الأولى

بقلم
فيصل العش
من ينقذنا من ارهاب المناخ؟
 سعدت كثيرا لصدور دستور جديد للبلاد التونسيّة يتضمّن في توطئته ضرورة الحفاظ على البيئة، واستمراريّة الحياة الآمنة للأجيال القادمة، وفصلا ينصّ على أنّ «الدّولة تضمن الحقّ في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ ويلزمها توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوّث البيئي» (الفصل 45). كما سعدت أكثر لاهتداء نوّاب الشّعب إلى ادراج هيئة مستقلّة خاصّة بالتنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة ضمن المؤسّسات الدستوريّة الدائمة (الفصل 129 ).
لكنّ تضمين دستور تونس الجديد الحقّ في بيئة سليمة لا يكفي وحده لمعالجة الاشكاليات بل يجب ايجاد وسائل وطرق وآليات لتنفيذه، لأننا خبرنا أن الدّساتير لا معنى لها مهما تفنّن واضعوها واختاروا كلماتها وفصولها بعناية فائقة ما لم تتحوّل إلى قوانين ثمّ إلى برامج ثم إلى فعل على أرض الواقع. ولعلّ القارئ يتعجّب من اهتمامي بموضوع المناخ ويتساءل ما الذي يدفع بسياسيّ إلى الحديث في موضوع بعيد عن الدّيمقراطية والانتخابات ومقاومة الإرهاب؟ ولماذا الآن ونحن على أبواب حملة انتخابيّة قويّة؟ والجواب أنني مختصّ في مجال الرّصد الجوّي منذ أكثر من عقدين قبل أن أكون سياسيّا ولي معرفة واسعة بملف التغيّرات المناخيّة وما يمكن أن تسبّبه من مخاطر على حياة الإنسان عموما وعلينا نحن التونسيّين خصوصا.
صحيح أن «الإرهاب» من أهمّ مشاغلنا الحاليّة لما له من انعكاسات خطيرة على أمن وسلامة النّاس، ولهذا تجد الجميع مجتهدين في البحث عن صيغة لمقاومته وصدّه والقضاء عليه، لكنّ موضوع التغيّرات المناخيّة لا يقلّ خطورة عنه خاصّة إذا علمنا أن خسائره المادّية والبشريّة أكبر بكثير من الخسائر التي تنجرّ عن العمليات الإرهابيّة  وأنّ عنف الظواهر الجوّية المتطرّفة من أعاصير وفيضانات ورياح قويّة وموجات برد أو جفاف أقوى بكثير من عنف «المتطرّفين» من بني جلدتنا. أمّا لماذا الآن، فذلك يرجع إلى أنّ الأحزاب والجماعات المترشّحة لخوض الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة القادمة سيتقدّمون إلى التونسيّين ببرامجهم ومخططاتهم، ولعلّنا نستطيع أن نجزم أن أغلبهم لن يعير موضوع مخاطر التغيّرات المناخيّة على مستقبل بلادنا أي أهميّة ولن نجد في برامجهم كلمة واحدة حول الموضوع، فلعلّنا نستطيع من خلال طرحه أن نحرج بعضهم فيتبنون بعض الأفكار ويقتنعون بأن موضوع انعكاسات التغيرات المناخيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لا تقلّ أهميّة عن مواضيع مقاومة الارهاب والفقر وإصلاح منظومات التّعليم والصّحة والعدل، فيدرجونها ضمن مخططاتهم وبرامجهم الانتخابيّة!! 
تصنّف البلاد التونسيّة ضمن الدول الأكثر حساسيّة للتغيرات المناخية وتبيّن الدراسات التقييميّة لانعكاسات التغيرات المناخية أن موقع تونس الجغرافي وهشاشة منظوماتها الطبيعيّة يجعلانها معرّضة للتّأثيرات المحتملة لارتفاع معدل درجة حرارة الأرض السبب الرئيسي للتغيرات المناخيّة ( يتوقع أن يتراوح ارتفاع الحرارة في تونس ما بين +0.8 و +1.3 درجة مائوية مع حلول سنة 2020)ومن أهم هذه الـتأثيرات ارتفاع مستوى مياه البحر وتقلّص مدّخرات المياه العذبة بسبب التملّح، وتفاقم ظاهرة التبخّر، واضطراب موسم الأمطار، وتراجع المردوديّة الاقتصاديّة لمساحات هامّة من المناطق السّاحلية المنخفضة وهو ما سيؤدّي إلى تغيير وجه البلاد خلال العقود القادمة. 
فالتصحر والنقص في المياه الصالحة للشرب وارتفاع ملوحة المياه الجوفيّة وارتفاع نسبة تواتر الأحداث الجويّة المتطرفة (الظواهر القصوى كالفيضانات والرياح القويّة وموجات البرد والثلج) لها انعكاسات سيئة على سلامة المواطنين وممتلكاتهم وعلى نشاطهم الزراعي والاقتصادي وبالتالي على قوتهم وقوت عيالهم، لكنّ ارتفاع مستوى البحر الذي قد يبلغ 50 صم مع حلول سنة 2100 (ارتفاع ما بين 8 و12صم مع حلول سنة 2030 وما بين 14 و22 صم مع حلول سنة 2050). ستكون له انعكاسات أخطر مما نتصور خاصّة أن ثلثي التونسيين يقطنون المدن السّاحلية وأن 90 بالمائة من الأنشطة الصناعيّة والسّياحيّة متمركزة أيضا على السّاحل التّونسي الذي يبلغ طوله 1350 كلم (من دون حساب طول الجزر والجزيرات الصغيرة التي يبلغ عددها 60). ومن أهم هذه المخاطر أن البحر سيتقدم على حساب اليابسة، خصوصاً في الأراضي السّاحليّة شديدة الانخفاض، وسيغمر أجزاءا من الجزر والمناطق الرّطبة، كما سيؤثّر سلبا على التّنوع البيولوجي البحري مما سيقلّص من الانتاج السّمكي ويدخل عليه اضطرابا كبيرا بالإضافة إلى تغيير الخارطة الشاطئيّة وما لها من انعكاسات سلبيّة على المنشآت السّاحلية وخاصّة السّياحية منها .
