مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
لا تنمية حقيقية بدون إستراتيجية وطنية
 تصورا للنظام الاقتصادي ولدور الدّولة في الحياة العامّة وفي الاقتصاد وكذلك طبيعة السياسات الاجتماعيّة والعلاقات سواء الدّاخلية منها (بالأفراد أو بالفئات الاجتماعية أو بالجهات وفيما بينها) أو الخارجيّة (مع دول الجوار والكتل والظواهر كالعولمة وآلياتها) ويرسم الآفاق الاستثماريّة والتّجاريّة والحياتيّة عموما.
و يُفرز كل منوال تبعا لذلك مشهدا مجتمعيّا كما هو الحال في تونس قبل الثّورة حين أفرز مشهدا مجتمعيّا متعدّد الأبعاد سمته العامة اللاّتوازن والتّفاوت المتصاعد سواء على المستوى الاجتماعي حيث برز أساسا على مستوى فرص العمل (تفشت البطالة والفقر وتعدّدت ظواهر التهميش والإقصاء) أوعلى مستوى  التعليم والصّحة أو على المستوى الجهوي (بين الشريط السّاحلي والدّاخل من جهة وبين الشمال والجنوب من جهة ثانية) وكذلك على مستوى توزيع  الثّروة والانتفاع بها وتوزيع الدخول.     
وكانت النتيجة الحتميّة لحالة اللاّتوازن تلك وذاك التفاوت المتصاعد حالة من الإحتقان والغضب لدى فئات من الشعب تُرجم إلى انتفاضة ضدّ الظلم شكّلت حدثا تاريخيّا كانت له تداعيات على المنطقة ومثّل تعبيرة عن رفض ذاك المنوال وتلك الإستراتيجيّة، كما كان دافعا إلى التفكير في منوال بديل يؤسّس على العدل ويهدف إلى تحقيق كرامة الأفراد والتنمية الجهوية والعدالة الاجتماعيّة ويُترجم توافقا اجتماعيا وعقدا ترابيّا جديدا.
وكان لهذا التوجه متطلبات أوّلها مشروع سياسي بديل يفرض التّوافق والتّعاون وثانيها منظومة علاقات جديدة تقوم على الاعتراف المتبادل والقبول المشترك وتتبع منهج الشراكة وتكون ذات طابع إنساني وصبغة اجتماعية، تحرّك الهمم وتدفع الطّاقات إلى الفعل والابتكار لإبداع مشهدٍ مجتمعيٍّ جديدٍ تسود فيه علاقات بنّاءة ومعاملات سليمة بغاية حفظ كرامة الأفراد وصون وحدة المجتمع وتقوية مناعة الوطن. إلاّ أن كلّ ذلك بقي رهين الرؤية المستقبليّة التي بقدر ما تكون واضحة بقدر ما تقلّ الهفوات وتزداد قدرة أصحاب المشروع على تجاوز العراقيل ليتمكّنوا من تحقيق الأهداف التي ترسمها مصلحة المجتمع في أسرع وقت ممكن، وهذه الرؤية هي التي تقوم عليها الإستراتيجية التي بدورها لا يمكن إلا أن تكون وطنيّة ضمن خطة تترجم تخطيطا استراتيجيا. فما دوافع الاهتمام بالتخطيط الاستراتيجي وما هي متطلباته؟
1 - دوافع الاهتمام
1-1 واقعية:
* معانات شعبنا الدائمة من عدم  التوازن الجهوي ومن التفاوت المتصاعد اجتماعيا وكذلك في الانتفــاع بالثـــروة أو في مستوى توزيعها وتوزيع الدخول.
* فشل الاستراتيجيات التنموية المطبقة لعقود من الزمن للاعتبارات التالية:
- فرض إستراتيجيات تنموية متعدّدة أوّلها في ستّينات القرن الماضي بقوّة الدّولة وظهورها على أنّها مكمّلة للسّياسات الكلّية الاقتصاديّة ولم تكن تعبر على إرادة مختلف الفاعلين الوطنيين وثانيها تلك التي استوردت من الخارج في السبعينيات وثالثها تلك التي كانت وفق أملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في الثمانينات والتي أثبتت فشلها ولا زلنا نعاني من آثارها.
- الاعتماد على تخطيط غيرنا والجهل بأهمية التخطيط الذاتي وغياب مراكز البحوث المساعدة عليه.
