بحوث ودراسات

بقلم
د.جميل حمداوي
مفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي الحديث (الافغاني وعبده)
 ترتبط الحقيقة في الفكر الإسلامي الحديث بالجواب عن سؤال جوهري: لماذا تخلف المسلمون وتقدّم غيرهم؟ ويبرز هذا السؤال بطبيعة الحال إشكالية التقدم والتخلف، أو إشكالية النهضة والانحطاط، أو إشكالية الشرق والغرب. ويعني هذا أن الفكر الإسلامي قد تجاوز مجموعة من الإشكاليات التي تنوولت في العصور الوسطى، كإشكالية العقل والنص، وإشكالية الظاهر والباطن، وإشكالية التوفيق والتلفيق، بل أصبح همه الشاغل هو سؤال النهضة أو التقدم، وذلك من خلال الإجابة عن سؤالين مهمين: لماذا تخلف المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ وبالتالي، ما هي الحلول الناجعة والسبل الكفيلة للخروج من هذا التخلف والانحطاط؟ بتعبير آخر، لابد من تشخيص الداء، ووصف الدواء، ورصد العلاج. ومن ثم، فالحقيقة الكبرى التي قام عليها الفكر الإسلامي الحديث هي حقيقة النهضة والتنوير ، وذلك في مقابل حقيقة التخلف والانحطاط. لذلك، سارع المفكرون المسلمون في وصف الواقع الإسلامي المنحط، وتشخيص سلبياته في جميع الميادين والمجالات، مع اقتراح الحلول المناسبة لإنقاذ المسلمين من أوضاعهم المزرية التي كانوا يتخبطون فيها على جميع المستويات والأصعدة.
وهكذا، يرى جمال الدين الأفغاني (1839-1897م) بأن سبب انحطاط المسلمين وتخلفهم يعود إلى ضياع الحقيقة الدينية في صفائها، وانقسام المسلمين إلى ممالك وإمارات ودويلات وطوائف ومذاهب، فاختلفت كلمتهم، وتفرق شملهم. فانتقل المسلمون سياسيا من نظام الخلافة إلى نظام الملك، فأصابهم التقهقر والانحطاط. ويعني هذا أن المسلمين عرفوا نوعين من التشتت: التشتت السياسي الذي يتمثل في كثرة الممالك، والتشتت الديني الذي يتجلى في كثرة الطوائف والمذاهب. كما تحول الدين إلى طقوس وشعائر وتعاليم ورسوم بلا معنى، وصارت العبادة ممارسات صوفية خارقة. وبذلك ، أساء رجال الدين  فهم الشريعة، وذلك من حيث لايعلمون، وتفسير العقيدة الصحيحة، مبشرين بالتواكل والقضاء والقدر، معتمدين في تأويلاتهم على الخوارق والأساطير. ومن ثم، كان ضعفهم في عدم فهم الدين على أساس النّص أولا، فالواقع ثانيا. وهذا هو موطن تقاعسهم وتخلفهم. في حين ، تقدم الغربيون في شتى الميادين العلمية والمعرفية والتقنية ، وذلك بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى ؛ بفضل الوحدة والعزيمة والعلم والفكرة والعمل. وهكذا، فالحقيقة عند جمال الدين الأفغاني مبنية على فهم الدين فهما صحيحا ، وذلك على أساس الوحدة والعلم والعقل والإيمان والعمل.
