في العمق

بقلم
محمد الصالح ضاوي
مفاهيم متعددة في العبادة (2)
 سنسوق إليك أيها القارئ مجموعة من أقوال العلماء، السلف والخلف، في العبادة، والتي تدلل على ما فسرناه في المقال السابق، حتى تتحقّق من الفرق بينها وبين التوحيد، وأن مقولة: العبادة هي التوحيد لأن الخصومة فيه، ما هي إلا قولة جاهل قاصر بفهمه عن إدراك معاني العبادة والتوحيد.
(1) قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: 
«لا أطيق ما يطيق إبراهيم بن هانىء من العبادة».
وهو دليل على أنه للعبادة إطاقة، وبعضهم لا يطيق عبادة الآخر. لأنها مجهود. والتوحيد ليس مجهود مثل العبادة. أتراه يستقيم كلام الإمام أحمد إذا كان مقصود العبادة هو التوحيد، فيقول: لا أطيق توحيد ابن هانئ؟؟.
(2) قال ذو النون المصري:
« إياك أن تكون بالمعرفة مدّعيا، أو بالزهد محترفا، أو بالعبادة متعلّقا. فقيل له : يرحمك الله فسّر لنا ذلك. فقال: أما علمت أنك إذا أشرت في المعرفة إلى نفسك بأشياء، وأنت معرّى من حقائقها كنت مدّعيا؟ وإذا كنت في الزّهد موصوفا بحالة وبك دون الأحوال، كنت محترفا، وإذا علّقت بالعبادة قلبك، وظننت أنّك تنجو من الله بالعبادة لا بالله، كنت بالعبادة متعلّقا، لا بوليّها المنّان عليك؟».
العبادة أفعال وسلوكيات طاعة وامتثال للأمر والنهي، على نمط مخصوص، طالبت الشريعة به، يجزى بها ويحاسب عليها. والتعلق بالعبادة، والظّن بالنّجاة بها: خروج عن مفهوم العبوديّة، وقدح في التّوحيد. فتعلّق القلب من التّوحيد، الّذي يصحّح العبادات، ولا ينسبها إلى النفس، بل إلى وليّها المنّان المتفضّل عليها. فيكون حينئذ التوحيد: أصل العبادة وموجّه لها، وليس ركن منها وجزء منها، كما توهّمه بعضهم.
(3) قال عليّ بن الحسين:
« إن قوما عبدوا الله عز وجل رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وقوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.»
العبادة أنواع: عبادة الرّغبة، وعبادة الرّهبة، وعبادة المحبّة. والفرق بين العبادات الثّلاث: الباعث القلبي على العبادة. فالباعث القلبي عنوان التّوحيد ومصدّق للعبوديّة. فإذا صحّ التوحيد، صحّت العبادة.
(4) قال يحي بن معاذ:
« العبادة حرفة: حوانيتها الخلوة، ورأس مالها الاجتهاد بالسنّة، وربحها الجنّة».
العبادة حرفة، وهي التجارة، وبضاعتها: النفس.
العبادة هنا: الطاعة على طريق السّنة، والامتثال للأمر والنهي بالسّنة، في خلوة، طلبا للجنّة.
فجاءت العبادة في هذا التعريف بالشمول، إلاّ أنها فرّقت في التوحيد: فتوحيد يبعث على العبادة، وتوحيد يصاحب العبادة في الخلوة، وتوحيد مثمر من الحرفة.
(5) قال محمّد بن علي الكتاني:
« العلم بالله أتمّ من العبادة له».
العلم بالله هو أشرف العلوم، وهو علم التّوحيد. والعبادة لله قد تكون بالعلم، وقد تكون بالعادة. فمن كانت عبادته عن علم، أي توحيد خالص متحقق، كانت أتمّ. وواضح الفرق بين التوحيد والعبادة.
(6) قال محمّد بن علي الكتاني:
« روعة عند انتباه عن غفلة، وانقطاع عن حظ النفسانيّة، وارتعاد من خوف قطيعة، أفضل من عبادة الثقلين».
الروعة: ثمرة ما يلقى في روعك عندما تنتبه من الغفلة، وتشهد الحضور الرّباني. وهي من ثمرات التّوحيد، لأنّ التّوحيد شهود، وثمرته المعرفة.
انقطاع النّفس عن حظّها: تمام العبوديّة لله عزّ وجلّ.
الارتعاد الصّادر عن خوف دائم في هذا المقام، وهو خوف السلب، وهو حالة مصاحبة للمقام. كلّ هذا أفضل من العبادات الصّادرة عن الثّقلين، عن عادة وليس عن علم وشهود.
فالتّوحيد هو الأصل، وليس هو جزءا من العبادة كما يدّعي الخصوم.
(7) قال لقمان لابنه: 
«يا بنيّ إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة. وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة». 
وقال يوسف بن الحسين الرّازي:
«خفّة المعدة من الشهوات والفضول، قوّة على العبادة»
وقال أبو سليمان الداراني:
«أحلى ما تكون إليَّ العبادة إذا التصق ظهري ببطني». 
