بحوث ودراسات

بقلم
د.جميل حمداوي
مفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي (2) عند فلاسفة الإسلام
 يذهب الفلاسفة المسلمون بما فيهم: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن طفيل، وابن باجة، وابن رشد... إلى أن الحقيقة هي الهدف الأسمى الذي يسعى إليه الإنسان الفيلسوف، وهي أس الكمال والسعادة والفضيلة. وبالتالي، لا تتحقق هذه الحقيقة إلا عن طريق استخدام العقل والبرهان والنظر المنطقي. لكن هؤلاء الفلاسفة كانوا يعترفون بأن ثمة حقيقتين: الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشرعية. ومن ثم، تحيل هاتان الحقيقتان على مستوى التفسير الانعكاسي على الصراع الجدلي الذي احتدم في الواقع العربي الإسلامي بين الفقهاء والفلاسفة، وخاصة في العصر العباسي. إذ يحاول الفلاسفة الدفاع عن الفلسفة بصفة عامة، والفلسفة اليونانية بصفة خاصة، باحثين عن الشرعيّة النّصية والقانونيّة والفقهيّة والواقعيّة التي تسمح لهم بممارسة فعل التفلسف، والاشتغال بفعل التمنطق. لكن هؤلاء الفلاسفة وجدوا معارضة كبيرة من قبل الفقهاء الذين كانوا ينطلقون من الظّاهر النّصي، فيحاربون الفلسفة جملة وتفصيلا ، ثم يربطونها بالكفر والزندقة، قائلين: «من تمنطق تزندق». والدليل على ذلك ما فعلوه مع ابن رشد في الأندلس، حينما أحرقوا كتبه الفلسفية والمنطقية إبّان الدولة الموحدية. لذلك، اضطر الفلاسفة الملسمون إلى عملية التوفيق بين الفلسفة والشريعة، وذلك من أجل إثبات حقيقة أساسيّة، ألا وهي: «أن الحق لايضاد الحق». وهذا ما نجده واضحا جليا عند الفيلسوف المسلم الأول الكندي(803-873م). 
أما إذا انتقلنا إلى أبي نصر الفارابي (259-339هـ)، فقد اعتمد على نظرية الفيض للتوفيق بين الدين والفلسفة، لكنه سقط في عملية التلفيق، وذلك حينما جمع بين أفلوطين وأفلاطون المثاليين، معتقدا أنه كان يوفق بين أفلاطون المثالي وأرسطو المادي. ومن ثم، يرى الفارابي أن الحقيقة لايتمّ إدراكها إلاّ عن طريق العقل والحكمة، وأن الحقيقة الأوليّة والأزليّة  هي حقيقة الله أو حقيقة الوحدة التي صدرت عنها كثرة الموجودات والخلائق. وفي هذا الصدد يقول الفارابي: «العلم بالحقيقة ماكان صادقا ويقينا في الزّمان كله لا في بعض دون بعض وما كان موجودا في وقت وأمكن أن يصير غير موجود فيما بعد. فإنا إذا عرفنا موجودا الآن فإنه إذا مضى عليه زمان ما، أمكن أن يكون قد بطل، فلا ندري هل هو موجود أم لا، فيعود يقيننا شكّا وكذبا، وما أمكن أن يكذب فليس بعلم ويقين. فلذلك، لم يجعل القدماء إدراك ما يمكن أن يتغيّر من حال إلى حال علما، مثلما علمنا بجلوس هذا الإنسان الآن، فإنه يمكن أن يتغير فيصير قائما بعد أن كان جالسا، بل جعلوا العلم هو اليقين بوجود الشيء الذي لايمكن أن يتغير، مثل: أن الثلاثة عدد فرد؛ فإن فردية الثلاثة لا تتغير، وذلك أن الثلاثة لا تصير زوجا في حال من الأحوال ولا الأربعة فردا...
