مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
أي تنمية نريد؟
 تمهيد
عرفت تونس تجربتين تنمويتين خلال نصف قرن، الأولى ذات منحى اشتراكي متوسطة المدى ومحدودة الأثر والتأثير، منيت بالفشل وأخرى ذات بعد ليبرالي امتدّت لعقود من الزّمن واشتدّ أثرها وتأثيرها على حياة النّاس ومستقبلهم ولم يمنعها تنوّعها والدّعم الخارجي لها من إيصال البلاد أكثر من مرّة إلى أزمات حادّة ومتعاقبة أدّى تراكمها وتراكم الانتفاضات الشّعبية ضدّ المسؤولين عنها إلى ثورة الحرية والكرامة (17 ديسمبر2010-14 جانفي 2011).
لقد أفرزت التجارب التنمويّة خللا هيكليّا على المستوى الاقتصادي أدّى إلى أزمة اقتصاديّة حادّة و غير مسبوقة.
كما أنّ النّظام الاقتصادي الحالي أثبت عدم قدرته على خلق مواطن الشّغل المطلوبة و لم ينجح في كبح جماح عجز ميزان الدّفوعات ووفّر مناخـــا وأرضيّـــة لاستشراء الفســـاد وباءت كلّ التجارب والمحاولات في تحقيق تنمية على المستويات المحلية والجهوية والوطنية بالفشل.
ولعل هذا كاف لدفع المجموعة الوطنية إلى بلورة نظام اقتصادي بديل قادر على إنتاج الثّروة وكذلك نظام اجتماعي كفيل بالإحاطة بجميع التونسيين في كنف الوحدة والتعاون.
وتواجه العمليّة التنمويّة ببلدنا تحدّيات عديدة ومتنوعة، منها الدّاخلي ومنها الخارجي وجب امتلاك الإرادة والقدرة على رفعها إذا أردنا للجّهد التّنموي المبذول أن يؤتي أكله وينتفع بثماره أبناء شعبنا كل حسب جهده ولكل حسب حاجته.
ولعل أهم تلك التحديات الداخلية الفساد وعدم الاستقرار وعجز الموازنات الثلاث (العامة والميزان التجاري وميزان الدفوعات) واستفحال ظواهر البطالة والفقر والتّفاوت الجهوي والتجارة الموازية والتهرّب الضريبي.
وإذا أفردنا الفساد بالحديث، فإنّه حسب تقرير البنك الدّولي 1992ـ2006 الصادر بتاريخ 31 أكتوبر 2006 ، أحد أوجه إدارة الحكم السيئة ممّا يحتم إتباع حوكمة رشيدة. كما يشمل الفساد استغلال المناصب العامّة لتحقيق المكاسب الخاصة وأيضا فساد القطاع الخاصّ إذا قام بالاحتيال على الدّولة ممّا يدعو إلى تعميق الحسّ الوطني وتكريس جدليّة المصلحة الفرديّة والمصلحة الجماعيّة.
لقد شكّل كل من عدم الاستقرار والفساد عائقين جوهريين للجهود التنموية من حيث إضعافهما للقدرة على جلب الاستثمارات الأجنبية وطردهما للرأس المال الوطني ممّا حال دون إحداث نسب النمو الاقتصادي المطلوبة والتقدّم الاجتماعي المنتظر.
أما التحديات الخارجية فمنها الإقليمي كالتجزئة وعدم استقرار الجوار الليبي ومنها الدولي كالفجوة الهيكلية والتكنولوجية مع شركائنا الاقتصاديين والماليين.
إن واقع التجزئة الذي ركزته اتفاقيات «سايكس-بيكو» في بداية القـــرن العشريـــن وغذته السياسات الخارجية المتعاقبة لا تزال تشكـّــل تحدّيـــا وجب رفعه حتى يرفع عائق إقليمي طالما عرقل المجهود التنموي الذي لا يمكن إلاّ أن يكون تكامليّا بين أبناء الأمّة المتوحّدة دينا ولغة والمتكاملة موارد وطاقات والمتطلعة للتنمية والرخاء.
