وجهة نظر

بقلم
نعمه العبادي
خيارات ما قبل الإنفجار الكبير
 إن أدنى تمعّن في خارطة الاحداث لمنطقتنا وما حولها يشير بما ليس فيه مجال للشّك إلى أن الأمور السّياسية والأمنية بل والمرتكزات الوجوديّة لقوى المنطقة (دولا وما دونها): دخلت نفقا من التعقيد والتشابك إلى الحدّ الذي يصعب تخليص الأجزاء من بعضها دون أن تأخذ جزءا ممّا ألتصقت به، وأنّ جميع خطوط الصّراع لا يمكنها تحقيق النّصر المنفرد ولا تحمّل كلفة المعركة منفردة، وأنّ تأخير خيار سلام الشجعان أو مائدة «الكلّ يخسر نسبيّا» تعني أن نزيف الدّماء والكلف مستمر بوتيرة مطردة، وأنّ عامل الوقت وسرعة تداركه قد يصل إلى أن يكون لحظة الفرار من الهلاك.
منذ قرن أو أكثر يعدّ العامل الخارجي العنصر الرئيس والأساس في موازنتي الأقلاق والإستقرار لمنطقتنا، وهي معادلة قد تكون متنافية للوهلة الأولى، أو غير معقولة في الحسابات المنطقية، فكيف يكون مصدر القلق هو نفسه مصدر الإستقرار، الأمر الذي يجبر التّحليل التّقليدي أن يبتعد عن الإقرار بهذه الحالة، والذي ينتج غيابا عن الحقيقة. فالصحيح عندنا أنّ الثابت هو الدّور المحوري والمصيري للعامل الخارجي بكل تنوعاته بالنّسبة للترتيبات الكليّة والإستراتيجيّة لأمن المنطقة، وأنّ لعبة «الإقلاق والتهدئة» ممكنة في إطار حساب المصالح من وجهة نظر الطّرف المستفيد (بغضّ النّظر عن مصالح الشّركاء المكرهين قهرا على الشراكة)، مما يعني عدم وجود مؤشّرات منتظمة «لجزر ومدّ» الفعل الخارجي «حربا أو سلاما».
سلسلة «لا ممكنات» ينبغي أن تؤخذ بنظر الإعتبار لغرض أن تكتمل الصّورة تتمثل في : لا يمكن حلّ القضية السّوريّة من خلال الخيار العسكري، ولا يمكن قيام كيان كردي مستقل يحمل القدرة على البقاء والإستمرار، ولا يمكن للسّعودية أن تقيم ترتيبات سياسيّة وإستراتيجية في المنطقة على الرّغم من أنف إيران، ولا يمكن لإيران أن تشكّل صورة الخارطة بالإعتماد على دائرة الأحلاف الضيقة، ولا يمكن لإسرائيل أن تمحي مصادر إزعاجها «حزب الله ومن هم على خطّه» من الوجود، ولا يمكن لأي دولة مهما كانت علاقتها مع «قوى الإرهاب» مستوسقة أو على الأقل حياديّة أن تنام قريرة العين دون أن يقلقها أرق الأمن، ولا يمكن لأمريكا أن تجمع المتناقضات بيد واحدة ولن تبقي على الهيبة دون ان تستخدم الرّهبة ولا يمكنها تجاوز الضّد الرّوسي الصّيني الإيراني في منطقتنا، ولا يمكن لمصر أن تسلك طريق أرباح بلا ضرائب فالعمل في المناجم يسوّد الوجوه ويخنق الأنفاس، ولا يمكن لحلف تركيا-قطر- الإخوان-أطراف تحت الطاولة أن يصل إلى ما خطّط له من خارطة أهداف أو يعني ذلك نهاية وإضمحلاله، ولا يمكن الحديث عن أمن محلي لأي دولة في المنطقة ولا يستطيع أي طرف النأي بنفسه عما يدور حوله أو يضمن إستقراره دون مساعدة الشركاء، ولا يمكن أخفاء صفقات الحكّام والسّلاطين على جمهورهم لوقت طويل، ولا يمكن المراهنة في الإنجازات المصيريّة والحلول الكبرى على «قائد ضرورة» مهما كانت أهمية الأفراد في منطقتنا بل ستكون المقاربات الذّكية والتّوافقات الجماعيّة هي المخلّص الوحيد للتّغيرات الجوهريّة، ولا يمكن للقومية الناصرية أو المطوّرة ولا الشّيوعية الليلينيّة أو المحسّنة ولا الرأسمالية التقليديّة أو المحدثة أن تكون المعادل الآيديولوجي للفكر التكفيري المتغطّي بلحاف السلفيّة الجهاديّة الملفّقة، ولا يمكن الإقتصار على وسائل القوى الصّلبة في مواجهة خطر الإرهاب وإجتثاث عروقه كما لن تكون القوى النّاعمة لوحدها كافية في مواجهة خطر التّوحش.