الحكمة علم الأسباب البعيدة التي بها وجود سائر الموجودات كلها ووجود الأسباب القريبة للأشياء ذوات الأسباب، وذلك أن نتيقن بوجودها ونعلم ما هي وكيف هي وأنها- وإن كانت كثيرة – فإنها ترتقي على ترتيب إلى موجود واحد هو السبب في وجود تلك الأسباب البعيدة وما دونها من الأشياء القريبة، وأن ذلك الواحد هو الأول بالحقيقة...، وأنّه لا يمكن أن يكون إلاّ واحدا فقط، وأنّه هو الواحد في الحقيقة، وهو الذي أفاد سائر الموجودات الوحدة التي بها صرنا نقول: لكل موجود إنه واحد، وأنه الموجود الواحد هو الحق الأول الذي يفيد غيره الحقيقة، ويكتفي بحقيقته عن أن يستفيد الحقيقة عن غيره...ولا وجود أتم من وجوده، ولا حقيقة أكبر من حقيقته، ولا وحدة أتم من وحدته، ونعلم مع ذلك كيف استفاد منه سائر الموجودات الوجود والحقيقة والوحدة، وما قسط كل واحد منها من الوجود والحقيقة والوحدة.» (1)
وتحيلنا هذه القولة على نظرية الفيض التي تبحث في كيفية صدور الكثرة عن الوحدة الإلهية ، وذلك في شكل انبثاق هرمي للموجودات عن الواحد الكل. ومن ثم، فالحقيقة الجوهرية هي حقيقة الذات الربانية التي خلقت العالم من العدم. وبالتالي، فالحقيقة هي التي تقترن بالثبات واليقين والوحدة.
هذا، ويتسم التوجه الفلسفي عند الفارابي في بحثه عن الحقيقة بالطابع التوفيقي والتمجيدي للبرهان الفلسفي، كما يتّضح ذلك بجلاء في كتابه: «الحروف» الذي يعتبر فيه الفارابي كل من حاد عن المنهج البرهاني، فقد اعتمد على مجرد انطباعات حسّية وآراء شائعة مشتركة بين عوام النّاس. أمّا من تمثّل سبيل البرهان، فهو من فئة الخواص. وبالتالي، فقد عرف الطّريق الصحيح الموصل إلى الحقيقة الصادقة. وبالتالي، فقد سلك مسلك تحصيل اليقين الحقيقي: «ولا يزالون يجتهدون ويختبرون الأوثق إلى أن يتفقوا على الطرق الجدلية بعد زمان، وتتميز لهم الطرق الجدلية عن الطرق السوفسطائية...فلا تستعمل إلى أن تكمل المخاطبات الجدلية، فتبين بالطرق الجدلية أنها ليست هي كافية بعد في أن يحصل اليقين... فالتعليم الخاص هو بالطرق البرهانية فقط، والمشترك الذي هو العام فهو بالطرق الجدلية أو بالخطابية أو بالشعرية». (2)
ويظهر لنا أن الفارابي والكندي ومن سار مسارهما مجرد تابعين من توابع الفلسفة الأرسطية المشائية، تلك الفلسفة التي تجعل من الفلسفة والبرهان آليتين من آليات المعرفة الحقيقية الصادقة. ويعني هذا أن العقل والمنطق- كما يتشخصان في الفلسفة اليونانية- من أهم الوسائل الناجعة للوصول إلى الحقيقة اليقينية سواء أكانت حقيقة أنطولوجية تتعلق بالوجود، أم كانت حقيقة إبستمولوجية تتعلق بالمعرفة، أم كانت حقيقة أكسيولوجية تتعلق بالقيم والأخلاق.
وإذا كان الفارابي فيلسوف العقل، فإن ابن سينا (370-428هـ) فيلسوف النفس، ويعني هذا أنه قد اشتغل كثيرا بحقائق النفس الإنسانية روحا وتصوفا، ولاسيما في كتابه» الإشارات والتنبيهات» (3). وقد حاول ابن سينا، وذلك اعتمادا على نظرية الفيض الأفلوطينية، التوفيق بين الدين القائل بحدوث العالم والفلسفة القائلة بقدم العالم ، مستوحيا في ذلك أفكار وتصورات أستاذه الفارابي. وهكذا، فقد أثبت وحدة الحقيقة الربانية التي تصدر عنها الموجودات المتعددة فيضا وانبثاقا هرميا، كما أثبت أن السعادة الحقيقية تنتج عن طريق تنقية الروح ، وتطهير النفس، ولم يعط الجسد أو البدن أي اهتمام في ذلك؛ لأن الإنسان يبعث روحا، ولايبعث جسدا .
