الكلمة الحرّة

بقلم
يسري بن ساسي
استقطاب الأدمغة...
 ليس ليخفى على ذي عقل و بصيرة  أن بلداننا العربية لطالما كانت بحاجة إلى ذوي الخبرات العلمية و المهارات الفنية ممن يملكون كفاءات متميزة و طاقات نيرة  و التي  من شأنها أن تدفع أشواطا نحو التقدم العلمي و اكتساب المعرفة و خلق استفاقة فعلية من خلال الإفادة بغزير علومها و ثراء تجاربها و ليس ليخفى أيضا على أحد أن السواد الأعظم منها 
يمضي حياته خارجها  لأسباب معظمنا يدركها  فتنتفع منه غير بلاده بينما هي في أشد الحاجة إلى كل خصاله الفكرية و العلمية و المعرفية ..و من البديهي أن نتساءل عن سبب هذا التنكر المغلف أحيانا و المعلن أحيانا أخرى لوطن تكون أصلا هذه النخب و الطلائع  قد تلقىت فيه الأبجديات والتكوين الأساسي وكان له دور ولو ضئيل في تعليمها..ولعلّه ليس تنكرا بقدر ماهو صعوبة اندماج هذه الأخيرة وتأقلمها مع مناخ  سياسي وثقافي  ومدني قد لا ترى أنه يلائمها و يتماشى معها بعد أن تعودت على العيش داخل أجواء منفتحة من الحريات واحترام الآخر والأهم من ذلك كله مقدرة لقيمتها وصائنة لمرتبتها ومكانتها في المجتمع ..بينما تفاجأ بقلة حظوتها وتراجع أهميتها إن هي حلت بأوطانها..ومن الأكيد جدا أن الأوطان براء من كل ذلك بل هي السياسات التي انتشرت وكرست من قبل أنظمة مستهترة بمستقبل أجيال وأجيال من أبناء الأمة العربية فكان التبجيل والاحتفاء بأهل الكرة والفن  مع احترامنا لهؤلاء  وأولئك-- على حساب أهل العلم والمعرفة ما نفرها من العودة وحرم بلداننا- وأقصد خاصة طالبي العلم والمتدربين-  من الاطلاع المباشر على محصلاتها ومتابعة تمرسها عن قرب وعن كثب في أكثر من مجال وأكثر من ميدان وهي لمن يدرك مجالات خصبة وميادين حيوية ضرورية لتحقيق النماء والتطور..وقد يتم تبرير ذلك بافتقارنا إلى مؤسسات انتاجية ضخمة وضعف اقتصادنا وهشاشة سوقنا وفي كل ذلك من الواقعية والصحة الكثير لكن ليس لينفي عنا ومنذ عقود تهمة مجتمعات للترفيه فيها- وهو في معظمه سطحي وتافه- وإضاعة الوقت النصيب الأكبر والمفروض أن تبنى حياة الانسان على عكس ذلك فما بالك وأولى معاركنا ضد التهميش والاستغلال بكافة أنواعه هي معركة تسلح بالمعرفة وتزود بالعلم ..
واليوم وهذه الأنظمة التي في معظمها كرست الجهل والتخلف- وكان ذلك جزءا من السياسات المملاة في غالب الأمر- تنهار الواحدة تلو الأخرى نتساءل إذا كان هناك من تغيير ملموس سيطرئ على المدى المتوسط وحتى لم لا القريب في جعل اكتساب المعرفة في مقدمة الأولويات  وفي ذات الوقت نطالب بالرهان على العلم والفكر بدل تمييع النشء وتشتيت اهتماماته بما لا يفيد  وخاصة أيضا  إعلاء درجة العلماء والمفكرين على السلم الاجتماعي حتى نشحذ همم أبنائنا ونشجعهم  على طلب العلم بدل ما ترسخ فيهم من اعتقاد أن خوض مجالات أخرى تجلب لهم مكانة أفضل ومستوى أرفع..وإذا كانت الحكومات التي ستتسلم أو قد تسلمت مقاليد الحكم تتعهد دوما وفي كل منبر ومحفل بإيجاد حلول للبطالة  فهل ستعزم أو ستسعى على الأقل إلى استقطاب الأدمغة بدل حملها على الهجرة بعيدا أم أنها ستعتبر استقطابهم مفاقمة للبطالة وفي هجرتهم ما يخفف عنها العبء وفي هذا لعمري خلل كبير وفق ما نرى..وطلائع الأمة  المشتتة هنا وهناك في العالم ألازالت تخشى عدم قدرتها على العطاء والحال وأن الكثير من بلدانها نزع عنه كابوس الاستبداد والقمع وفي طوره إلى التشييد والبناء ما يعني أحقيته بكل فكرة بناءة وأسلوب متقن وحرفية عالية في كل اختصاص أم أنها ستخوض معه يدا بيد هذا التحدي..من الأكيد أن ذلك قد يستدعي منها تنازلات خاصة في هذه  المرحلة لكن الأهم إن كانت هي مستعدة لذلك أن نزيد من استقدامها وتشجيعها على العودة وفتح ذراعي التقدير والتبجيل والاعتراف الحقيقي بمكانتها فالوطن في حاجة إليها وهي في حاجة إلى الوطن بعد غربتها الطويلة...