ثلاثية : «التعقيد والتشابك» و«حتمية العامل الخارجي» و«سلسلة اللاممكنات»، تفرض صورا محدّدة من الخيارات المتصوّرة والممكنة لما قبل الإنفجار الكبير، فلن يتاح لنا المضي بعيدا في الخيالات الورديّة إلى فضاءات خارج مثلث الأزمة الضّيق المساحة.
يوجد خياران متصوران لحالة ما قبل وقوع الإنفجار الأول وهو الذي يستمرأه الكثير من الأطراف رغم عدم قدرته على المعالجة الكاملة، ويتمثل في «حل المسكنات»، والذي يعني سعي الأطراف إلى إبعاد وقوع الإنفجار الكبير من خلال معالجات جزئية مقطعية، وعبر إجراءات أنفرادية مراهنة على الوقت في الوصول إلى إنجازات عالية الأثر واطئة الكلفة، كما يجري في سلوك الأطراف المعنية مع الأزمات العراقية والسورية واللبنانية واليمنية وغيرها من الملفات الأخرى.
يعاني هذا الخيار من ثلاثة تحدّيات رئيسة : الأول يتمثل في عدم قدرته على إيجاد حلول كليّة ونهائيّة، والذي يعني الإستنزاف المستمر والتورّط الدّائم في حلقة الأزمة، والثاني يتمثل في عدم وجود ضمانات لبقاء أمكانية خيار «حلّ المسكنات»، فهو حلّ محكوم بوتيرة الصّراع ومؤشرات الصّراع والأزمة تؤكد تضيق الفرص فيه إلى أدنى حدّ، والتّحدي الثّالث والأخطر أنّه لا يقدم ضمانات يمكن الإستئناس بها في قدرته على تأجيل أو منع وقوع الإنفجار الكبير لمدّة مشخّصة وفي ساحات واضحة ومعينة، يضاف إلى ذلك كلّه تعرّضه لإهتزازات الإخفاق كثيرا حتى على مستوى نتائج المقاربات الجزئيّة وحجم الكلف الباهضة المستمرة له.
أما الخيار الثاني فهو «حل النتائج الكبيرة والتسويات المستقرة»، فيواجهه أيضا تحدّيات أكبر من الخيار الأول تتمثل في : صعوبة تحقيق إرادة جامعة جدّية من كل الأطراف المعنيّة به، حجم التنازلات التي يفترض أن تروض كل الأطراف أنفسها عليه، وتعقيد الخطوات التي ينبغي أخذها لغرض خلق توافق أقليمي ودولي حوله لضمان نجاحه، وسعة مساحة وتضخم حجوم المستفيدين من عدم وقوعه ورغبتهم في فشل وقدرتهم الدائمة على تعويقه.
يتحقق الخيار الثاني «حلّ النتائج الكبيرة والتسويات المستقرة» من خلال محورين ،الأول محور أقليمي يتكون من: إيران والسعودية وتركيا ومصر، وأما المحور الثاني فيتكون من: أمريكا وبريطانيا ورؤوس الإتحاد الأوروبّي وروسيا والصين، ويجري عمل كلاّ المحورين بشكل متوازي ومنسق وعبر تفاهمات شاملة.
يقارب المحور الأول الأزمة من خلال خمسة ملفات رئيسة هي: الملف العراقي والسوري واللبناني واليمني والليبي، بالإضافة إلى ملفات جزئية أخرى، ويقارب المحور الثاني الأزمة من خلال : الملف الأوكراني، تقاسم النفوذ والتأثير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التفاهم على موارد الطاقة الثّابتة والمستدامة، ترتيبات الأمن العالمي بما فيها خارطة السّلاح النووي بالأضافة إلى ملفات أخرى مشتركة.