- الاعتماد على عمليات زرع فاعلين مستوردين وليس فاعلين من أبناء الجهة المعنيّين.
* وفاء لتضحيات التونسيين من أجل تحقيق تنمية جهويّة تعيد للإنسان كرامته.
* الحاجة إلى إستراتيجية إرادية ذاتية وفاعلة وتخطيط حديث ومرن وبأيدي وطنية.
     1-2 فكرية:
الواقع بطبيعته متقلب وأي جهة تريد أن تؤطره خدمة لمشروع مجتمعي جيد وجب عليها :
* القطع في أدائها مع التخبّط النّاتج عن العشوائيّة وعن بعض من الارتجاليّة لتقلّل من الأخطاء وتتّقي المخاطر.
* وضع حدّ لعدم التناسق في الأفعال على مدى الزّمن توفيرا للوقت والجّهد والمال ولتحقيق التّكامل فيما بينها في اتجاه خدمة الهدف المراد تحقيقه.
* ضرورة انسجام الأهداف مع الوسائل حتى لا تحدث قطيعة بين الخطط المرسومة ومراحل الإنجاز.
* الحدّ من الأزمات التي قد تتسبّب في عدم التّحكم في مجريات الأمور ويفقد بذلك الجهد قيمته.
كل ذلك تحقيقا للهدف بعيد الأمد الذي نتّفق على تحقيقه جميعا.
1-3  شرعية:
الأرجح عقلا استراتيجيّ بطبعه:
ففي العصور الغابرة لمّا خطط كبار القوم لإنتاج الثّروة بالاعتماد على القطاع الفلاحي دون التفكير في تلبية حاجات الغير قادرين على العمل، اخبرنا القرآن الكريم في سورة سمّيت حكمة «القلم» أن النّتيجة كانت ضياع الثّروة وعدم استفادة الجميع من نتائج التّخطيط والتنفيذ حينها «قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ* قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ» (سورة القلم - الآية 28 و29).
ما التسبيح؟ التسبيح هو تنزيه الخالق في فعله عن العبثية والظلم.
وبما أن الخالق بالنّسبة للإنسان العاقل مثل أعلى «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ» فإنّ هذا الإنسان لا يمكن أن يكون عبثيّا في فعله  كأن يؤسّسه على الظلم لأن ذلك ضرب من العبث أو أن يستأثر لوحده بمحصول عمله دون التفكير في من لا حول لهم ولا قوة مثلا، فيفقد بذلك ضمانة الحفاظ على الثّروة التي خطط لإنتاجها فهو إذا استراتيجي بحكم المنطق وكذلك بحكم المصلحة.
من جهة أخرى  يستحضر الإنسان الآخرة بمداها الممتد حتى الموت والذي نعبر عنه بالمستقبل ومداها الثاني الذي يبتدئ بالموت والذي نعبر عنه بالمصير فهو يتعلق بالآخرة رغبة فيها حين يؤمن بالآيات القرآنية «وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى»-4- (الضحى) - « والآخرة خير وأبقى»-17 –(الأعلى) - «و كذلك» وللآخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا»-21 –(الإسراء) مما يجعل الإنسان استراتيجيا بحكم عقيدته أيضا.
كما يرغب الإنسان في السير سويا على صراط مستقيم (لما فيه من يسر في السير وقلة مخاطر ووضوح في الرؤية ) بدون أن يستوعبه الواقع بل هو الذي يستوعبه ليقدر على تطويره « أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى امن يمشي سويا على صراط مستقيم» -22- (تبارك)- مما يجعل الإنسان استراتيجيا بحكم الرغبة في وضوح الرؤية ليقدر على السير سويا على صراط مستقيم.
كل ذلك ليبني مستقبله ويطمئن على مصيره.
II - متطلبات التخطيط الاستراتيجي
يعتبر كل من العمل ضمن فريق والقدرة على كتابة خطّة إستراتيجيّة بالمنهج الحديث تترجم التخطيط الإستراتيجي وكذلك التفكير الاستراتيجي والحوار الاستراتيجي أهم متطلبات التخطيط الإستراتيجي.