هذا، وقد كان جمال الدين الأفغاني من دعاة الجامعة الإسلامية، بغية مقاومة الاستعمار الغربي بشتى السبل، والوقوف في وجه العدوان الصليبي، عن طريق تكتل المسلمين ضمن جامعة إسلامية موحدة. وقد كانت هذه الفكرة السياسية الجريئة هي الأساس الذي قامت عليه الخلافة الإسلامية العثمانية في عهد عبد الحميد الثاني. وفي هذا المنحى، يقول الدكتور فاروق أبوزيد: « والأمر الذي لاشك فيه أن صحيفة (العروة الوثقى) التي أصدرها جمال الدين الأفغاني في باريس بمعاونة الشيخ محمد عبده قد لعبت الدور الرئيس في بلورة المحتوى الإيديولوجي لفكرة الجامعة الإسلامية، ويرجع إلى جمال الدين الأفغاني ومقالاته في (العروة الوثقى) الفضل في كون فكرة الجامعة الإسلامية لم تقف عند الحدّ الذي أراده لها السلطان عبد الحميد الثاني...فقد منحها جمال الدين الأفغاني محتوى تحرريا ومضمونا معاديا للاستعمار.» (1)
هذا، وقد كانت فكرة الجامعة الإسلامية فكرة إيديولوجية مقبولة في المجتمع الإسلامي؛ لما لها من آثار إيجابية في مواجهة الاستعمار الغربي. وفي هذا الصدد، يقول الدكتور محمد الكتاني: «في هذه الظروف لقيت فكرة الجامعة الإسلامية من القبول والحماس ما لم تلقه في أي ظروف أخرى سابقة أو لاحقة، وكان جمال الدين الأفغاني هو فيلسوف هذه الحركة ورائدها، في مقدمة الواعين يومئذ بحقيقة الأوضاع واتجاهات الأحداث، أو بضرورة هذه الجامعة بين المسلمين من أجل مقاومة الاستعمار الغربي مقاومة فعالة، وإن كان هؤلاء المسلمون على علم بأن الدولة العثمانية، أو الخليفة العثماني المستبد هو الذي سيستفيد في البداية من هذه الحركة الدينية التي جعلت منه الخليفة الأول للمسلمين. نعم، لا يمكن تحديد مفهوم الجامعة الإسلامية من غير الرجوع إلى جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية والسياسية في العالم العربي، عن طريق ما بثّه من آراء وتوجيهات في طائفة من تلاميذ، والمتأثرين به، كالإمام محمد عبده، ومصطفى كامل، وعبد الله النديم، وأديب إسحق، وعبد الرحمن الكواكبي، ورشيد رضا، في المشرق العربي، فضلا عمن تأثر به من مفكري المغرب العربي والشرق الإسلامي. وقد كان الأفغاني مهتما بتحليل أمراض العالم الإسلامي النفسية والأخلاقية والاجتماعية، كما كان مدركا لأوضاعه السياسية، ولما يحدق به من الأخطار من جراء ضعفه الداخلي وانحلاله الاجتماعي.» (2)
بيد أن الحقيقة الدينية لدى جمال الدين الأفغاني قائمة على أساس الوحدة الدينية والسياسية. بمعنى أن السياسي في خدمة الديني، وأساس هذا السياسي هو الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعا، ونبذ التفرقة. وفي هذا يقول الأفغاني: «علمنا وعلم العقلاء أجمعين أن المسلمين لايعرفون لهم جنسيّة إلا في دينهم واعتقادهم» (3) ، وكان الأفغاني يدعو المسلمين إلى تمثل الوحدة الدينية والسياسية منهجا في سلوكهم وحياتهم ، وذلك بأن: « يعتصموا بحبل الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي، والفارسي بالهندي ، والمصري بالمغربي، وقامت لهم مقام الرابطة الجنسية.» (4) 
ويقول الأفغاني في موقع آخر مدافعا عن الوحدة السياسية والدينية: «هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا يتقيدون برابطة الشعوب وعصبيات الأجناس، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين. لهذا، نرى المغرب لاينفر من سلطة التركي ، والفارسي يقبل سيادة العربي، والهندي يذعن لرياسة الأفغاني، لا اشمئزاز عند أحد منهم، ولا انقباض، وأن المسلم في تبدل حكوماته لايأنف ولا يستنكر مايعرض عليه من أشكالها وانتقالها، مادام صاحب الحكم حافظا لشأن الشريعة ذاهبا مذاهبها. « (5)
ومن ثم، يعتبر الأفغاني الحقيقة الدينية القائمة على الوحدة هي أساس الإصلاح والتثوير والتنوير، وتحقيق النهضة الإسلامية الحديثة، فقد كان الإصلاح عنده: «يعتمد على أساس ديني» ليس إلا (6).