 إن حالــة التجزئــة هذه بعثــرت الجهـــود وشتّتت الإمكانيات والطاقات ووفّرت فرصة لتزايــد الارتباط من جهــة وتعميق التبعيّة من جهة أخرى بدول وفاعلين اقتصادييـــن وماليّيـــن من خارج شعوبنا العربيّة لهم أرضية فلسفية وعقائدية مغايــرة، مما خلق تضاربا في الأهداف يكون حتما لصالح الأقوى الموّحد على حساب الضعيف المشتت.
إن وضع حدّ للتجزئة من شأنه أن يرفع تحدي الفجوة الهيكلية التي بيننا وبين شركائنا الاقتصاديين والماليّين.
إن عدم بناء المغرب العربي يكلّف نقطتين من نسبة النّمو لكلّ دولة، لذلك أصبح الوقت مناسبا لمزيد بذل الجهد في اتجاه الشروع في بناءه خدمة لمصلحة شعوب المنطقة التي هي في أمس الحاجة إلى التشغيل و التنمية الجهوية و المحلية.
وللتخفيف من الفجوة التكنولوجيّة حتى نحسن موقعنا التجاري دوليّا، كان لزاما علينا وضع منظومة تعليميّة متطوّرة وإيلاء البحث العلمي أولويّة مطلقة ومزيد تخصيص الإعتمادات الماليّة لذلك وإحداث شراكات مع مراكز البحوث المتخصصة وتعميق التعاون العلمي والتكنولوجي مع الجهات المتميزة عالميا.
أي تنمية نريد؟ 
تعتبر «التنمية المستديمة» مطلبا معاصرا أجمعت عليه جلّ الدّوائر العلميّة والعالمية وفرضه الضّرر الفادح الذي لحق بشروط حياة الإنسان الكريمة والصّحية نتيجة مناويل تنموية متعدّدة.
ولتأسيس «التنمية المستديمة» كان لا بدّ من تركيز أعمدتها الثلاث:
أولا : التطور الاقتصادي أو التنمية الاقتصاديّة التي تشمل مختلف نواحي النشاط الاقتصادي وتتحقّق على المدى البعيد والتي من شأنها أن تؤدي إلى تغيّرات مستمرة عبر مراحل متتالية ومتواصلة في بنية المجتمع مما يزيد من قدراته الإنتاجيّة.  
ثانيا : العدالة الاجتماعية التي تكون ثمرة احترام أمرين اثنين :
- القانون المعبر عن طموحات فئات المجتمع في المساواة والذي تسهر على تنفيذه سلطات ذات كفاءة وعزيمة وأمانة.
- حقوق جميع أفراد المجتمع. 
ثالثا : المحافظة على المحيط من خلال التقليل من استهلاك الطاقة غير المتجدّدة واعتبار ذلك في حدّ ذاته في صميم السّلوك الاقتصادي نظرا لمساهمته المعتبرة في النمو الاقتصادي ولأهميته في الحفاظ سواء على الصّحة العامّة أو على الشّروط الطبيعيّة للحياة الكريمة للمجتمعات البشرية الحالية والقادمة على حدّ سواء.
وتهدف التنمية المستديمة إلى خلق توازن بين حماية الطبيعة والمحافظة على البيئة من ناحية وتحقيق تقدّم اقتصادي واجتماعي لصالح البشريّة أخذا بعين الاعتبار الصّراع القائم بين الشمال والجنوب من ناحية أخرى. (1)
وفي حقيقة الأمر لا يعتبر الجانب الاقتصادي والاجتماعي إلّا أحد التجليات المباشرة للتّنمية، أمّا عمقها فهو التّنمية الإنسانيّة الثّقافية والعلميّة التي تجعل الإنسان فقيها بتراثه، ملمّا بكل جوانبه، عارفا بكنوزه ومالكا لعلوم عصره ومتحكّما في تكنولوجيتها حتى يتّخذ منه قاعدة انطلاق لحياة معاصرة لكنها متأصّلة في تراثها وثابتة على قيم الحق والعدل والرحمة،  ليقدر بذلك على حسن التعاطي مع الأزمات واتّقاء الفساد باعتباره داءا فتاكا لكل عمل تنموي والتغلب على المشاكل والانتكاسات التي تشكّل مطبّات تعترض سبيله.