فنحن نحتاج إلى التفكير الإستراتيجي وكذلك الحوار الاستراتيجي لأنهما ممهّدان للتخطيط الإستراتيجي. ففي الولايات المتحدة الأمريكية يوجد 14 مركزا للتفكير الإستراتيجي تمتلك معلومات نادرة و تتحين المعلومة عند البعض منها كل 10 ثوان وهاته المراكز تخطّط استراتيجيا بعد حوارات مطولة.
إن التفكير الإستراتيجي ليس التفكير في خطّة، لأن الإستراتيجيّة منضوية في إطار آفاق طويلة الأمد (15 – 20 سنة) وتعتمد على ربط بين صورة للمستقبل والمسارات (الأفعال الممهّدة لتشكّلها) المؤدية لتحقيق الأهداف المضبوطة من طرف الفاعلين المعنيين.
كما أن الإستراتيجية تحمل بذور الحوكمة الجيّدة التي تعني فيما تعنيه قرارا جماعيا وتترجم جهدا من التنسيق والاستشارة والتوافق لضمان سياسة تنمويّة تضع القرارات موضع تنفيذ ويتقاسمها الجميع والتي من شانها أن تقوّي القدرة التنافسيّة للجهات وتحتوي على سلسلة من الأفعال الممنهجة والمتناغمة والدّائمة .
كما توضع الإستراتيجيّة لعدد من المجالات كالتّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة الدّائمة ومجال السّياسة والمؤسسة وغيرها.
وتعتبر بلورة إستراتيجيّة تنمويّة جهويّة ومحليّة  من أوكد الأولويّات اليوم وضمن جدول أعمال كل من يريد أن يسير على هدى وبينة من الأمر لا يستوعبه الواقع بل يستوعبه هو ليطوّره في اتجاه إعادة تشكيله بما يخدم المشروع التنموي المجتمعي.
كل ذلك لمواجهة مشاكل التّفاوت الجهوي من ضعف للبنية التحتيّة أو انعدامها وتفشّ للبطالة وانتشار لظاهرة الفقر وما ينتج عنها من إقصاء وتهميش يكون الإنسان ضحيتها.
إن إعادة التوازن الجهوي والمحلي كهدف يفترض سلسلة من الأفعال المندمجة  نظرا لوجود مقاومة للأفعال التصحيحيّة  سواء من قبل المحافظين أو من أولئك المنتفعين من استمرار الوضع على ما هو عليه.
وعلى واضعي إستراتيجيّة التنمية  أن يستحضروا أنّنا في سياق منفتح تسود فيه الارتباطات والمبادلات بين مستويات مختلفة محليّا وجهويّا ووطنيّا وكذلك عالميّا وأن يأخذوا  بعين الاعتبار الاهتمامات المرتبطة بتداخل المستويات الجهوية وتلك المحلية والمرتبطة كذلك بالتناغم الوطني والمعطى الاقتصادي العالمي خاصة مع انتشار ظاهرة العولمة وهيمنة الشركات المتعددة الجنسيات التي لا تبحث إلا على مصالحها الخاصة.
وأمام فشل الاستراتيجيات التنموية المطبقة لعقود من الزمن لا يزال الاختيار البديل ممكنا وذلك عبر إستراتيجية وطنية وإرادية وفاعلة.
و من المهم أن نؤكد على المعاني التالية :
* أن للمقاربة الإستراتيجية خاصيات كتعدد الأبعاد وتعدد الاتجاهات وكذلك المجالات وتهدف إلى تقدير المستقبل البعيد وتحديد الأفعال الواجب اتخاذها والمسارات الممكنة والتي نقدر على تعبيدها كل ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار ليس فقط الموارد المرصودة والمفعلة بل القدرات الممكن توفيرها وصناعتها. إنها مقاربة تعاونية ابتكاريه.
* الإنسان ضمن هذه الإستراتيجية محوري والمكان إطار لتفعيل قدراته يؤمّن للفاعلين الاقتصاديين الشروط الملائمة للنّمو في مرحلة أولى ثمّ التّنمية في مرحلة ثانية أمّا عامل الزّمان فهو محدّد أيضا والأهم هو كيفية إدارته.
* أن ينطلق واضعوا إستراتيجيّة التنمية الجهويّة والمحليّة من مسلّمة أساسيّة وهي أن « المستقبل ليس واقعا كما أنه لم يحدّد سلفا ولكن على العكس تماما إنه مفتوح على عدد من المستقبلات الممكنة» كما ذكر تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية(PNUD ) .
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com