قال رجل لابن سيرين: 
«علمني العبادة فقال لـه: كيف تأكل ؟ فقال: أكل حتى أشبع. قال: هذه عادة الدّواب، يجب عليك أن تتعلّم آداب الأكل ثم العبادة.» 
العبادة التي طلب الرجل تعلمها من ابن سيرين، هي إصلاح النفس وتطهيرها، وتقويم الخواطر القلبية، وهي عبادة القلب. فالجوع هنا، مشجع على العبادة القلبية.
وتقف بعض الجوارح عائقا أمام العبادة، وتكون حجابا بين التوحيد والعبادة. فلا القلب ينبض بالفكرة وينطق بالحكمة، ولا الجوارح تقوى على العبادة.
ويظهر أحيانا، تحكم الجوارح في القلب، وأحيانا أخرى تحكم القلب في الجوارح. فامتلاء المعدة يثبط الأعضاء عن العبادة، ويطفئ شعلة الفكرة، ويخرس الحكمة. فإذا الجوع باعث على قوّة العبادة. والشّبع حجاب على القلب. فمن أجاد الأكل تعلّم كيف يتنوّر قلبه على جوارحه، وتظهر منه العبادة الحكمية.
وتذكّر آدم عليه السلام، كيف تعلم الأسماء كلّها، ونال حظوة العلم ومعدته فارغة.
وكلّ هذا من أجل توحيد صاف متحقق، ومشاهدة الحضرة الربوبيّة. فالجوع باعث على العبادة، والعبادة باعث على المشاهدة، والمشاهدة تجريد في التوحيد.
(8) قال سهل بن عبد الله التستري: 
«ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة الهوى في ترك الحلال».هذه عبادة أهل الورع، الذين يجعلهم توحيدهم يتورعون عن الحلال والمباح، قمعا للهوى والحظ النفساني. وتواصلا مع الله تعالى في الفكرة والمشاهدة.
فدرجة العبادة وأفضليّتها، تابعة للتوحيد ومقامه. وليس العكس كما توهّمه خصومنا.
(9) قال بشر بن الحارث: 
«لا تجد حلاوة العبادة، حتى تجعل بينك وبين الشهوات حائطا من حديد». 
العبادة بمعنى الطاعة والامتثال للأمر والنهي، وحلاوتها من مقام التوحيد الذي انبثقت عنه. والنفس بطبيعتها غير ميالة إلى العبادة، ولكنها موحّدة بالقهر.
ولا تنفر النفس من العبادة إذا أقمت حجابا بينها وبين الشهوات. بل إن الحائط الحديدي الّذي تقيمه بين النفس وشهواتها، يفتح الممرّ منها إلى القلب، إلى السرّ، إلى التوحيد.فالعبادة تنفتح على التوحيد بفعل احتجاز الشهوات، والعكس بالعكس.
(10) قال أحمد بن أبي الحوارى :
«من أحب أن يعرف بشيء من الخير، أو يذكر به، فقد أشرك في عبادته، لأن من عبد على المحبّة، لا يحب أن يرى خدمته سوى محبوبه». 
التوحيد في العبادة: العبادة الصادرة عن التوحيد.
الشرك في العبادة: العبادة الصادرة عن الشرك.
الباعث القلبي هو الّذي يعطي للعبادة صفة التوحيد أو الشرك.
أمّا الشرك بالعبادة وليس في العبادة. فهو الشرك الخفيّ. وهو مدار الآية 110 من الكهف. {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبهِ أَحَدَا} 
فحب الشهرة: شرك بالعبادة، وهو الشرك الأصغر أو الرّياء. والرّياء يضاد العبوديّة. لأنّ الرّياء رؤية النّفس والعجب بها، والعبوديّة إسقاط لرؤية النّفس.
والرّياء يضادّ التّوحيد، لأنّ الرّياء رؤية النّفس والعجب بها، والتّوحيد إسقاط رؤية الخلق.
وأكثر شرك المسلمين من هذا النوع: الشّرك بالعبادة، وهو الشّرك بالمحبّة (محبّة النفس والدنيا). وهو خطير، باعتبار أن القلب لا يمكن له أن يحتوي على حُبّين، فلا بدّ لأحدهما أن يطرد الآخر. 
(11)  قال خير النساج:
«لا نسب أشرف من نسب من خلقه الله تعالى بيديه، فلم يعصمه، ولا علم أشرف من علم من علمه الله الأسماء كلّها، فلم ينفعه في وقت جريان القدر والقضاء عليه، ولا عبادة أتم ولا أكثر من عبادة إبليس، لم ينجه ذلك من المسبوق عليه».
إبليس كان أعبد الخلق، فانقلب قلبه الواقع بين إصبعين من أصابع الرحمن، وجرى عليه المقدر.
الشرّ يقع إذا رأى الشخص عبادته، ونسب كثرتها وفضلها لنفسه، وانقطع وصله بربّه، فتلك المصيبة العظمى.
