الأدب الهادف

بقلم
مالك الشعبوني
ارحام
 لم يكن ينقص سالما في هذه الليلة سوى أن يتعالى صوت أغنيته المفضّلة معلنا إتصالا من رقم مجهول... ندم أنّه لم يغلق جهازه. فضّل في تلك اللحظة أن لا يكلّمه صديقه ليوقظه في الصّباح وأن يضيع العقد الذي سيمضيه غدا مع حريفه. و لكن هيهات! قام متثاقلا، لم يغادر الصّداع رأسه، رفع الجوّال إلى أذنه فأتاه صوت غريب يخبره بما لم يتوقعه أبدا!! لم يكد ينه المكالمة حتى حمل مفتاح السّيارة وخرج، نسي أنّه بثياب نومه. تذكّر ذلك عندما لمح هيئته في زجاج السّيارة العاكس لضوء القمر. عاد متشنّجا ليغير ملابسه. لم يكن يعرف لماذا يذهب بالضّبط. ربّما كانت صدمة أيقظت فيه غريزة وئدت دون ذنب.
غرفة مليئة بالصّخب... هو الأمر الوحيد الذي كان يشغل بال وسيلة المرميّة على السّرير. لم تكن الألام أشدّ ممّا توقّعت، ولم تعد تحسّ بها، كأنّ رحمة إلهيّة خدرتها. كانت نصف نائمة، ملّت الإنتظار. لم تكن متحمّسة للغد. ستفعل ما بوسعها لكي لا تغيّر هذه الليلة كثيرا من حياتها. هل كان يجب عليها أن تصرخ؟ ألا يكفي هذا الضّجيج؟ خطر ببالها أن الحلّ الوحيد لكي يهتمّ بها الحضور هو أن تفعل مثل كلّ النّساء المتناثرات في الحجرات المجاورة. نظرت إلى بطنها. تذكّرت كم كانت تكره شكلها طوال الأشهر الأخيرة. جعلتها هاته الصّورة تعزم على التّخلص من شكلها هذا إلى الأبد. لن يتكرّر الخطأ مرّات أخرى. همّت بالصّراخ، ولكن الغضب الكامن أراد بها غير ذلك. لم تكن ترغب أن يساعدها أحد، كانت تكره الجميع في هذا المكان. نظرت إلى بطنها مجدّدا. تساءلت كيف سيكون؟ من؟ بطنها أولا، وأيضا هو... ذلك الرّضيع الذي سيكون ابنها. كانت غرائز الأمومة تعود إليها من حين إلى أخر. هل ستحبّه بعد قليل؟ أغمضت عينيها وأجّلت الإجابة إلى بعد حين. لم تصرخ، لم تستنجد، قرّرت الولادة بمفردها!
وقف سالم أمام نافذة الغرفة يراقب جسدها المرمي على السّرير. حاول أن يتعرّف على وجهها، لكن خانته الذّاكرة والظّروف، وحجبه عنه قناع الأكسجين. لم يكن حزينا... كان يريد أن يكون كذلك. ولكنّه يعلم أن ذلك لن يغيّر شيئا من الواقع سواء حدث أم لم يحدث. لا يريد أن يؤثّر بحزنه على تقييم ما قدّمه لها. هل كانت تستحق أكثر؟ لم يكن متأكدا! لم تقدم له الشيء الكثير، وكذلك فعل. صحيح أنّها انفقت عليه مدّة من الزّمن. لكن مصاريفه عليها لم تكن قليلة، حتّى أن بعض الأصدقاء نصحه بالكفّ عن إهدار ماله في ما لا يعني! لم يكن متأكّدا أكان واجبا أن يصرف كل هذا المال أم لا، ولكنه تكرّم، أو هكذا كان يعتقد. في نهاية المطاف، ليست الحضانة أفضل من دار العجز. وليست مصاريف الدّراسة أكثر من عشر سنوات من الإقامة هناك. لم يكن بينهما أكثر من هذا، لم يكن بينهما مجال للحبّ. كانت علاقة مصالح مشتركة، بينه و بين من وصفها مخاطبه في الهاتف منذ حين بأنّها أمّه. إستغرق في التّفكير، جلس على كرسي قريب، غلبه النّعاس على وقع دقّات الألات التي تملأ المكان وحشة. 
