قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الرهان والنسيان
 لما ردّدها الدستوريّون على مدى عقود طويلة بل إنّ هذا الشعار مكرّس في الدستور القديم بالنّص  وقد دأب النّظام البائد على العناية بالإرادة الشّعبية وإيلائها ما تستحقّه من عناية، ولذلك كان لا يفوّت الفرصة على نفسه ولا على النّاخبين في تكريس هذه الإرادة كلّ خمس سنوات بدون انقطاع، برلمان يرث برلمانا ورئيس يرث نفسه وحزب مؤتمن على الحكم وعلى الدولة وعلى حسن تقدير الخيار الشّعبي الذي كان لا يرى في غير التّجمع الدّستوري الدّيمقراطي خيارا آخر باعتباره حزب الرّئيس «صانع التغيير» وصاحب الفصل على البلاد والعباد.
على عكس النّظام و حزبه البائدين، كان النّاس يتشاءمون من أي دعوة للانتخاب مهما كان نوعها ويعتبرون هذه الدّعوة تحقيرا لهم وحطّا من شأنهم، فهم إمّا كانوا يدعون إليها دعا ويساقون إلي تزكية المعروض عليهم من دون إرادة في القرار، وإمّا كانوا من اللّذين لا يحفلون بأي انتخابات ولا يرون ضرورة لوجودها أصلا وفي كلاّ الحالتين كان المواطنون البسطاء يخافون على أنفسهم من المعارضة أو إبداء الرّأي لما للمعارضة من عواقب وخيمة .
عشريّات طويلة مرّت على أهل هذا الوطن وهم يحترقون بلهيب المعاناة في وطن هم منه لكنه لم يكن منهم، وطن غريب عنهم، ليس لهم فيه إلاّ فرصة الحياة على أرضه لمن رضي أن يعيش خانعا، أمّا من رفض الخنوع فدونه ودون الحياة الآمنة، مقادير ليست بيده وإنّما هي بيد النّظام الحاكم وأعوانه وهكذا كان لكلّ زمن معارضوه ولكلّ حقبة ضحاياها وشهداؤها. لم يكن بيننا وبين الدّيمقراطية أي صلة من أي نوع  فمن كان من أعوان النّظام مهما كانت رتبته وموقعه ومكانته كان يدرك أن أي ديمقراطيّة تهبّ على البلد سوف تطيح به وربّما أوردته المهالك ولذلك كان دأبه الإخلاص لوليّ النّعمة والتّفاني في خدمته والمشاركة في سحق أعدائه ومن كان من المعارضين ممّن لم يرضوا بصنيع النّظام والقائمين عليه فقد كان أقصى ما يستطيعونه الحلم بالتّغيير والسعي لتحقيقه في ظلّ حصار مطبق من الدّولة بكل  أجهزتها وفي ظلّ سيل من النّعوت والشتائم التي تهدف لتشويه كل أعداء النظام وتحويلهم إلى غرباء داخل أوطانهم .
خسر هذا الوطن الكثير من خيرة أبنائه ممّن قضوا زهرة أعمارهم في السّجون والمنافي، آلاف من المواطنين عجّت بهم السّجون ودمّرتهم وذهبت بصحّتهم وشبابهم وقذفت بهم بعد المعاناة الطويلة فى أتون التّشرد والفقر والعذاب، لا لشئء سوى كونهم رفضوا أن يكونوا شهود زور، كلّ من منظوره، وأن يتركوا الوطن نهبًا لفئة باعته للغريب واكتفت منه بالفتات وقد ظنّت أنه كثير. ويا ليت الأمر توقّف عند هذا الحدّ بل تعدّاه إلى ما هو أبشع من ذلك بكثير، إذ كاد الوطن كلّه يضيع وقد استفحل فيه الخراب بعد أن استأثرت فئة قليلة بالسّلطة والثروة وحوّلت أغلب سكّانه إلى مهمّشين داخل وطنهم وبالغت في ازدراء النّاس حتّى ظنّ الكثيرون أن لا سبيل إلى أيّ تغيير.
جاءت الثّورة المباركة فكانت أشبه ما تكون بالحلم، إذ استعاد النّاس شعورهم بالمواطنة وبالحقّ في الحياة الكريمة والأهم من كل ذلك حقّهم في الوطن كلّه، بدأ بثرواته وصولا إلى حقهم في تقرير مصيره وهكذا أتيحت لهم فرصة أولى فاغتنموها وكان يوم الانتخابات بمثابة العرس من جهة وكان صفعة مدويّة على وجه كلّ القائلين بقصور هذا الشّعب وحاجته لمن يدرّبه ويعده لممارسة حقوقه ولعلّ أجمل ما فى ذلك اليوم فى رأيي أنّه كان فرصة لممارسة الحقّ فى الاختيار، حقيقة لا زورا، فقد خرج النّاس بإرادتهم ليدركوا الفرق بين ما كان يسمّى زورا مشاركة شعبيّة و بين مشاركة حرّة دون إكراه ودون احتقار أو استخفاف بهذه المشاركة. 
إنّ ما يفصلنا عن سنوات الاستبداد ليس قرنا من الزّمن ولا حتّى عقدا وإنّما هي سنوات ثلاث كانت الدّكتاتورية قبلها في أوجها و كان الشّعب فيها منقسما بين المنظّم للقطيع والمطرود من الوطن وهذه السّنوات الثلاث ليست كافية لينسى فيها الوطن ومواطنوه مقدار ما كانوا فيه من مأساة على يد فئة من بني وطنهم ممن استقوى عليهم بالسّلطان أو كان جزءا منه فهل سيكون لهذه الفئة حقّا نصيب يتيح لها العودة بيد الشّعب هذه المرّة؟ وهل سيكون هذا الشّعب من الغباء بحيث ينسى في سنوات ثلاث ما كان في عقود ستّة ؟ وهل يكفي الرّهان على نضج النّاس تماما كما يراهن الآخرون على النّسيان ؟
هذه انتخابات حقيقيّة وليست كما كانت ما قبلها واللّذين زوّروا من قبل يتمنون الآن لو كان بإمكانهم التّزوير، فهل نحن حقّا أهل للمسؤوليّة وهل نحن قادرون على رفع التّحدي وكسب الرّهان؟ 
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com