في الصميم

بقلم
لسعد الماجري
ما قبل الوحي : إرهاصات ما قبل البعثة النبوية
 لقد سبقت البعثة النّبوية الكثير من الإشارات سواء على مستوى الكتب السّماويّة السّابقة للقرآن أو على مستوى مقولات وشهادات أهل الكتاب من الرّهبان والأحبار أو على مستوى الاٍنتظار لظهور دين جديد والبحث عنه.
1. الكتب السماوية
 لقد ذكر لنا القرآن أن الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلم جاء ذكره والتبشير به في الكتب السّابقة وبصورة ثابتة في التّوراة والإنجيل وهي الكتب السّماوية التي أنزلت على موسى وعيسى عليهما السلام. فلقد جاء في القرآن قوله تعالى في سورة الأعراف : «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ»( الآية 157 ) وقوله في موضع آخر من القرآن في سورة الصف : «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ»(الآية 6 ). ولقد جادل القدماء والمعاصرون من أهل الكتاب من يهود ومسيحيّين في هذه المسألة ورفضوا أن يكون هناك ذكر لمحمد في كتبهم وعزوا ذلك (1) إلى أن الآية الأولى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيل» لا تدلّ على أنّ التوراة أو الٍانجيل احتويا أي دليل على هذا وهي حسب رأي الكاتب المسيحي في صفحة الأنترنيت التي ذكرنا اٍنما نقلت خطأ عن التوراة والتي ذكر فيها النبي الآتي أي تقصد النبي الآتي بعد موسى أي عيسى عليه السلام وليس محمدا وذلك الخطأ حسب قوله يعود إلى أن الكتابة العربية فترة جمع القرآن كانت غير منقوطة فنقلت هكذا من التوراة «النبي الآـى» ولم تنقط التاء وقرأت فيما بعد «الأمّي» ثم يضيف أن العادة في القرآن أنه يتّصف بالتكرار والمفروض أن نجد هذا اللفظ «الأمّي» مكرّرا والحال أنّنا لا نجد ذكر هذا اللّفظ « الأمّي» اٍلاّ في هذه الآية وهي على هذا الأساس أدخلت في القرآن زمن جمعه. والرّد على هذا التجنّي سهل جدا ويسير إلى أبعد الحدود وهذا الكلام لا يقنع اٍلاّ من كان في قلبه مرض. أوّلا هذه اللّفظة لم تبرز في مناسبة واحدة في قرآننا الكريم واٍنّما في العديد من المناسبات والآيات سواء في صيغة المفرد أو الجمع. نذكر مثلا قوله تعالى في نفس سورة الأعراف: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ( الآية 158 ) وفي سورة آل عمران يقول تعالى : «وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ» (الآية 20) وفي سورة البقرة يقول تعالى جل شأنه «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ» (الآية 78)...الخ وقد وردت وتعدّدت في القرآن فنردٌ بهذا على حجة عدم التكرار، فها هي قد تكرّرت الكثير والكثير. أما قوله بأنّ اللّفظة نقلت من التوراة وأضيفت إلى القرآن زمن جمعه فهذا نردّ عليه بأنه لا يوجد أي دليل علمي على النقل ثم اٍنّ القول بحجّة عدم التنقيط في اللّغة العربيّة المكتوبة تلك الفترة فذلك يصحّ على كل الكلمات وليس على لفظة «الأمّي» فقط ولا نفهم لماذا وقع الاٍختصار على هذه اللّفظة دون غيرها، فٍاذا قبلنا جدلا هذا القول فالمفروض أن نجد كثيرا من الألفاظ المنقولة من التوراة أو غيرها وقع نقلها خطأ إلى القرآن والسبب هو الكتابة غير المنقوطة ولكن هذه حجّة واهية أيضا كغيرها تتهافت بسهولة ويظهر للعيان تهافتها. أما أنّ النقل لهذه اللّفظة «الأمّي» وقع أيّام جمع القرآن فقراءتنا للفترة التاريخيّة تثبت لنا أنها تقابل حقبة الاٍنتصارات والفتوحات الإسلاميّة ولا حاجة ملحّة للمسلمين حينئذ للنّقل من التّوراة أو غيرها من الكتب،فهم لم يكونوا مستضعفين أو في مواجهة فكريّة مع أهل الكتاب في حين كانوا في الفترة المكّية قبل الهجرة أو إبّان الهجرة إلى المدينة في مواجهة ومناظرة مع يهود المدينة. وهذا يسقط أيضا هذا الاٍتهام الذي لا مؤيد علمي له.
