قبل الوداع

بقلم
يسري بن ساسي
أين الكواكبي؟
 إن اختصار الاستبداد لإحالاتنا السّياسية له فقط ليس رديف انحصاره في هذا النّطاق فحسب فللاستبداد أشرعة كثيرة يفردها على المجتمعات فيغشيها ويحجب عنها الشّمس وصواري عديدة تنصب في الأمم فتدكّها وتدعيها...والاستبداد طبع سمج وعقلية سليطة قد يبلى بها أي إنسان إذا كانت هناك تربة خصبة..بل من الأحق القول أنّ الاستبداد كشجرة الزّقوم قعرها في النّار تصلي وتحرق بها أعماق الانسانية وطلعها كأنّه رؤوس الشّياطين تبذرها في ثناياها..
لقد حبرت الصحف وغمقت وانفجرت الأقلام وانبجست في هذا الخصوص، فانهمرت المفاهيم واختلطت التعريفات لما جدّت في إيجاد وصفه وتداخلت المناشئ وتشابكت الأسباب لما بتتت في بيان أصله وتضاربت الآراء وتناقضت الأفكار لما عنت في بحث حلّه لكنّي وجدت في كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لصاحبه المفكر المستنير «عبد الرحمان الكواكبي» خير معيض ونعم بديل..
 وإني لأنضي هذه الأسطر لا في طرحه أو درسه أو حتى تقديمه فما أهوننا في ذلك – ولقد رصدت الدّراسات في استجلاء مقاصده وجنّدت البحوث في استخراج فوائده لكنّها ظلّت مقصورة على الأكاديميين، مطمورة في رفوفهم مثلما ظلّ الكتاب قصيّا عن مكتبة عامة الناس –ولكنّي أنضيها للإشادة بأهمية هذا الكتاب المتفرّد ولرجاء يعلوني وأمل يحدوني في أن يعمر هذا الأخير كل رفّ ويؤثث كلّ مكتبة لا زينة وتفخرا بل قراءة وتمحصا..
و بالرغم من إدراكي للشدق الواسع بما لا يمكن تجاهله أو نكرانه بين الكتاب والفرد في مجتمعاتنا وغثاثة الوشائج بينهما حتى لتكاد تنقطع كليّة، فإنّ هذا لا يمنعني من التّأكيد على جدارة هذا الكتاب بوجدان كل قارئ عربي لعلّ هناك من فيه يسمع وعسى به من لذلك يصغي...
بيد أن هذا لا يفي الكتاب حقّه في الاستفادة منه وغرضه في العمل بما جاء به مع الاجتهاد والتجديد، فالكواكبي نبغ في تأليفه لعصره ولنا أن نستلهم منه في بديع التأليف لعصرنا وليس يفي الكتاب قدره سوى إدراجه في البرامج التعليمية والمناهج الدراسية للنشء..
أليس أبناؤنا وشبابنا أحقّ أن ينتهل من هكذا درّة في الفكر الكوني المستنير وهكذا نفيسة في الأدب الانسانيّ الرفيع ..فلماذا نحرمهم منه؟
أليس الاستبداد من خبيث الطّبع، فلماذا لا ننشئها على السليم منه ونربيها على المترقي فيه؟..
أليس هذا الكتاب أحقّ بأن تستمرئ العقول مباني فكره الجليلة وتستطيب النفوس معاني خلقه الجميلة؟ فلم نحرم أولادنا هذه المناجم الثمينة؟
أو ليس الاستبداد معضلة المعضلات ومشكلة المشكلات؟ فلماذا نظنّ بهذا الدّليل على الأجيال الجديدة و هو قد يكون لها خارطة طريق في تحقيق أصوله وفروعه وبيان  مبادئ حلوله بما يفسح لها المجال في التحرر من قبضته؟..
لماذا نكتم عن طلبة المدارس والجامعة كتابا قد يفيد في تحصينها من سطوة كل أشكاله وهيمنة كل أنواعه.؟.
ألسنا نرزح ومنذ قرون تحت وطأته ؟ أليس مرد أزمات الشّعوب ومصائبها ؟ أليس من الحكمة أن يطّلع عليه النّشء فيعينهم على الإلمام بالاستبداد وإحداقاته ويعبد لهم مسالك النّجاة من ويلاته؟ 
و إذا الجماهير قد هبّت اليوم وندت صيحتها جراء ضراوته ومصير هذه الثّورات لم تتّضح معالمه بعد ولم تبدو تقاسيمه للآن، أو ليس الأجدى أن نبدأ بصغيرنا ليصقل الكتاب أفكاره ويهذب أخلاقه؟
ندائي إلى كل من يعد أو يساهم في تهيئة البرامج المدرسية والمواد التعليمية أن يضمنوها ونحن ننعم بهامش من الحرية هذا الكتاب وعبقري أفكاره خوفا عليها من تنّين الاستبداد ذي الرؤوس السّبعة..
أتمنى أن تجد كلماتي صدى عند كل من يهمه العمل الفعلي الحقيقي على الخروج بشعوبنا من مآزقها المتتالية وخنادق الاستبداد المسترسلة والمتعاقبة فيجهد ويسعى من أجل جيل جديد منفتحة قرائحه على فكر مستنير كفكر الكواكبي، يهديها سبل الحق ويرشدها طرق النهوض بالأمّة. 
-------
- كاتبة تونسيّة
docyosra@hotmail.fr