وإذا كان المؤلفون القدامى والباحثون المعاصرون يتفقون في القول: « إن الشيخ الرئيس أبا علي ابن سينا لايختلف، في آرائه الفلسفية، عن الفارابي إلاّ في بعض التفاصيل والجزئيات. بل إنّ منهم من يذهب إلى القول بأن ابن سينا لم يعمل في الحقيقة إلاّ على توضيح وتبسيط الأقاويل التي قررها الفارابي من قبل، فما أعطاه الفارابي موجزا مجملا، قدمه ابن سينا مبسطا مفصلا.» (4) ، فإن الدكتور محمد عابد الجابري يرى أنه مهما كان هناك من اتفاق على المستوى النظري، فهناك اختلاف كذلك على المستوى المرجعي والإيديولوجي: « إن ابن سينا حينما تبنى المنظومة الميتافيزيقية الفارابية، تبناها كمنظومة معرفية وليس كحلم إيديولوجي. ولم يكن هذا راجعا إلى قراره واختياره، بل كان ذلك هو قرار التاريخ.» (5)
ويدل هذا على أن الفارابي كان يحلم بدولة قوية موحدة السلطة، مركزها العقل والإخاء الفلسفي، في حين أن ابن سينا كان يعبر عن دولة بدأت تتفكك إلى إمارات متعددة، تنعدم فيها وحدة السلطة واستمرارية الدولة. ويعني هذا أن هناك انتقالا من حلم المدينة الفاضلة القائمة على وحدة السلطة والعقل كما هو الحال عند الفارابي،  إلى حلم ضائع مبني على مدينة مفككة في عهد ابن سينا. إذاً، هذا هو الاختلاف الإيديولوجي الذي كان يميز بين الفيلسوفين، وذلك على الرغم من وحدة التصور الفلسفي والتأمل النظري (6).
وإذا انتقلنا إلى فيلسوف آخر ألا وهو الغزالي (1057-1111م)، فإنه يرى الشك هو السبيل الوحيد إلى الوصول إلى الحقيقة اليقينية، وقد سبق في ذلك الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650م )الذي اعتمد معيار الشك للتأكد من حقيقة وجوده، ووجود الله والعالم الخارجي على حدّ سواء(نظريّة الكوجيطو). وقد ارتأى الغزالي أنّ الحسّ بمفرده غير كاف للوصول إلى الحقيقة، حتّى العقل بمفرده غير قادر على استكشاف الحقيقة، فلابد من ممارسة الشّك من أجل تحقيق الهدف الأسمى الذي يتمثل في الوصول إلى الحقيقة. وبتحصيل الحقيقة، تتحقق السعادة والفضيلة والكمال. وهكذا، يرى الغزالي أن الحقيقة  تنبني على الشكّ اليقيني سواء أكان ذلك الشكّ قائما على الحسّ أم العقل أم القلب الصوفي: «ثم فتّشت علومي فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه الصّفة إلاّ في الحسيّات والضروريّات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس، لامطمع في اقتباس المشكلات إلاّ من الجليات، وهي الحسّيات والضروريات. فلابد من إحكامها أولا لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من لغط في الضروريات، من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو أمان محقق لاغدر فيه ولاغائلة له؟ فأقبلت بجدّ بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريّات، وأنظر هل يمكنني أن أشكّك نفسي فيها؛ فانتهى بي طول التشكّك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا، وأخذت تتّسع للشّك فيها...فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليّات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى، كذب العقل في حكمه، كما تجلّى حاكم العقل فكذب الحسّ في حكمه... ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لابحكم النطق والمقال، حتى شفي الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف.فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة.» (7)
هذا، ويرى أبو حامد الغزالي في كتابه: « إحياء العلوم» أن الحقيقة المطلقة يتم تحصيلها عن طريق القلب والإلهام عند الصوفية والأولياء والأصفياء، ويتمّ تحصيلها عن طريق الوحي عند الأنبياء، وتكتسب عن طريق الاستدلال والاعتبار والاستبصار عند العلماء:«اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية- وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال- تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لايدري، وتارة تكتسب بطريقة الاستدلال والتعلم. فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا. ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى مالايدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل؟ وإلى مايطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم، وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب. والأول: يسمى إلهاما ونفثا في الروع، والثاني: يسمى وحيا وتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء. والذي قبله- وهو المكتسب بطريقة الاستدلال- يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة- التي سبق ذكرها- فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلى حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها.» (8)
وقد انتقد الغزالي الفلاسفة المسلمين في كتابه:«تهافت الفلاسفة» (9)، وذلك في عشرين مسألة، معتمدا في ذلك على الدين والمنطق، حيث بدعهم في سبع عشرة مسألة، وكفرهم في ثلاث مسائل أو حقائق فلسفية، ويمكن حصرهذه الحقائق الثلاث في  القضايا التالية:
1) مسألة قدم العالم وأزليته، حيث قال الفلاسفة باستحالة صدور حادث عن قديم أصلا.