لو كان بنتا لسمته « سهلة». هكذا خمنت بعد أن سمعت صرخة ابنها في وقت قصير ودون ألام لا تحتمل. كان عليها أن تحبّه لأنه لم يعذبها كثيرا، ولكن لعلّ الألم من صفات الحبّ! كان يبكي بأعلى صوته ولكنه لم يكن يسمع خارج الغرفة. مجرد عازف كمنجة دخل على الجوقة. كانت أمّه غاضبة لأنّ الجميع لم يعرها الإهتمام، لم يأت أحد لأنها لم تصرخ!! نادت منهكة إحدى القابلات. ثم أغمضت أجفانها واسترخت، بعدما رأت الدّهشة في عينيها. 
فتحت وسيلة عينيها فرأت ابنها بجانب إحدى الممرّضات يرمقها بنظرات قلقة. لقد اشتاقت إليه. لم لا؟ أليس من حقّها أن تسترجع أمومتها في بعض الأحيان؟ مرّ شريط جفائها أمام عينيها لوهلة. كانت متعبة. لم تترك الألام شبرا من جسدها إلا واحتلته! كانت حزينة، نظرت إلى بطنها كأنها تريد أن تعيده إلى أحشائها. لم تعد تخشى أن يفسد شكلها. اعتادت عليه. لم تخطئ مرة أخرى ولكنّها رغم ذلك فقدت شكلها من جديد. كان بطنها منتفخا مثل يوم ولدته. تذكرت كل شيء. يا ليتها تعيد كل شيء. لم يبق لديها صفحات بيضاء لتبدأ الكتابة من جديد. كان سالم الواقف أمامها الصفحة الأنصع، ولكنّها سكبت على قلبه الحبر الأسود. أحسّت بالدّموع تخنقها. صورة ابنها تصبح ضبابيّة بالدّموع، اغلقت عينيها لتنزل دمعة فتتوضح الرؤية من جديد. نزلت الدمعة... و لكن العين لم تفتح من جديد...
 إستمع سالم إلى كلام الممرضة، لم يجبها. لم يكن مركزا في كلامها. أيقظته الممرضة من غفوته، وتحدثت معه عن حالة أمّه. أعجبته الممرّضة. ولكن لم يكن السّبب الوحيد لشروده. نظر إلى السّاعة، كانت الثّامنة وشيكة، وكان عليه الذّهاب. أنهت كلامها وانصرفت. كان عليه أن لا يضيع الوقت وأن يخرج. ولكنّه لم يتحرك، لا يدري لماذا، و لكنّه تسمر في مكانه، كأنّه يريد أن يوقف الساعة ويتأمّل. من دون سبب يذكر، أراد أن يبقى هنا. يعلم أنّ أمّه لن تصمد. لماذا يبقى بجانبها؟ الواقع أنّه لو علم أنّها ستشفى لذهب. ولكنّه أحسّ بقرب الفراق. أيّ فراق؟ قد فارقها لأعوام! لم يكن هذا الفراق مثل غيره. لأنّه كان يأمل أن يعيش معها يوما عاديا، كأمّ وإبن. ولكنّه لم يستطع طيلة حياتها. وكان مع كل فراق يتوقّع لقاء جديدا قد يغيّر الأحوال. وها هو اللّقاء الأخير. فليستغله ليحقق ما أراد. فليعشه كإبن لتلك المرأة الغريبة التي وضعته يوما، في نفس المشفى منذ سنوات... إقترب من الزّجاج. خيّل له أنّها فتحت عيناها لما كانت الممرضة هنا. كيف لها ذلك وهي تحتضر؟ لعلّها أرادت أن تشاركه لحظة أمومة... اعتصر قلبه النّازف، أخرج حزن عمر في لحظة. إسترسل صوت الألة... معلنا النهاية.
------
- طالب
chaabouni.malek@gmail.com