ومن جهة أخرى، يرى محمد عبده (1849-1905م) بأن انحطاط المسلمين بدأ مع العصر العباسي، وذلك حينما أبدل الخليفة المعتصم الجنود العرب بالجنود الأتراك، فانبثق عن ذلك الفساد السياسي، فالطغيان العسكري. وقد تأثر محمد عبده أيما تأثر بأستاذه جمال الدين الأفغاني ، وذلك حينما أرجع سبب تخلف المسلمين إلى ضياع الحقيقة الدينية الصافية، وابتعاد المسلمين عن الشريعة الإسلامية الحقيقية كما كان يطبقها السلف الصالح. لذلك، أدرج محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وشكيب أرسلان، وعبد الرحمن الكواكبي، ضمن رواد الحركة السلفية الحديثة. لأنه يعتبر الإسلام السبيل الوحيد لتحقيق النهضة المثلى، ولاسيما أن الإسلام هو دين العقل والعلم والإيمان والعمل. ومن ثم، فهو يهدف أولا وقبل كل شيء:«إلى تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدّين على طريقة سلف الأمّة قبل ظهور الخلاف، والرّجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتمّ حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنّه على هذا الوجه يعدّ صديقا للعلم، باعثا على البحث في أسرار الكون، داعيا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبا بالتعويل عليها في أدب النّفس وإصلاح العمل» (7) 
بيد أن محمد عبده لا يأخذ بالإصلاح الديني فقط، بل يركز على مجموعة من الإصلاحات الضرورية، كالإصلاح السياسي، والإصلاح اللغوي، والإصلاح التربوي، والإصلاح الاجتماعي. فعن الإصلاح اللغوي والأدبي، يقول محمد عبده : «أما الأمر الثاني: فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، سواء كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة، منشئا أو مترجما من لغات أخرى، أو في المراسلات بين الناس. وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين، كلاهما، يمجه الذوق ، وتنكره لغة العرب: الأول ماكان مستعملا في مصالح الحكومة وما يشبهها، وهو ضرب من ضروب التأليف بين الكلمات رث خبيث غير مفهوم، ولايمكن رده إلى لغة من لغات العالم لا في صورته ولا في مادته، ولايزال شيء من بقاياه إلى اليوم عند بعض الكتاب من القبط ومن تعلم منهم، غير أنه والحمد لله قليل، والنوع الثاني ماكان يستعمله الأدباء والمتخرجون من الجامع الأزهر، وهو ماكان يراعى فيه السجع وإن كان باردا، وتلاحظ فيه الفواصل وأنواع الجناس ، وإن كان رديئا في الذوق، بعيدا عن الفهم، ثقيلا على السمع، غير مؤد للمعنى المقصود، ولامنطبق على آداب اللغة العربية، وهو وإن كان يمكن رده إلى أصول اللغة العربية في صورته، لكنه  لايعد من أساليبها المرضية عند أهلها، ولايزال هذا النوع موجودا في عبارات المشايخ خاصة...» (8).
ولقد اهتم أيضا بالإصلاح الاجتماعي من خلال دعوته إلى العدالة الاجتماعية القائمة على التكافل والجماعية، والوقوف أولا ضد الظلم الاقتصادي، وثانيا ضد التفاوت الطبقي الفاحش بين الفقراء والأغنياء، و ثالثا ضد تحكم رأس المال. ويقول عنه الدكتور محمد عمارة:» هذا الفكر الذي لا نقول عنه إنه كان فكرا اشتراكيا، وإنما نضعه في مكان بارز من الفكر «الإنساني» الطامح إلى لون من العدالة الاجتماعية يتناسب مع فهم الرجل لظروف عصره، والأحكام الكلية التي جاء بها الإسلام في هذا الميدان...فلم يكن الرجل محاميا عن الجماهير الكادحة في المجتمع، وإنما كان أقرب إلى تمثيل الطبقة الوسطى التي كانت تلعب دورا تقدميا وثوريا في عصره، ولكنه كان أيضا صاحب موقف «شمولي» في نظرته للمجتمع ، جعله  يقف إلى جانب الفقراء أيضا...وهذه الملاحظة إنما تمثل بالنسبة للبحث قضية تتعلق بالمنهج الذي يجب أن نعالج به دراساتنا لفكر الأستاذ الإمام وأمثاله من أئمة المفكرين المسلمين.» (9) 