يمكن تقديم تصور أولي للحلول المتعلقة بملفات المحور الأول بحيث تكون أرضية للتفاهمات النهائية، فالملف السّوري تتمثل مقاربته في إتفاق واقعي وملزم بوقف التسليح إلى كل الأطراف، والقضاء على «داعش» وهو أجراء مشترك بين الملف السوري والعراقي واليمني سوف يجري التحدث عنه بتفصيل أكثر لاحقا، وإقامة نظام برلماني وزاري يكون فيه بشار الأسد رئيس جمهورية فخري بصلاحيات محدودة، وتجري إنتخابات بعد القيام بمرحلة إنتقالية عمادها تمكين المهجّرين من الرّجوع إلى مناطقهم، على أن تتعهد السّعوديّة ومن ورائها الخليج بدعم مالي سخيّ يأتي من خلال إستثمارات ومعونات، وأن تحصل تركيا ومصر على حصة وافرة من الإستثمارات المتعلقة بإعادة إعمار سوريا، ويضمن لايران بقاء الأسد ضمن التسوية السّياسية وأيضا اشراكها في ترتيبات بناء الامن لسوريا الجديدة. وأما الملف اللبناني فصورة الحلّ تتمثل في: الضغط الجدّي على حزب الله وتيار المستقبل للوصول إلى تفاهم سريع لإختيار رئيس جمهورية قوي يلتزم بحياد لبنان النسبي وحماية حزب الله وسلاحه، وترحيل سريع لجميع المهجرين في لبنان إلى بلدانهم بما في ذلك إيجاد تسويات مناسبة لملف الفلسطينيين في لبنان، ودعم الإقتصاد اللبناني من خلال إستثمارات داعمة يحصل فيها السعوديون والإيرانيون والأتراك على حصص متقاربة، وقيام حكومة شراكة تملك صلاحيات كبيرة ومدعومة من كل الأطراف وإيجاد مرجعية تتناسب مع متغيرات المرحلة تتجاوز إتفاق الطائف وتعقيداته.
أمّا ما يخص الملف اليمني فتتمثل صورة الحلّ المقترحة في أنهاء جذري لبقايا النظام السابق خصوصا في المفاصل القيادية والأمن، وقيام كونفدرالية بين الشمال والجنوب تقوم بعملية تطبيع تدريجي إنتقالا إلى الفدرالية ثم التوحد، وتقديم إستثمارات ومعونات إلى كل اليمن على أساس جغرافي وليس مذهبي، ودعم الجيش والقوات الأمنية في بسط نفوذها على جميع المساحة اليمنية وتمكنينهم من طرد القاعدة التقليدية وداعش الجديد، والتزام سعودي وايراني بعدم التدخل في الشأن اليمني على أساس مذهبي ولا مانع من العلاقات الإيجابية القائمة على أساس أحترام سيادة الدول.
يتمثل مقترح حلّ الملف الليبي في الإتفاق بين أطراف المحور الأقليمي على وقف دعم التسليح الخارجي لكل الفرقاء بشكل نهائي، وإعادة هيكلة القوات المسلّحة بإشراف من المحورين الإقليمي والدولي بحيث لا يكون في قيادتها من قيادات النّظام السابق ولا من قيادات الإخوان ولا من قيادات الميليشيات التي تورّطت بحروب داخليّة على أن تكون مستوعبة إلى الجميع في عمليّة دمج ذكيّة ويصار إليها مهمّة ضبط الحدود وحمايتها ومنع أن تسرّب للسّلاح والمقاتلين من خارج ليبيا إلى داخلها وبالعكس، وتجري مرحلة مصالحة وطنية عبر عملية إنتقاليّة مدعومة تتكلّل بإنتخابات شاملة تفرز مجلسا برلمانيّا يمثّل المكونات البرلمانيّة بشكل عادل، وتساهم أطراف الحلف الأقليمي بدعم إقتصادي لتحسين الأوضاع في ليبيا خصوصا من خلال الإستثمارات النفطية، كما يجري التنسيق لربط ليبيا بعلاقات تعاونيّة مع الدول الإيجابية من أفريقيا، ويضمن لمصر دورا محوريا إيجابيا فيها.
