نقاط على الحروف

بقلم
لسعد الماجري
في الديمقراطية التونسية الناشئة (المال السياسي الفاسد: من يشترينا اليوم سوف يبيعنا غدا )
 هبت رياح التغيير على بلادنا منذ بضع سنوات نحسبها تجربة جديدة تستحقّ عناء الدراسة والتشجيع. لن أتحدّث عن الثورة والثوريين الجدد منهم والقدماء، الصادقين والثورجيّين المتحذلقين. ولكن سوف أتحدّث اليوم عن التجربة التونسية كنموذج فريد في الوطن العربي برجالاتها الصادقين ونسائها الصادقات. 
إنني أحاول جاهدا أن أجتنب الحديث عن ما سمّي بالربيع العربي خوفا من السقوط في تبرير التجارب الأخرى كالتجربة المصرية التي سقطت في الانقلاب أو الليبية التي صبّت في الاقتتال بين المجموعات المتناحرة على السلطة أو اليمنية التي انزلقت إلى نوع من تحريف المسار أو حتى السورية التي اختلطت فيها الثورة بالإرهاب وأصبحت نوعا من تصفية حسابات بين معسكر إقليمي ممانع مقاوم ومعسكر إقليمي ودولي خانق لسوريا المقاومة.
تونس بلد أبي القاسم الشابي وعبد العزيز الثعالبي والطاهر ابن عاشور والطاهر حدّاد وكذلك بورقيبة تؤسّس على نار هادئة نوعا من الديمقراطية الناشئة.
ابتدأت العملية سلميّة شعبية لا عنف فيها ولا إرهاب رحل بعدها نظام قمعيّ مستبدّ استأثر بالحكم لمدّة ثلاث وعشرين سنة. أراد الشعب ونخبه المثقّفة تغييرا حقيقيا يحدّ من الاستخفاف بالإنسان التونسي من أجل رفع شعارات تعيد الثقة بالدولة التونسية ككيان ذو هبة تنبني أساسا على قيم المواطنة والاستقلال الحقيقي من أجل استرداد التحكّم في ثرواتنا المنهوبة. من أجل تأسيس قيم مواطنيّة حقّة لا زيف فيها ولا خداع واٍنّما عودة اٍلى الأصل. فالمفروض أصلا أن السيادة للشعب الكريم ولا لثلّة من الانتهازيين الذين ما انفكّوا منذ سنين عدّة ينخرون في أسس الدولة العريقة يفسدون وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا...
كانت هذه الفئة التي أفرزها النّظام القديم فئة مخرّبة للبلاد والعباد، فالتونسي الأصيل أصبح يجري كالمجنون على قوت عياله ولا يستطيع أن يبلغ سبيلا. وانتشرت البطالة بشكل لافت للنّظر خاصّة بين أصحاب الشهائد العليا في وقت انتشرت فيه المحسوبية والرشوة كقيم جديدة لمجتمع جديد يموت فيه الضعيف الذي لا يملك سندا له يدعمه. فاشتغل أناس لا يملكون ثقافة ولا علما في مناصب حازوها خطفا ونهبا. وظهرت شريحة جديدة من أصحاب أعمال لها امتيازات عدّة حازتها، تتهرّب من أداء الواجب الضريبي للدّولة وتبيع الأخضر واليابس، لا تؤمن بالله ولا بالوطن.
هذه الشريحة لا همّ لها غير حيازة مصالح على حساب الشعب الأعزل الذي لا يملك حولا ولا قوّة إلا الانخراط في هذا النسق المخضرم والمتخلّف من التعامل. فضعف الاقتصاد الذي كان في الحقيقة مغشوشا وكانت الأرقام المتداولة في المنابر الإعلامية لا تعبّر بصدق عن الوضع الحقيقي الذي تمرّ به البلاد. لم يكن همّ السّاسة حينئذ غير تسويق صورة مغلوطة عن الاقتصاد التونسي لدى الهيئات الأمميّة المانحة  والمشجّعة من أجل الحصول على استثمارات ودعم لاقتصاد مزيف. ذلك الاقتصاد كان المستفيد الوحيد منه هو الطغمة الحاكمة ومن والاها وسار في ركابها.