كما اهتم محمد عبده بالإصلاح السياسي، متأثرا في ذلك بأستاذه جمال الدين الأفغاني، حينما كان يصدران معا بباريس جريدة « العروة الوثقى» ذات الطابع الديني والسياسي. وفي هذا السياق، يقول محمد عبده: «وهناك أمر آخر كنت من دعاته، والناس جميعا في عمى عنه، وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بسبب خلو مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهي، هذه الأمة، لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرنا...دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته، هو من البشر الذين يخطئون، وتغلبهم شهواتهم ، وأنه لايرده عن خطئه ولايوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل...جهرنا بهذا القول، والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد...» (10) 
بيد أن الإصلاح الذي كان يهتم به محمد عبده أيّما اهتمام هو الإصلاح الديني والإصلاح اللغوي والتربوي: « نعم إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع ولا الرئيس المطاع، غير أني كنت روح الدعوة، وهي لاتزال بي في كثير مما ذكرت قائمة، ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب، أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من غرس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغرس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن والله المستعان.» (11)
 ولكن يبقى الإصلاح التربوي هو الأهم عند محمد عبده، إذ يرى أن السبب الحقيقي وراء تخلف المسلمين هو تردي الأنظمة التربوية والتعليمية في العالم الإسلامي؛ بسبب طغيان المناهج التقليدية العقيمة المبنية على التقليد، والانقياد، والاستسلام، والحفظ، والنظم، والجمود، والسطحية، والتخلف الفكري.أي: إن تخلف المسلمين راجع إلى اتباع أساليب تربوية عقيمة في الشكل والمحتوى؛ مما نتج عنه تخلف فكري كان سببا في انحطاط المسلمين وتقاعسهم. ويعني هذا أن الإمام محمد عبده يركز أساسا على الحقيقة التربوية – التعليمية تشخيصا واستشرافا: «أمر التربية هو قبل كل شيء... وعليه يبنى كل شيء.. وأي إصلاح في الشرق والشرقيين لابدّ وأن يستند إلى الدّين...والنّاس في التّعليم طبقات ثلاث: العامّة... والسّاسة...والعلماء... ويجب تحديد ما يلزم لكل واحدة من هذه الطبقات الثلاث من التعليم، كما ونوعا؟!»
ويضيف الإمام محمد عبده بأن إصلاح المجتمع المصري يكون بالعلم وإصلاح التربية: «نحن في بلاد رزقها الله سعة من العيش، ومنحها خصوبة وغنى يسهلان على كل عائش فيها قطع أيام الحياة بالراحة والسعة، ولكنها وياللأسف منيت، مع ذلك، بأشد ضرور الفقر: فقر العقول والتربية» (12). ومن هنا، يطالب محمد عبده الأغنياء والخواص ببناء المدارس لنشر التربية والتعليم، بغية تنوير المجتمع وتطويره، بدلا من الاتكال دائما على  الحكومة لتقوم بهذا الدور. وهذه الفكرة وجيهة، وقد أخذت بها الدول الغربية المتقدمة ذات النظام الليبرالي، فالخواص من الأغنياء وغير الأغنياء هم الذين يقومون ببناء المدارس والمعاهد التعليمية سواء أكانت عامة أم خاصة: «على الأغنياء منّا، الذين يخافون من تغلب الغير عليهم، وتطاول الأيدي الظالمة إليهم، أكثر من الفقراء، أن يتآلفوا ويتحدوا، ويبذلوا من أموالهم في سبيل افتتاح المدارس والمكاتب واتساع دوائر التعليم، حتى تعم التربية، وتثبت في البلاد جراثيم العقل والإدراك، وتنمو روح الحق والإصلاح، وتتهذب النفوس، ويشتد الإحساس بالمنافع والمضار، فيوجد من أبناء البلاد من يضارع بني غيرها من الأمم، فتكون عند ذلك معهم في رتبة المساواة، لهم ما لنا وعليهم ماعلينا...وعلى الحكومة في جميع ذلك أن تسن قوانين التعليم، وتلاحظ أحوال المعلمين والمتعلمين...» (13) 
وتأسيسا على ماسبق، يصف الدكتور محمد عمارة تفكير الإمام محمد عبده في المجال التربوي بالمثالية والسذاجة ، مع انعدام الواقعية والشمولية في مقارباته وتصوراته :» من النظرة الشاملة إلى الفكر الذي قدمه الإمام في موضوع التربية والتعليم نجد أن الرجل كان صاحب نظرة مثالية، غير واقعية، إلى هذا الحقل من حقول الإصلاح...فهو عندما اعتقد أن التربية هي العصا السحرية التي تغير كل شيء، وتبدل كل سلبي فتجعله إيجابيا، وتعدل كل منقوص فتجعله كاملا، وتطلق كل مقيد فتجعله متحررا...إلخ...إلخ...عندما اعتقد ذلك قد أغفل الجوانب الأخرى في حياة المجتمع والمشاكل العديدة التي لابد من أن يسير المصلحون أو الثوار في حلها جنبا إلى جنب مع الإصلاح التربوي والنهضة بالتعليم.