2) قضية العلم الإلهي، حيث يذهب الفلاسفة إلى أن الله يعلم الكليات دون الجزئيات.
3) حشر النفوس دون الأجساد، حيث يرى الفلاسفة المسلمون أن الله سيبعث النفوس دون الأجساد.
وهكذا، فالغزالي يخالفهم في ذلك، إذ يثبت أن الله يعلم الكليات والجزئيات على حد سواء، وأن الله أيضا  سيبعث النفوس والأجساد معا، ويؤكد كذلك  بإمكان صدور الحادث عن القديم أصلا. ومن ثم، فقد وضع الغزالي حدّا نهائيا للميتافيزيقا الإسلامية،  واختار منهجا آخر في المعرفة، ألا وهو المنهج الصوفي؛ حيث اعتبر الخلوة مصدرا للمعرفة، وطريقا مؤديا إلى الحقيقة الربانية السرمدية.
أما إذا انتقلنا إلى الفلسفة بالغرب الإسلامي، فقد كانت الحقيقة الربانية حاضرة، إلى جانب حقائق أخرى كحقيقة الوجود، وحقيقة المعرفة، وحقيقة القيم بما فيها: الخير، والسعادة، والعدل، والجمال... بيد أن أهم ما تميزت به الفلسفة المغربية هي الانشغال بترجمة كتب أرسطو، والاهتمام بالميتافيزيقا والمنطق، والتوفيق بين الدّين والفلسفة على أن الشرع منفصل عن الحكمة، لكن هدفهما واحد ألا وهو استخدام العقل من أجل إدراك الحقيقة، حقيقة الصانع وحقيقة المصنوعات والموجودات التي خلقها هذا الصانع الماهر. ومن أهم الفلاسفة الذين انشغلوا بعملية التوفيق بين الدّين والفلسفة، نستحضر: ابن باجة، وابن طفيل، وابن حزم، وابن رشد، وموسى بن ميمون... (10)
فإذا بدأنا بالفيلسوف الأندلسي ابن باجة (ت.532هـ) في كتابه:«تدبير المتوحد»، فقد رفض هذا الفيلسوف العقلاني المنهج الصوفي في إدراك الحقيقة كما عند ابن سينا، واعتبر العقل أو البرهان هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى امتلاك الحقيقة اليقينية (حقيقة معرفة الله)، وقد تأثر في ذلك بالفارابي كل تأثير. ويقول الدكتور محمد علي أبو ريان عن ابن باجة:« وممّا تجدر الإشارة إليه أنّه كما كان ابن مسرة يمثّل في المغرب اتجاها يميل إلى التّصوف وإلى الإدراك الذوقي لحقائق الوحي والألوهيّة وتحقيق السّعادة واللّذة عن طريق المشاهدة الصوفية ( وقد سار ابن عربي فيما بعد على هذا الدرب)، نجد أن ابن باجة يرفض هذا الاتجاه، وينتقد موقف الغزالي في المشرق الذي قال بأن العالم العقلي لا ينكشف للانسان إلا بالخلوة، فيرى الأنوار الإلهية، ويلتذ بها لذّة كبيرة، ويقول ابن باجة: إن الغزالي حسب الأمر هيّنا حينا ظنّ أن السّعادة إنما تحصل للمرء عن طريق امتلاكه للحقيقة بنور يقذفه الله في القلب. بل الحقّ أن النظر العقلي الخالص الذي لا تشوبه لذّة حسيّة هو وحده الموصول إلى مشاهدة الله، أما المعرفة الصوفيّة بما تنطوي عليه من صور حسّية فإنّها تكون عائقا عن الوصول إلى معرفة الله إذ هي تحجب وجه الحقيقة.
فالمعرفة العقلية هي وحدها التي تقود الإنسان إلى معرفة نفسه بنفسه ومعرفة العقل الفعال، وقد تأثر ابن رشد بموقفه هذا. وكتاب «تدبير المتوحد» لابن باجة يبين معالم الطريق الموصول إلى العقل الفعال.