وأمّا الصورة المقترحة لحلّ الملف العراقي فتتمثل في تعهد جميع أطراف المحور الأقليمي بمنع قيام أي دولة كرديّة ولا التّشجيع عليها أو على أي مشروع إنفصالي ،مع العمل بجدّ على تسوية الخلافات بين الأكراد والحكومة في بغداد خصوصا فيما يتعلق بالثروات والمناطق المختلف عليها، ومنع أي تسليح لأي طرف إلا عبر مؤسسات الدّولة الرّسمية، وأن يتمّ التنسيق الميداني بين المحورين الدّولي والإقليمي مع الحكومة السّورية والعراقيّة من أجل القضاء النهائي على «داعش» وتحرير المناطق التي تمّ الإستيلاء عليها وإعادة المهجّرين والنازحين إليها، وإعادة هيكلة الجيش العراقي بطريقة تؤمّن مشاركة كل المكوّنات فيه على مستوى القيادة والأفراد وضمان تسليحه وتدريبه بالشّكل الذي يتناسب فعلا مع التحدّيات التي تشهدها المنطقة والتّأكيد على أنّ مهام تتركّز في ضبط الحدود وحماية الدّولة من أي إعتداء خارجي والتّواجد على مخارج المحافظات على أن يكون أمن المحافظات مؤمّن عبر مؤسسة شرطة فاعلة ونزيهة ومدرّبة للتّعامل مع التّحديات المدنيّة وتحظى بقبول السّكان وتتشاطر معهم عملية الأمن، وأن يتمّ حلّ جميع المجموعات المسلّحة غير النظاميّة وإنهاء المظاهر المسلّحة وتجريم أي تصرف مسلّح غير مؤسّسات الدّولة، وأن تكون هناك عمليّة أعمار للمناطق المتضرّرة ويشارك الإستثمار المصري والسّعودي خصوصا في المناطق الغربيّة كما يمكن الإستفادة من المصريّين في ملف المياه والسّدود والإصلاح الزراعي، وأن تتعهد مصر والسّعودية بالقيام بحملة واسعة ومؤثرة لإعادة العلاقات العراقية- العربية، ويتمّ تسوية الملفاّت محلّ الإثارة مثل قانون المسائلة والعدالة وقضية المشاركة في الملف الأمني وتوسيع صلاحيات المحافظات فيما يتعلق بمسائل الخدمات وضبط الأمن المحلّي وإجراء مصارحة ومصالحة عميقة تساهم بعمليّة تداوي عاجل لجميع الجروح التي خلفها الإحتراب السّياسي والطّائفي على أن يجد أعضاء المحورين الأقليمي والدّولي مصالحهم واضحة ومكفولة في جميع التسويات التي تجري في المنطقة.
إلى جانب تلك الملفات الرئيسة لا بدّ من الوصول إلى إتفاقات واضحة بشأن القدر المناسب الذي ينبغي أن يحقّقه الملف النووي الإيراني مقابل ضمانات إيرانية مؤكدة بشأن عدم التدخل السلبي في أمن دول الخليج والمنطقة، وأن تضمن تركيا كبح جماح قطر وضبط إيقاع سلوك الإخوان مقابل أسواق وإستثمارات واسعة في المنطقة العربية، وأن تشعر مصر الجديدة بعدم التهديد الدّاخلي أو الخارجي مقابل إيجاد صيغة تسلك طريقا متوسطا بين وجود الأخوان في السلطة أو التعامل معهم كمجموعات إرهابية، وأن تطمئن الملكيات والإمارات والسلطنات الخليجية أن الجميع ملتزم بعدم دعم أي تحركات داخليّة لتقويض تلك السّلطات وأن عملية التغيير والإصلاح تبقى شأنا داخليّا.
لا شك في أن هناك أوراق مناسبة تتعلق بطبيعة الملفات التي يناقشها الحلف الدولي والتي سيتم مزاوجتها مع طبيعة التسويات التي يشتغل عليها المحور الإقليمي ،فهناك ثلاثة ورشات عمل :أقليمية ودولية وأقليمية- دولية ،كلها تعمل في وقت واحد للوصول إلى التسويات النهائية.
لقد تعمد هذا العرض الإستراتيجي أن يؤخّر الملف الأكثر تعقيدا وتشابكا وهو الملف الفلسطيني الإسرائيلي، والسّبب في ذلك أن مقاربتنا ترى أمرا مختلفا فيما يتعلق بهذا الملف، فقد جرت العادة عن الحديث عن تسويات شاملة لملفات المنطقة أن يبدأ الحديث من الصراع العربي-الإسرائيلي بوصفه القضية المركزية أو أمّ القضايا أو غير ذلك من التوصيفات، وأن تلك المقاربات ترى بأنّ نتائج تسويّة هذا الملف هي التي تحدّد مسارات الملفّات الأخرى، لكننا في هذه المقاربة نرى بأن نتائج مطابخ الورشات الثلاثة وصورة التسويات النهائيّة لملفات المنطقة هي التي تفرض قهرا شكلا مناسبا من التسويات للملف الفلسطيني، والتي تعني حتما صورة من الحلّ تنقل الأوضاع إلى حالة أفضل بكثير مما كانت عليه طيلة السبعين سنة الماضية، وسيكون ذلك الخطوة الحاسمة بإتجاه تسوية هذا الملف نهائيا.
إن عدم العمل على الخيار الثاني يعني وقوع الإنفجار الكبير الذي يبدأ من إنشطارات غير منتظمة لدول مثل العراق وسورية واليمن وليبيا، وتتدحرج كرة النّار باتجاه جميع دول المنطقة مدخلة لها في فوضوى عارمة تنسف جميع منتجات التنمية لقرون وتقضي على مصادر الطاقة التي يتوقف عليها العالم بأسره وتحوّل الوضع إلى فتنة عمياء تأكل الأخضر واليابس ولن يخرج من شرّها أحد سالما.
------
- الخبير في الشؤون الأمنية والإستراتيجية
iraqikufan@yahoo.com