ولا تتحقق التنمية الحقيقيّة في بلادنا من دون إعادة الاعتبار لقيمة الإنسان باعتباره هدفها ووسيلتها وما يتطلبه ذلك من إتقان في استعماله لطاقاته الخلاقة وفي طليعتها العقليّة على فهم التّراث وحسن إدراك الحاضر وتدبّر القرآن الكريم لاكتشاف سنن الله في الكون والإنسان والحياة حتى نفقه طبيعة العلاقات بما فيها الاجتماعية لنيسر إلى اليسرى.
 وبما أن التنمية مسار لابد من أن نستمر و بدون انقطاع في العمل قولا و فعلا حتى نقدر على إبداع منوال تنموي بديل غير مستورد ولا مسقط نحقق به تنمية حقيقية تعيد للإنسان كرامته و للمجتمع مكانته وللبلاد سيادتها في تناغم مع بيئتنا و انسجام مع الطبيعة التي نحيى بين جنباتها مستفيدين من التراث ببعديه المادي واللامادي ومما وصلت إليه البشرية ضمن مسارها العلمي والتكنولوجي الطويل.
كما أن تنمية المجتمع لا تتحقّق إلاّ عبر تنمية النّاس من خلال «عملية توسيع للحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس»(2)  والانطلاق من الإيمان بقدرات الأفراد، قدرات تعكسها حريّة استعمالهم لكل ما هو مادّي ولا مادّي بهدف اختيار نمط لحياتهم.
هدف التنمية
يمكن اعتبار أن الهدف من التنمية ليس استمرار حالة معينة من «الرفاه الوطني الخام» فقط ولكنّه أيضا تمكين كل الفرد من استمرارية رفاهه المتعدّد الأبعاد عبر احترام حرياته الفرديّة والجماعيّة وبالاعتماد عليها.
 فتحسين حالة الرفاهة للسّكان لا تتوقف على نموّ الإنتاج وتراكم رأس المال، بل تشترط أيضا توسيع الحريات الأساسية كهدف ذي أولوية وموجّه محدّد للتنمية كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الهندي «صان» المتحصل على جائزة نوبل للاقتصاد حين اعتبر «الحرية الغاية الأولية والوسيلة الأساسية للتنمية» كما أطلق عليها على التوالي اسم «الدور التأسيسي والدور الأداتي للحريّة في التنمية»(3)  فنحن أمام اختبار حقيقي لإحداث مصالحة بين الانشغال بتحقيق النمو من جهة و توفير المتطلبات الإنسانية والأخلاقية التي ثبتت الحاجة إليها لتحقيق النمو ذاته من جهة ثانية.
فإن كانت حرية الفرد هي التي تمكنه من  استمرارية رفاهه فإن كسب معركة التعليم والصحة هي الضامن لامتلاك القدرات البشرية والتكنولوجية التي نحقق بها نموا في الإنتاج وتراكما في رأس المال دون أن نغفل عن تأسيس منظومات ثلاث تؤصل فعلنا التنموي وتسدد رميه  كما تمنحه الآليات المطلوبة وتحمي مسيرته من الانحراف.
أولا :منظومة قيمية تمنح جهدنا التنموي روحا من الالتزام الأخلاقي والاجتماعي.
ثانيا :منظومة مالية متكاملة بالتوازي مع تجفيف منابع الفساد لنتخطى بذلك عائق ندرة التمويل.
ثالثا :منظومة قضائية تقوم على العدل وتؤسس من خلاله العمران وتحميه من الخراب.
الهوامش
(1) الموسوعة الاقتصادية الحديثة للدكتور محمد بشير علية – مركز النشر الجامعي / دار سحر للنشر – تونس / ماي 2013 
(2)   -آمار سيا صان (2004) ص 50 : «التنمية حرية»    
(3)   -آمار سيا صان- نفس المصدر 
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com