وتقال لفظة التدبير على ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة، وليست هذه الغاية سوى الاتحاد بالعقل الفعال، ولهذا فإن الطريق الذي يرسمه الكتاب هو المنهج الذي يسير عليه الإنسان حتى يبلغ هذه الغاية المنشودة.
ولكن هذا المنهج ليس منهجا صوفيّا يستخدم فيه المريد أسلوب المجاهدة والتطهير، بل هو تدبير الأعمال بالعقل، واستخدام الرؤية، ولايقدر على هذا غير الإنسان.» (11)
وقد سبق لابن طفيل أن حاول التوفيق بين الدين والفلسفة، وذلك في كتابه « حي بن يقظان»، حيث يمثل آبسال الحقيقة الدينية التي توصل إليها عن طريق النّص والشّرع والوحي. في حين، يمثل حيّ الحقيقة العقلية التي توصل إليها عن طريق البرهان والاستبصار والتأمل المنطقي. وحينما التقيا على أرض الجزيرة، وجدا أن حقيقة الدّين النّصية والحقيقة الفلسفيّة العقليّة لا تتعارضان إطلاقا مع حقيقة الفلسفة العقلانيّة والبرهانيّة.
وإذا كانت الفلسفة المشرقيّة - كما هي عند الفارابي وابن سينا- قائمة على فلسفة الاتصال بين النّص والعقل، والخلط بين  أفلاطون المثالي وأرسطو المادي، وذلك من خلال استحضار أفلوطين المثالي الهرمسي أثناء عملية التوفيق، والوقوع في التلفيق أثناء المؤالفة بين الحكمة والشريعة، فإن فلاسفة المغرب قد انطلقوا منذ البداية بأن الفلسفة ليست هي الشريعة، ولكن هدفهما واحد، مادام الشرع يدعو إلى استخدام العقل والنظر البرهاني، فكذلك الحكمة أو الفلسفة فهي تنادي إلى استخدام العقل في معرفة المصنوعات ومعرفة الصانع. ومن هنا، فالدين ليس هو الفلسفة، ولكن يتفقان من حيث الهدف ألا وهو استخدام العقل. وبما أن هدفهما واحد، فلابأس من الاستعانة بعلوم الأوائل، ودراسة الفلسفة والمنطق كما لدى اليونان، وهذا ما يذهب إليه ابن رشد كذلك.
وبناء على ماسبق، يقول محمد عابد الجابري معقبا على فلسفة ابن طفيل:«ومما هو جدير بالملاحظة أن الفيلسوف الأندلسي يترك الطريقين متوازيين في النهاية كما وضعهما في البداية.لقد فشل حي بن يقظان في إقناع سلامان وجمهوره بأن معتقداتهم الدينية هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة التي اكتشفها بالعقل، فشل حي في ذلك وعاد إلى جزيرته الشيء الذي يعني فشل المدرسة الفلسفية في المشرق التي بلغت أوجها مع ابن سينا في محاولتها الرامية إلى دمج الدين في الفلسفة . أما البديل الذي يطرحه ابن طفيل، بل المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس، بكامل أعضائها، فهو الفصل بين الدين والفلسفة.» (12)
ويعني هذا أن فلاسفة الغرب الإسلامي – حسب محمد عابد الجابري- بعمليتهم التوفيقية هاته، والقائمة على الفصل بين الشرع والفلسفة، قد أسسوا بشكل من الأشكال مدرسة فلسفية مغربية مستقلة، تتميز كثيرا عن المدرسة الفلسفية المشرقية التي سقطت في التلفيق والخلط المنهجي، وتوظيف المؤثرات الدّينية الهرمسيّة والغنوصيّة والأفلوطينيّة... وقد اتضحت هذه المدرسة الفلسفية المغربية مع ابن رشد على سبيل الخصوص. وفي هذا النطاق، يقول الجابري: «ننظر إلى المدرسة الفلسفية التي عرفها المغرب الإسلامي على عهد الدولة الموحدين، كمدرسة مستقلة تماما عن المدرسة- أو المدارس- الفلسفية في المشرق، فلقد كان لكل واحدة منهما منهجها الخاص، ومفاهيمها الخاصة، وإشكاليتها الخاصة كذلك. لقد كانت المدرسة الفلسفية في المشرق، مدرسة الفارابي وابن سينا بكيفية أخص، تستوحي آراء الفلسفة الدينية التي سادت في بعض المدارس السريانية القديمة، خاصة مدرسة حران، والمتأثرة إلى حد بعيد بالأفلاطونية المحدثة. أما المدرسة الفلسفية في المغرب، مدرسة ابن رشد خاصة، فقد كانت متأثرة إلى حد كبير بالحركة الإصلاحية، بل بالثورة الثقافية، التي قادها ابن تومرت، مؤسس دولة الموحدين، التي اتخذت شعارا لها:«ترك التقليد والعودة إلى الأصول». ومن هنا، انصرفت المدرسة الفلسفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال قراءة جديدة للأصول... ولفلسفة أرسطو بالذات.