وانحطّ التعليم ولا من مغيث، كنّا في زمن غير بعيد مثالا يحتذى للإشعاع التعليمي والعلمي وكان المتخرّجون من جامعاتنا يتسابق القاصي والداني على جلبهم واستثمارهم. وكان خيرة شبابنا المتعلّم يواصل تعليمه في الجامعات الأوروبية ذات الصيت العالي. فما راعنا اٍلا وترتيبنا العالمي في سلّم التعليم ينحطّ اٍلى أسفل الدرجات. وأصبح طلبتنا وتلاميذنا في المعاهد والمدارس لا يحبّذون العلم ولا ينهلون منه بل يتسابقون على الفساد وعلى اٍهانة العلم والمعلّمين. وانحدر الشباب اٍلى أحضان المخدّرات وروافد الفساد القيمي والأخلاقي. وأصبحت كلّما مررت أمام معهد أو جامعة للعلم تفاجأ بالتفاف الشباب خارجه لا يذهبون إليه إلا للزيارة وفعل المحظورات وأصبحت البذاءة والرداءة عملة جارية.
فجأة جاء نفس جديد هلّلنا له وكبّرنا اٍنّه أمل في التغيير الحقيقي أردناه رفعا لتونس الدّولة والشعب وللنخبة. ولكن تأخّر التغيير كعادته فانتشرت الفوضى من جديد وبأرقام قياسيّة على كلّ المستويات. فصار لا يسمع للدّولة وللنّظام حسّ وضاعت هيبتها المعهودة لأنّها بنيت فيما سبق على الظلم والاستبداد. وتنطّع الإعلام وأصبح سليط اللسان بعدما كان فيما مضى مصفّقا للحاكم السائد. وتنطّعت النقابات واشتطّت في المطلبية المجحفة دون البحث عن التوازن بين العمل والكسب في حين كانت في وقت غير بعيد ملجّمة لا تفتح فاها. وكثر عدد الأحزاب والمنظّمات ككمّ بضائعي لا همّ له غير الكلام المباح. وتكلّم الجميع كترنيمة فوضويّة خالية من البرامج الواضحة والعلمية والدقيقة. كان الهدف للجميع الوصول إلى سدّة السلطة أيّا كان نوع هذه السلطة. وأصبحت المنابر الإعلامية والتلفزية مسرحا للعراك السياسي السافل والمنحطّ.
اٍنّه الانتقال الديمقراطي قالوا لنا وفهمنا أنّه طبيعي جدّا أن تبرز إلى السطح خلافات وحراك من هذا القبيل وفرحنا بالمجلس التأسيسي وقلنا اٍنه ملاذ الجميع أو كما قالوا لنا اٍنّه البيت الذي يؤسس للديمقراطية ولإدارة الخلاف وتوصّلنا إلى دستور جديد وهنأنا القاصي والدّاني وقلنا ها نحن على أبواب دولة جديدة متجدّدة تفتح عهدا جديدا مع المواطن التونسي الذي يطمح إلى مزيد من الحريات واٍلى المزيد من الشفافية والعدل في التوزيع والحوكمة الرشيدة. ولكن ما أن بدأت مرحلة التحضير للانتخابات التشريعية ومن بعدها الرئاسية حتى بدأت تطفو على السّاحة مظاهر خلناها من العهد البائد أكل عليها الدّهر وشرب ولعلّ أهمّها ما ظهر مؤخرا من فضائح أدلت بها الهيئة المستقلّة للانتخابات في موضوع التزكية للترشّحات الرئاسية. أول المفاجآت العدد المهول والغير معقول للمرشحين الذي بلغ حدّ السبعين في بلد لا يتجاوز عدد السكاّن فيه الإحدى عشر مليونا في حين نرى في بلد كالهند مثلا الذي يبلغ عدد سكاّنه ما يتجاوز المليار نسمة  والذي نظّم انتخابات رئاسية أخيرا لم يتجاوز عدد المرشحين فيه للرئاسيــة 11 مرشّحا، يا للمهزلة التونسية !!!!