ولاحظ، كيف وصف العبادة بالكثرة لأنها من جنس الأفعال والأعمال الصالحة، ووصفها بالتمام لصدورها عن علم التوحيد. وليس العكس كما رآه خصومنا.
(12)  قال عبد الله الرازي: 
«العارف لا يعبد الله على موافقة الخلق، بل يعبده على موافقته عزّ وجلّ». 
من تمام المعرفة: موافقة الله ومخالفة الخلق والنفس.
فالعبادة الصادرة عن معرفة التحقق هي  عبادة العارف بالله، وهي عبادة التوحيد الخالص.
فالإخلاص في العبادة هو ثمرة معرفة التحقّق، أي ثمرة التّجريد، أي الفناء في التّوحيد، وهو تمام الموافقة، ونزع حظّ المنازعة. وهذه هي عبادة السّلف.
وأين هذا، من توهّم العبادة أنّها التّوحيد، أو أن التّوحيد فرع من العبادة؟؟.
(13) قال إبراهيم بن شيبان :
«من أراد أن يكون حرّا من الكون، فليخلص في عبادة ربّه، فمن تحقّق في عبادة ربّه صار حرّا ممّا سواه».
عبادة الربّ بإخلاص تؤدّي إلى التحقق في العبادة. والتحقق في العبادة يؤدّي إلى الحرّية من الكون، ومن النّفس: مما سواه. فالعبادة تؤدي إلى العبوديّة (إسقاط رؤية النفس) وإلى التوحيد (إسقاط رؤية الخلق).
فهناك إذن عبادة تؤدي إلى عبودية وتوحيد، وعبادة صادرة عن عبودية وتوحيد. أي عبادة قبل التحقق، وعبادة بعد التحقق. وهذا فرق واضح بين العبادة والعبوديّة والتوحيد.
(14) قال أبو حامد الغزالي:
«العبادات خزائن، بها يتوصل إلى السعادات، ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بـيد الله لا محالة». 
العبادات خزائن، وكأنها خارجة عن الإنسان. فلأنها خارجة عن القلب، قال إنها خارجة عن الإنسان.
والعبادات توصل إلى السعادات، إذا كانت من توحيد خالص. فالتوحيد من علم الله، والعبودية من إرادة الله، والتوكل من قدرة الله، وهذه مفاتيح العبادة.
(15) سئل أبو يزيد البسطامي: بماذا يستعان على العبادة؟  فقال:  «بالله، إن كنت تعرفه». 
العبادة شيء والاستعانة بالله شيء آخر، وهو التوكّل.
والجواب هو ملخّص: «إياك نعبد وإياك نسنعين».
قال القرطبي في تفسيره للفاتحة:
« قال السُّلَمِيّ في حقائقه: سمعت محمد بن عبد اللَّه بن شاذان يقول: سمعت أبا حفص الفرغاني يقول: من أقرّ بـ «إياك نعبد وإياك نستعين» فقد برىء من الجَبْر والقَدَر». أي سلم توحيده.
فالعبادة هنا: طاعة الأمر والنهي، والأعمال الشرعيّة، ويستعان على تأديتها بالتوكل. وشرط له: معرفة الله، وهي ثمرة التوحيد.
فالتوكل المثمر للعبادة ما كان عن معرفة وشهود، أما خلاف ذلك فتعب ونصب.
(16) قال أبو محمّد الراسبي: 
«خلق الله الأنبياء للمجالسة، والعارفين للمواصلة، والصالحين للملازمة، والمؤمنين للعبادة والمجاهدة». 
عبادة المؤمن العادي: مجاهدة على الدوام للنفس والشيطان والدنيا.
وعبادة الصالحين: ملازمة الطريق والأوراد، والمقام. 
وعبادة العارفين: مواصلة بينهم وبين الرب. وصال باعتبار الوصول.
وعبادة الأنبياء: مجالسة ومناجاة على الدوام.
وتلاحظ أخي كيف أنه أفرد المجالسة والمواصلة والملازمة، عن المجاهدة والعبادات، لأنها مقامات وأحوال القلب، وهي من ثمار التوحيد.
ونكتفي بهذه الأقوال التي تثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن العبادة تختلف عن التوحيد والعبودية والمعرفة، وهي ـ أي العبادة: أفعال ومجاهدات ورياضات القصد منها إصلاح خواطر القلوب الباعثة على تحريك الجوارح والمشاعر، من أجل توطين التوحيد في القلب، وتجريده في السرّ، وإثمار المعرفة بالله، التي بدورها تظهر عبادات توحيدية خالصة لوجه الله، أو في حالات أخرى، عبادات مختلطة أو شركية.
وقول: لا إله إلا الله من أركان الإسلام، أي من العبادات، ولكن تحقيق التوحيد، غاية كلّ العبادات، ولذلك كان التوحيد أصلا وسرّا وعلما، مقاما، وحالا، يشمل كلّ شيء في درجات الكمال والتمام.
-------
-  كاتب وصحفي 
dhaoui66@gmail.com