة ومشروع قانون الأوقاف...)
(2)  التحديات التنمويّة والاقتصاديّة
تواجه تونـــس تحديــات تنمويّـــة عديـــدة ومتنوعـــــة كالفســـاد والإرهاب والتجارة الموازيـــة والتهرّب الضّريبـــي وسيطرة المطلبيّــة على العمل النقابي وتحديات داخليّة كليّة وجزئيّة وأخرى خارجيّة إقليميّة ودوليّة.
(أ) تحديات داخليّة كلّية وأخرى جزئيّة
يواجه الإقصتصاد التونسي على الأقل تحديات كلية أربعة : 
* عجز الموازنات الثلاث: العامة والتّجاري وميزان الدفوعات.
* ارتفاع الدّين العمومي.
* ارتفاع نسبة التّضخم.
* محدودية السّياسة النقديّة.
وتحديات جزئية عديدة أهمّها الفقر الذي يعاني منه كثير من الأفراد والفئات في مجتمعنا وضعف الطّاقة التشغيلية لمؤسساتنا.  
(ب) تحدّيات خارجيّة إقليميّة ودوليّة
تتمثل أساسا في :
* التجزئة على المستوى المغاربي وما تعنيه من تشرذم وضعف.
* الهوة هيكليّا وتكنولوجيّا بيننا وبين شريكنا التّجاري الرئيسي على المستوى الإقليمي.
* انتشار العولمة وتحكم المانحين الدّوليين والشّركات المتعدّدة الجنسيّات في مختلف مناحي الحياة وخاصّة في الاقتصاد والمال على المستوى العالمي.
(3) وضوح الرؤية ودقّة الرّسالة 
منطلق لرفع التحدّيات
3-1 رؤيتنا :
* تحقيق حياة طيّبة تعكسها طمأنينة في قلب كل مواطن وتتحسّن من خلالها ظروف عيشه بما يحفظ كرامته.
* تقوية جاذبيّة بلدنا وإشعاعها وجعلها مركزا حضاريّا مع تقوية جاذبيّة جهاتها كل حسب مميزاتها والفرص المتوفرة لديها.
* ضمان سلامة الوطن ومناعته وتحقيق وحدة وطنية وتماسك بين الفئات الاجتماعية.
3-2  رسالتنا
رسالتنا متضمنة في الإجابة على السؤال التالي: من نحن وماذا نريد؟
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (*) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون»(الأية 13 و 14 من سورة يونس). 
نحن إذا خلائف في هذه الأرض الطّيبة، أرض تونس الحبيبة أرض العلماء والمصلحين، أرض الشهداء والثّائرين الذين كان لهم شرف الانتماء إلى جند الله الذين أهلك الله بثورتهم الظالمين لينظر كيف نعمل؟ 
   لينظر كيف نحقق حياة طيبة تعكسها طمأنينة في قلب كل تونسي وتونسية وتتحسن من خلالها ظروف عيش المواطنين بما يحفظ كرامتهم؟
لينظر كيف نقوي جاذبية بلدنا وإشعاعها وجعلها مركزا حضاريا عالميا؟
لينظر كيف نحقق وحدة وطنية وتماسك بين الفئات الاجتماعية وضمان سلامة الوطن ومناعته؟
كيفية تحقيق تلك الأهداف:
لا يمكن لتلك الأهداف أن تتحقق إلا عبر :
* تنمية شاملة ومتوازنة تعيد الاعتبار للإنسان كقيمة ثابتة وتؤسس لحريته الدائمة وتؤمن بقدراته وتحسن توظيفها.
* منوال تنموي وطني يعكس مصالحة حقيقية بين الانشغال بتحقيق النّمو الكمّي من جهة وتوفير المتطلبات الإنسانية والأخلاقية للحياة الاجتماعيّة التي أثبتت التجارب الحاجة إليها لحماية المجتمع من الأزمات.
* نظام اقتصادي بديل قادر على استيعاب خرّيجي جامعاتنا وإنتاج الثّروة بشكل مستمر ونظام اجتماعي كفيل بالإحاطة بكل التونسيين في كنف الوحدة والتعاون.
* تكريس جدلية المصلحة الفرديّة والمصلحة الجماعيّة لدى كل التّونسيين والتّونسيات.
3-3 قيمنا :
قيمنا هي متطلبات تنمية مجتمعنا ووطننا وتتمثل في :
* الالتزام الأخلاقي والاجتماعي وفق منظومة قيمية تمنح جهدنا التنموي روحا ومعنى «إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».
* الانضباط للدستور والقانون مسنودا بثقافة الحقوق والواجبات ومحروسا بمنظومة أمنية وطنية ملتزمة باحترام الحريات العامة وبمبادئ حقوق الإنسان.
* العلم والعمل الصالح مدعوما بمنظومة ماليّة متكاملة بالتوازي مع تجفيف منابع الفساد.
* المسؤولية التي تتمّ مراقبتها بمنظومة قضائيّة تقوم على العدل وتؤسّس من خلاله العمران وتحميه من الخراب.