فليست تكفي التربية لوجود حياة أسرية سعيدة ومستقرة، إذ لابد من حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية التي تطحن الأسرة،وتلقي في طريق سعادتها واستقرارها بالأشواك والعقبات.
وليست تكفي التربية للحاق بالأمم المتقدمة، إذ لابد  لخلق المناخ الصالح للتربية من الدخول في معارك عديدة ضد ما يعترض قيام هذا المناخ الصالح من عقبات ومعوقات...
كما لابد من تحديد أي أنواع التربية والتعليم هو الذي يمكننا من اللحاق بالأمم المتقدمة، وهو أمر يتوقف على تحديد ماهية التقدم، وارتباط معاييره بالعصر الذي نعيشه، والمهام التي على المجتمع أن ينجزها في هذه المرحلة المحددة من مراحل نموه وتطوره...إلخ...إلخ...» (14)
ولا أتفق مع توصيف الدكتور محمد عمارة، فنظرة محمد عبده كانت صائبة إلى حدّ كبير، فلا يمكن للمجتمع أن يتغير سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ولغويا إلا بالإصلاح التربوي القائم على التعليم والتثقيف والتهذيب والتوعية العلمية. لذا، نجد بأنّ أول سورة من سور القرآن الكريم تنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم تحثّ على العلم. ومن ثمّ، يعتبره الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة. زد على ذلك، فقد أعطى الغربيّون أهمية كبرى للعلم والتربية في بناء مجتمعاتهم المتقدمة، فقد قامت ثورتهم الإنسيّة إبان عصر النهضة على الاهتمام بالعلم، وتقديس العقل، ولم تقم نهضتهم العلمية على أساس الدّين أو الاقتصاد أو السياسة؛ لأن أوروبا في تلك الفترة التي أعقبت العصور الوسطى مباشرة كانت تعيش في ظل أنظمة ملكية مطلقة، كما كنت تعيش في ظل الكنيسة التي كانت تقف في وجه العلم، وما حدث لجاليلي خير مثال على ذلك. وثمة دليل آخر على أن التربية هي أساس التقدم والازدهار والتنمية الحقيقية، فقد حقق اليابانيون تقدمهم العلمي والتقني منذ القرن التاسع عشر في عهد الإمبراطور موتسوهيتو، وذلك عن طريق التعليم والتربية والتثقيف، وتشجيع الصناعة، مع العلم أن اليابان لا تملك ثروات طبيعية، كتلك الثروات التي تملكها مصر أو بلدان العالم العربي، بل حتى نظامهم السياسي آنئذ كان نظاما إمبراطوريا فرديا وراثيا، وليس نظاما ديمقراطيا كما في دول أوروبا الغربية. وعليه، فالتربية هي أسّ التقدم والتفوق العلمي والتقني والثقافي، ومرتكز المدنية والحضارة والعمران البشري. 
الهوامش
(1) د.محمد عمارة: الأعمال الكاملة للأفغاني، دار الكتاب العربي، القاهرة، مصر، طبعة 1968م، ص:34.
(2) د.محمد الكتاني: الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث، الجزء الأول، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1982م، ص:79-80.
(3) جمال الدين الأفغاني: (الوحدة والسيادة)، جريدة العروة الوثقى، باريس، 14 غشت1884م.
(4) جمال الدين الأفغاني: (عصبية الجنس وعصبية الدين)، جريدة العروة الوثقى، باريس، 24 غشت1884م.
(5) جمال الدين الأفغاني: (أمة واحدة)، جريدة العروة الوثقى، باريس، 28 غشت1884م.
(6)  د.فاروق أبو زيد: أزمة الفكر القومي في الصحافة المصرية، دار الفكر والفن، القاهرة، مصر، طبعة 1976م، ص: 135.
(7) محمد عبده: الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1972م، الجزء الثاني، ص:318.
(8) محمد عبده: الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1972م، الجزء الثاني، ص:318.
(9) د.محمد عمارة: الإمام محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1988م، ص:177-178.
(10) محمد عبده: الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، الجزء الثاني، ص:318-320.
(11) محمد عبده: محمد عبده: الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، الجزء الثاني، ص:318-320.
(12) محمد عبده:الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، ص:156-157.
(13) محمد عبده: الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، ص:48-47.
(14) د.محمد عمارة: الإمام محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1988م، ص:213-214.
-------
-  أستاذ التعليم العالي (المغرب).
hamdaouidocteur@gmail.com