إن الانفصال الظاهري بين المدرستين بوصفهما تنتميان إلى ما اصطلح على تسميته بـ«الفلسفة الإسلامية»  أو «الفلسفة في الإسلام»، لاينبغي أن يخفي عنا « انفصالا» أعمق بينهما. لقد عالج فلاسفة الإسلام، بالفعل، نفس الموصوعات، وتناولوا نفس المشاكل، ولكن ما يميّز فكرا فلسفيا معينا- كما يقول برييه- ليس الموضوع الذي يتناوله، ولا النظريات التي يدافع عنها، « إن الأهم من ذلك هو النظر إلى الرّوح التي يصدر عنها والنظام الفكري الذي ينتمي إليه». ونحن نعتقد أنه كان هناك روحان ونظامان فكريان في المشرق والفكر النظري في المغرب، وأنه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصال نرفعه إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية بين الاثنين، قطيعة تمسّ في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية.» (13)
ويعني هذا أن هناك قطيعة إبستمولوجية بين المدرستين المغربية والمشرقية في مجال الفلسفة ، وذلك على مستوى الطرح النظري، وعلى مستوى المنهج والمعالجة، وعلى مستوى البعد المرجعي والإيديولوجي.
وبناء على ماسبق، نستحضر ابن رشد (520-595هــ)، وذلك باعتباره من أهم فلاسفة المدرسة المغربية ، فقد تميز بالعقلانية التي كانت أساس النهضة الأوربية، وقد تجلت هذه العقلانية الرشدية في ترجمة كتب أرسطو وشرحها، ولاسيما كتبه المنطقية والميتافيزيقية، كما توفق في التوفيق بين الدّين والفلسفة داخل أرضية شرعيّة .  
هذا، ويذهب ابن رشد في كتابه « فصل المقال» (14) إلى أن هناك حقائق عدّة توصل الإنسان إلى حقيقة يقينية واحدة، وهي الحقيقة الرّبانية القائمة على التوحيد، ونبذ التعدّدية والشرك الوثني. وهكذا، نجد أن هناك من يعتمد على الخطابة للوصول إلى الحقيقة كالفقهاء، وهناك من يختار الجدل كعلماء الكلام (المعتزلة والأشاعرة والماتريدية...)، وهناك من يعتمد على العرفان كالمتصوفة، وهناك من يفضل البرهان كالفلاسفة للوصول إلى الحقيقة الصادقة. لكن ابن رشد يرى أن الحقيقة اليقينية لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق البرهان العقلي، ذلك البرهان الذي لا يتعارض مع الشرع الرّباني مادام الحقّ لايضادّ الحقّ، بل يوافقه ويلائمه هدفا ووظيفة ومقصدا. ويتمثّل ذلك في معرفة الحقّ، والتأكّد من وجود الله عز وجل صانع هذا الكون الأرحب والمعجز. وبهذا، يعمد ابن رشد إلى التوفيق بين الفلسفة والشّريعة على غرار الفلسفة المغربية كما عند ابن طفيل وابن باجة مثلا، مع الاستفادة بشكل من الاشكال من الفلسفة المشرقية كما هي عند الكندي، والفارابي، وابن سينا، والغزالي...
ويقول ابن رشد في كتابه « فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»: وإذا كنا نعتقد، معشر المسلمين، أن شريعتنا، هذه الإلهية، حقّ، وأنّها التي نبهت على هذه السعادة. ودعت إليها التي هي المعرفة بالله عزّ وجلّ، وبمخلوقاته، فإنّ ذلك متقرّر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التّصديق، فمنهم من يصدّق بالبرهان، ومنهم من يصدّق بالأقاويل الجدليّة تصديق صاحب البرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية.