(4) الإصلاحات المنتظرة
تستوجب التّنمية سواء السّياسية منها أو الاقتصاديّة القيام بإصلاحات متنوعة و متعددة أهمها :
* إصلاحات هيكلية وإدارية تضمن الشفافية والحوكمة للحيلولة دون تجميع السلطة وعدم التوازن بين السلط ومركزية القرار.
* إصلاحات جيو اقتصادية تعتمد الإقليمية وطنيا والاندماج مغاربيا و التكتلات عالميا.
* إصلاحات اقتصادية ومالية وجبائية تشمل:
- هيكلة هذه المجالات ومكوناتها ومهامها والتشريعات المؤطرة لها.
- دمج بنوك عامة وكذلك أخرى خاصة إحداثا لأقطاب تمويليّة لمواجهة التّحدي الأكبر و المتمثل في الانفتاح المالي العالمي.
- إنشاء شركات تمويل ومركز تمويل إسلامي يقوم على مبدأ المشاركة الذي تنتفي في إطاره التكاليف المسبقة  للتمويل ويساهم في الحفاظ على التوازنات المالية للاقتصاد ويبتعد في تعاملاته عن المديونية الربوية والمجازفات والبيوع الصورية والرهون الوهمية والمتاجرة بالوعود .
- حلّ مشاكل التهرّب الضريبي وإعادة النظر في صندوق الدّعم حتى يحقق أهدافه وكذلك تعاون وطني لوضع حدّ لتفاقم التّجارة الموازية عبر مساعدة القائمين عليها على الاندماج في النشاط الاقتصادي القانوني.
(5) ماهي الملفات المنتظرة؟      
* قطاع التربية والتّعليم والصّحة والتّرفيه.
* قطاع البيئة والمحيط.
* قطاع البنية الأساسيّة والنّقل واللّوجستيك.
* القطاعات الاقتصاديّة.
(6) آليات التنمية
(*) حسن استثمار إمكانات البلد ككل والجهات وقدراتها عبر :
- حسن استثمار موقعها الجغرافي الإستراتيجي في مجال الخدمات والتجارة والمال أساسا.
- حسن توظيف تنوعه الحضاري لإفراز منتجات حضارية معاصرة.
- حسن التعاطي مع موارده البشرية ككائنات عاقلة حرّة منتجة ومستهلكة واعتبار شبابه مشاريع حضاريّة.
- حسن استغلال موارد الطاقة في بلدنا والتي تقدر الدراسات في المجال قيمتها ب 250 مليار دينار وحسن توظيف عوائدها.
(*) تنمية بشرية ثقافية وعلمية معرفية عبر اعتبارات أهمها :
- اعتبار الجامعة مؤسسة علمية مستقلة لها دور استراتيجي بعيدا عن الحسابات الضيقة و المصالح الفئوية أو الشخصية وملتصقة بالواقع دون أن تكون أسيرة له أو لسلطه المتعددة كما أنها غير خاضعة لأحد سوى سلطة العقل بحثا عن الحقيقة و ما ينفع المجتمع لا غير.
(*) تأسيس مدنية اجتماعية بنكهة أخلاقية
وذلك عبر تطوير آداء الجمعيات والمنظمات متعددة الاهتمامات ومتنوعة الاختصاصات لدورها التنموي في تأطير الكفاءات  وحسن توظيفها وفي التعبير عن تطلعات أبناء الجهات والإسهام في الحوارات الإستراتيجية وفي تكريس ثقافة الحوار والمسؤولية والتعايش. 
(*) تأهيل وتطوير القطاعات الاقتصادية
-  تقوية مقومات البلاد والجهات الاقتصادية الواعدة سواء المادية منها أو المعرفية.
- الاهتمام بالقطاعات الاقتصادية عبر الإحاطة بالفلاحة والفلاحين وتطوير الصيد البحري وتأهيل النسيج الصناعي المتنوع  ودفع الحركية التجارية والخدماتية.
(*) تطوير الجانب اللوجستي والحياتي
- تطوير شبكة المرافق الأساسية في مجال النقل
- تطوير البنية التحتية بما يقوي جاذبية البلاد للاستثمار والمستثمرين
- تعميم شبكة الغاز والكهرباء والماء وشبكات الصرف الصحي وتطوير خدمات إداراتها والتحكم في كلفتها
(*) الاعتناء بالبيئة وسلامة المحيط
- وضع حد للتدهور البيئي عبر تفعيل عديد القرارات  كغلق السياب بصفاقس
- تطوير ظروف العيش عبر الحد من التلوث وتعميم قنوات التطهير وتوفير الماء الصالح للشراب للجميع.
(*) تطوير الفضاء العمراني
- وضع حد للنمو العشوائي للنسيج الحضري والعمل على تأطير نموه بما يحافظ على شروط الحياة السليمة للمواطنين
- توفير المرافق العمرانية الأساسية بما يحد من النمو غير المتوازن للسكان الذي تشهده العديد من جهات البلاد.
 -------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com