ويكفي أن نشير إلى أن تقدير الانعكاسات الاقتصاديّة الممكنة الناتجة عن ارتفاع مستوى سطح البحر يناهز 228 مليون دينار سنويا أي ما يقارب 0.63 بالمائة من الناتج الدّاخلي الخام من دون الدّخول في التفاصيل. وينتظر نتيجة انعكاسات التغيرات المناخيّة على المردودية الاقتصاديّة خاّصة بقطاعي الفلاحة والسّياحة أن ينخفض مستوى التّشغيل بهذين القطاعين بما يفوق 35 الف موطن شغل في أفق 2050.
هذه الارقام وغيرها لا يسمح المجال لسردها هي أرقام مفزعة لا تقلّ خطورة عن أرقام بقية المخاطر التي تهدّد البلاد كالإرهاب وحوادث الطراقات. ولهذا فإن وضع مسألة التغيّرات المناخيّة ضمن الاهتمامات الوطنيّة الرئيسيّة، ورصد سبل الاستفادة من الإمكانات المتاحة دولياً على غرار «صندوق التأقلم» في إطار بروتوكول «كيوتو» أمر بالغ الأهميّة يتطلّب مجهودات كبيرة وتنسيق بين الخبراء في الميدان والسّياسيّين وأصحاب القرار.
وللنجاح في التّأقلم مع التغيّرات المناخيّة وامتصاص تأثيراتها السلبيّة، وحتّى لا يقال أننا طرحنا الإشكال ولم نقدم حلولا، فإننّا نقترح ما يلي :
• بعث هيكل وطني يعنى بالمسألة من حيث المتابعة والبحوث تشرف عليه إطارات متخصّصة في المجال، قادرة على وضع الاستراتيجيّات النّاجحة للحدّ من مخاطر التغيّرات المناخيّة والتأقلم معها لا تتغير بتغيّر الحكومات وسياساتها. ويقترح على أصحاب القرار برامج على المدى المتوسط والبعيد هدفها حماية المواطنين وممتلكاتهم والحفاظ على اقتصاد وطني يتفاعل مع بيئته ومحيطه، كما يعينهم هذا الهيكل على وضع خطط عمل واضحة المعالم في مجال المحافظة على المنظومات البيئية ومقاومة التصحّر تهدف الى ضمان استدامة الموارد الطبيعيّة واحكام استغلالها في إطار مقاربة شاملة للتّنمية المستديمة. ويشرف هذا الهيكل على تطوير الآليات المؤسساتية ودعم التنسيق بين مختلف الأطراف التي لها علاقة بالموضوع وتطوير البحث العلمي والتكنولوجي في المجال .
• إرساء نظام إنذار مناخيّ مبكّر للظّواهر المناخيّة القصوى على غرار الجفاف والفيضانات، وتطوير منظومات الرّصد الجوي، وضمان وصول المعلومات المناخية إلى جلّ القطاعات المتأثرة بالعوامل الجويّة . 
• دعم برنامج التصرّف في الموارد المائيّة، مع أخذ نظمها الإيكولوجية في الاعتبار. والعمل على تثمينها مع اعتماد التقنيات الحديثة النظيفة المعتمدة دوليّا لمعالجة ملوحة الموارد المائيّة العميقة في الجنوب التّونسي وتحلية مياه البحار للاستفادة منها في المدن الكبرى .
• اعتماد الطاقات المتجدّدة وترشيد استعمال الطّاقة الملوّثة للبيئة ودعم الاستثمار في مجال الطّاقات النّظيفة كالطّاقة الشّمسيّة والرّيحيّة (مشروع النجاعة الطاقية في شبكات التنوير العمومي، مشروع تطوير استعمال الطاقة الشمسيّة لتسخين المياه..).
• تحسين قدرات النّظم الإيكولوجيّة، كالغابات والمناطق الرّطبة، على التأقلم مع التّغيّرات المناخيّة والدفاع على توازنها بمكافحة كل أشكال التلوّث لا سيما الكيميائي ومقاومة التّصحر وتكثيف عمليات التّشجير وتطوير الغطاء الغابي والرّعوي.
• ادراج أنشطة وبرامج تعليميّة للتّعريف بالتّغيرات المناخيّة وآلية التّنمية النّظيفة لدى الناشئة والشّباب في المستويات المختلفة من التّعليم والاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة وتقنيات التواصل الحديثة من أجل خلق وعي بيئي لدى المواطنين والتخفيف من قابليّة التأثر بالتغيرات المناخيّة وبناء قدرة المجتمع على التكيّف مع نتائجها.
• اعداد الخارطة الزّراعيّة للبلاد التونسيّة يتمّ تحيينها وفق تأثيرات التغيّرات المناخيّة وتُعتمد مرجعا لتطوير قطاع الفلاحة. 
المراجع
(1) Stratégie Nationale sur le Changement Climatique 
Rapport final - Octobre 2012 - Ministère de l’Environnement  et GIZ (Coopération Allemande au 
Développement )
(2) Changements climatiques - Rapport du Groupe de travail II - Conséquences, adaptation et vulnérabilité, 2007
(3) Climate Change 2014: Impacts, Adaptation and Vulnerability - intergovernmentel panel on climate change
-------
-  مدير مجلّة الإصلاح
faycalelleuch@gmail.com