وإذا كانت الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع، أنه لايؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ماورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.» (15)
وهكذا، يتبين لنا بأن المشروع الرشدي ينطلق من مبدإ عام هو: «إن الحقيقة واحدة وإدراك الناس لها يختلف بالدرجة فقط، وليس بالنوع»، وفي ضوء هذا الفهم للحقيقة، وأهلية الناس على إدراكها، يناقش ابن رشد إشكالية العقل والانغلاق المذهبي، ويحاول أن يعيد رسم حدود العلاقة بين الدّين والفلسفة أو العقل والوحي، بما يحفظ لكل منهما حضوره ووظيفته ونشاطه على مستوى القول المعرفي والبناء الاجتماعي.» (16)
ويعني هذا أن ابن رشد قد تناول وحدة الحقيقة على مستوى الهدف والمقصد(وحدة الحقيقة الربانية). وتحدث، في الوقت نفسه، عن تنوع المنهج في الوصول إلى الحقيقة (المنهج البياني، والمنهج البرهاني، والمنهج العرفاني). وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على انفتاح ابن رشد على الخطابات الفكرية والفلسفية الأخرى، وتجنب الانغلاق والتعصب في مجال الفكر والتأمل، مع الأخذ بفلسفة التسامح والتفاهم والتعايش في التعامل مع أطروحات الآخرين ، بما فيهم الفلاسفة اليونانيون.
ومن هنا، فقد رد ابن رشد على الغزالي الذي كفر الفلاسفة في كتابه:» تهافت الفلاسفة» (17)، فصنف كتابا تحت عنوان:» تهافت التهافت» ، وذلك للرد على الغزالي في ثلاث مسائل أو حقائق كبرى كفر فيها فلاسفة الإسلام، معتمدا في ذلك على المنطق أولا، والدين ثانيا. وهذه الحقائق الفلسفية هي: قدم العالم، وعلم الله الكليات دون الجزئيات، وحشر النفوس دون الأبدان أو الأجساد.
الهوامش
(1)- أبو نصر الفارابي: فصول منتزعة، تحقيق فوزي متري نجار، دار المشرق، بيروت، لبنان، طبعة 1971م، ص:52-53.
(2)- الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق: محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، لبنان، طبعة 1970م، ص:134 وما بعدها.
(3)- انظر ابن سينا: الإشارات والتنبيهات (مع شرح نصير الدين الطوسي)، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، مصر، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، سنة 1968م.
(4)- د.محمدعابد الجابري: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة، 1986م، ص:97.
(5)- د.محمد عابد الجابري: نحن والتراث، ص:98.
(6)- د.محمد عابد الجابري: نفسه، ص:97-98.
(7)- الغزالي: المنقذ من الضلال، دار الأندلس، بيروت، لبنان، صص:83-87.
(8)- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، الجزء الثالث، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، بدون تاريخ للطبعة، صص:18-19.
(9)- الغزالي: تهافت الفلاسفة، تحقيق: سليمان دينا، دار المعارف، القاهرة، مصر، طبعة 1964م.
(10)- د.أحمد أمين: ظهر الإسلام، المجلدالثاني(3-4)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة سنة 1969م، ص:232-259.
(11)- د. محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار النهضة العربية، بيروتن لبنان، طبعة 1976م، ص:441-442.
(12)- محمد عابد الجابري: نفسه، ص:120.
(13)- د.محمدعابد الجابري: نحن والتراث، ص:212.
(14)- ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق: دكتور محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة 1999م.
(15)- ابن رشد: فصل المقال، دار المعارف، القاهرة،  مصر، طبعة 1972م، صص:30-31.
(16) - د.فوزي حجامد الهيتي: إشكالية الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي (ابن رشد نموذجا)، مركز دراسات فلسفة الدين، دار الهادي، بيروت، لبنان،  الطبعة الأولى،  سنة  2005م، ص:171.
(17)- انظر: ابن رشد: تهافت التهافت، ضبط وتقديم وتعليق: الدكتور محمد العريبي، دار الفكر اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1993م. 
-------
-  أستاذ التعليم العالي (المغرب).
hamdaouidocteur@gmail.com