في نفس السياق نرى أغلب المرشحين والذين وقع رفض ترشّحهم من طرف الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات التونسية قد بلغوا 41 مترشّحا قد استعملوا تزكيات مزيّفة وفيها لعب المال السياسي في الاستحواذ باطلا على الأصوات وهذا السلوك يتنافى مع شروط الانتقال الديمقراطي.
لا يمكن أن يتواصل هذا الاستهجان المقيت للمواطن التونسي واستبلاهه فهو صانع الثورة وهو المنادي بالتغيير. ومن يترشّح لمنصب الرئاسة عليه أوّلا أن يبدأ على تعليم نفسه أدب احترام التونسيين صغيرهم وكبيرهم غنيّهم وفقيرهم لا أن ينتهز الفرص من أجل الانقضاض على السلطة مهما كانت الوسائل وأن يبرّر لنفسه كلّ الذرائع من أجل الوصول على ظهر الشعب فالسيادة للشعب ومنه تنبع.
هؤلاء الانتهازيون الانكشاريون لا بدّ من عرضهم على القضاء حتى يقول كلمته فيهم وأن يكون ذلك درسا فيما بعد لمن تسوّل له نفسه الركوب على آلام هذا الشعب الذي ضحّى ومازال من أجل أن تقوم تونس دولة عزيزة بأبنائها الصادقين. ولا يمكن لتونس الجديدة أن تقبل على نفسها أن تغرق في أحابيل المال السياسي الفاسد الذي بدأنا نشتمّ رائحته العفنة يفسد علينا نخوتنا وهمّتنا في بناء صرح جديد متين لا يتزعزع أبدا للديمقراطية الناشئة. على التونسيين والتونسيات أن يتفطّنوا وينتبهوا لهذا المال الفاسد والذي يغري الكثيرين فاللذين يصرفون المال اليوم هكذا دون حساب هو ينتظرون فيما بعد بيع أحلامنا لاسترداد ما صرفوه اليوم غنائم مضاعفة. إنهم يستثمرونه لأنفسهم ولمصالحهم وكان أجدر بهذا المال السائب أن يصرف في خلق مواطن شغل ومؤسسات جديدة داعمة للنسيج الاقتصادي الضعيف ولتقوية الدينار التونسي على مجابهة الصعوبات التي يمرّ بها هاته الأيام وقد وقع إسناد رقم ضعيف لتقييم وضعية البنوك التونسية هذه الأيام في المؤسسات العالمية. لا يدّ للشعب أن ينتبه لما يحاك ضدّه من بعض السياسيين المتهوّرين اللذين هم عالة ووصمة عار على السياسة. السياسي في البلدان المتقدّمة يجتهد وبعصر ذهنه لإيجاد حلول اجتماعية واقتصادية لبلاده من خلال تقديم برامج سياسية واقتصادية علمية بلغة الأرقام وسياسيونا المغمورون يسهرون الليالي لحياكة الحيل من أجل جمع عدد من الأصوات المزيفة تزكّيهم اٍمّا رشوة بالمال الفاسد أو بالحيلة والتحيّل عليهم دون علمهم فالكثير من الناس وجد نفسه مزكّيا لمترشّح وهو آخر من يعلم ولولا تلك الخدمة الرقمية التي جهّزتها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات (*195*رقم بطاقة التعريف#) ولولا صيحة الفزع التي أطلقتها الكثير من منظمات المجتمع المدني كمرصد شاهد ومراقبون لما عرفنا ما يجري من تحت أرجلنا. فلنقف أيّها التونسيون والتونسيات جميعا يدا واحدة ضدّ المال السياسي الفاسد فمن يشترينا اليوم سوف يبيعنا غدا وبأ زهد الأثمان...  
-------
أستاذ جامعي في الاٍعلامية الصناعية وتواصل الاٍنسان والآلة
mejrilassad@yahoo.fr