قرأت لكم

بقلم
د.ناجي حجلاوي
رقصات المعنى في « نافلة الحب» لجودة بلغيث
 تتجاوب الأصداء ثني نسائم الفجر ومتعة الغياب الممتدّة إلى أعماق الغياب شوقا وحنينا إلى واحات الظّلّ الموحية بالحلم مقاومة للهشاشة والضّعف فتحاول الشّاعرة الاستقواء بالمحبوب تلتمس منه السّكون فيه حتّى تبدو حالمة بما يليق بالوقت والمواعيد الّتي لا تجيء، فتتزايد الرّغبة في الطّوفان والكفر بالخرائط والمسافات. 
حلم يراود حلما ينشب أظافره في جسد القصيدة الحالمة. إنّ الحرف لدى الشّاعرة مقاومة للقهر والحزن من أجل أن تورق سنذيانة وتزهر. إنّه عالم الحبّ والوجدان وعالم الإنسان وعالم الطّبيعة ماء وروحا ترتّل أوراد المحبّة المسبّحة لسحر الكلام مكتوما كان أو منطوقا بجهر باد في اجترار الرّوح حزنا ونهشا لأوصال الحقيقة الّتي بدت في ساعة حجبت فيها الغربان نور الشّمس. إنّها معان تتصارع فيها عناصر الجمال والمحبّة مع عناصر القبح والرّداءة الصّامتة. إنّه صراع الحلم واللاّحلم، حلم يُبرق شعاعا دافئا تتلذّذ منه القلوب العاشقة وشقاء على رداءة اللّغة المستهلكة بحثا عن حوريّة الحلم القاطعة للمسافات بين الألحان الجنائزيّة والأنغام المختلفة بالحياة مزعزعة بذلك أرواح الكائنات. ولما رمز لهذا التّوق العام للمفاضلة مع الواقع المرّ إلاّ عبر الطّيور والحمام والأحلام فلا يكاد يخلو نصّ شعري من أشعار «جودة بلغيث» من لفظة الحلم تقليبا لفضول الذّاكرة المقموعة والتّي لا زاد لها إلاّ الصّبر والحنين.
إنّ الشّاعرة تقف على بركان هادر تجري وراء الومضات الهاربة إلاّ أنّها سرعان ما تكتشف أنّ المرارة ثابتة تحت جلدها تمتصّ تفاصيل عمر نُسب زيفا إليها وتتمتّع نصوص الشّاعرة برقّة وعذوبة تجعلها ضاربة في المدى الزّمني قدر توغلّها في تضاريس المكان:
يرتمي النّورس في حضن المدى الشّوق ويسأله: إلى أين؟
متى السّكن؟ متى السّكينة؟ (1).
ومازال الحلم لدى الشّاعرة هو السّلاح الأوحد الكفيل بمقاومة الرّداءة وبعث الأموات إذ الحلم زهرة تورق وتكون عنوانا للمدى وإذا بالحلم بداية ونهاية في حبّ الوطن الضّائع أثناء تضاريسه فلا ملجأ مرّة أخرى من قساوة الحلم إلى طراوته إلا الارتماء في أحضان الحلم. وصراع الغربة ضدّ الـتّأنس بين ماض فات وآت قد لا يجيء، فلا مناص مرّة أخرى أمام الشّاعرة إلاّ التّحليق كالفراشة في سماء الوطن الحالم والحارق أحيانا للأجنحة إذ الحبّ صالب على أعمدة الرّيح، وموت وموسيقى أنغام وحروف هجاء في قضاء الفوضى النّابضة بعدوى الجنون. وللشّاعرة قدرة فائقة على التّجريد ورسم الصّورة المجرّدة طيفا وعناء معلنة الثّورة العارمة على الرّداءة واللامعنى. إنّ الشّاعرة تتسلّح بالحلم تموت عليه وعليه تبعث حيّة وهو النّور القاهر للعتمة والأحزان الباردة.
على هذه الشّاكلة لا يفوت القارئ إلاّ أن يشهد لجودة بالغيث بالقدرة الفائقة على غزل الكلمات ونسج خيوط اللّغة نسجا بديعا مشكّلا لنصّ تتراقص فيه المعاني وتزفّ أغاني العشق إلى الذّات الشّاعرة ونهايات الأبد إن كانت له نهايات.
الهوامش
(1)- ص 82
-----------
-  شاعر وكاتب تونسي
hajlaoui.neji@gmail.com