أمّا فيما يخصّ الآية الثّانية ففيها بوضوح ذكر لأحمد الرّسول النّبي الذي به بشّر عيسى عليه السلام الحواريّين. وفيها تحدّ كبير لأصحاب الإنجيل. لقد أنكر أكثر المسيحيين الدّارسيــن لهذه المسألة أن يكون الإنجيل فيه ذكر لمحمد (ص). إنّ هذا الحوار الحضاري بين الأديان إن شئنا تلقيبه بهذا النعت هو في الحقيقة تكبّر وتجبّر وعدم قبول بالآخر من طرف أصحاب الكتب الأخرى وهم بهذا الموقف يصادرون منّا حقّنا في مجادلتهم بالحجّة والبرهان كونهم ينكرون ذلك جملة وتفصيلا. ولكن الذي زاد الطّين بلّة في هذا الجدال كوننا نعثر في تراثنا الإسلامي البعيد وبصورة أدقّ في سيرة ابن إسحاق (الذي توفي س 152 هجرية) وهي كتبت مبكّرا بالنّظر إلى ظهور الإسلام نصّا يقول فيه : «إن يوحنس الحواريّ ناسخ الإنجيل أثبت في نسخته قولا لعيسى عليه السلام هو التالي: «من أبغضني فقد أبغض الرّب. ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بطروا وظنّوا أنّهم يعزُونني (أي يغلبونني) وأيضا للرّب. ولكن لا بدّ أن تتمّ الكلمة التي في النّاموس: إنهم أبغضوني مجّانا (أي دون داع لذلك). فلو قد جاء المنحمنّا، هذا الذي يرسله الله إليكم، من عند الرب وروح القدس، هذا الذي من عند الرّب خرج، فهو شهيد علي وأنتم أيضا، لأنّكم قديما كنتم معي في هذا، قلت لكم لكيلا تشكّوا». وقد ذكر ابن إسحاق في سيرته التي كتبت مبكّرا قبل سيرة ابن هشام (ويعتبر ابن هشام آخذا على ابن إسحاق) أن لفظة «المنحمنا» تعني «محمّد» باللغة السريانيّة كما تعني «البرقليطس» عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم أي «الفرقليط» باللّغة الرّوميّة. ويردّ الكاتب في الإنترنيت مفسّرا هذه اللفظة بتجنّ دونما أي قبول رافضا أن تكون اسما لمحمد (ص) وإنما كلمة تعني باليونانية (Paracletos) أي المشير والمدافع وليس كلمة (Periklutos) وتعني حسبه المحمود والنبيل والمشهور والممتاز وهي صفة وليست اسما علما كما ذهب إلى ذلك المسلمون. ونجدها في إنجيل يوحنا. ولو تثبّتنا في صيغة خطاب عيسى كما ورد عند ابن إسحاق نجد أنه يتحدّث بما لا يدع مجالا للشكّ عن اسم وليس عن صفة «فلو قد جاء المنحمنا» فهو شخص مبعوث من الرّب  وهذا إثبات ثان أنّ ما ذكره القرآن حقّ لا ريب فيه. فحتّى أن قبلنا جدلا بأنّها صفة فهي نعت لمنعوت حذف وتقديره شخص محمود فنقول المحمود جاء. ولكن قد أكّد لنا القرآن أنّ هؤلاء يرفضون القبول بالحقّ. وقد قال تعالى في سورة الفرقان في قوم الرسول (ص) بمكة من المشركين والأرجح أنهم اتّهموا الرّسول بناء على ادعاءات بعض أهل الكتاب حينئذ وهم يرتابون: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (الآية 4-5). 
2. شهادات أهل الكتاب
 لقد ذكرت لنا أحداث السّيرة النّبويّة  أنّ الرّسول محمّد صلى الله عليه وسلم لما التقى جبريل عليه السلام في أول مرة وذلك عندما سمع صوتا يناديه: «يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله» ولّى هاربا وتكررت الحادثة معه وذات مرة عاد إلى زوجته خديجة ثم أخبرها بما شاهد وسمع فنقلت هي بدورها الخبر إلى أبي بكر وكان صديقا مقرّبا له في الجاهلية، فأخذه أبو بكر وانطلق به إلى ورقة ابن نوفل وهو قسّ نصراني فسأله هل يرى شيئا عند ذلك؟ فأجاب الرسول بلا ولكني أسمع النداء ولا أرى شيئا فأجري هاربا من الصوت فأجده عندي من جديد يناديني، فقال له ورقة: «إذا ناداك الصوت من جديد فاثبت له ولا تهرب واسمع ما يقوله لك». فعمل بنصيحة ورقة ابن نوفل القسّ النصراني فثبت للنداء قائلا: لبّيك، قال له جبريل: «قل أشهد أن لا اٍله إلا الله وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله». فأتى ورقة فروى له ما حدث فقال: «أبشر ثم أبشر ثم أبشر أشهد أنك أحمد وأنك رسول الله. يوشك أن تؤمر بالقتال واٍن أمرت بالقتال وأنا حي فلأقاتلنّ معك».
شهادة أخرى نسوقها هنا وهي للرّاهب بحيرا وكان الرّسول (ص) لا يزال فتى يافعا لم يبلغ الثانية عشرة من عمره. كان بحيرا هذا راهبا يقيم في صومعته  في بُصرى من أرض الشام. فلمّا سافر محمد بن عبد الله مع عمّه أبي طالب في موكب من التّجار إلى الشّام نزل هذا الموكب في بُصرى واستضافهم هذا الرّاهب. ولمّا تعرف على الفتى محمد (ص) وأخذ يلقي عليه الأسئلة المتتالية حول حياته الشّخصية والفتى محمد يجيب بكل عفوية وتلقائية التفت الراهب إلى أبي طالب قائلا : «ارجع بابن أخيك واحذر عليه يهود فوا الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغُنه شرا، فاٍنه كائن لاٍبن أخيك هذا شأن عظيم».
كما يضيف ابن إسحاق في سيرته فيقول : «زعموا في ما روى الناس أن زريرا وتماما ودريسا وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله (ص) مثل ما رأى بحيرا في ذلك السفر الذي اصحبه فيه عمه أبو طالب فأرادوه فردهم عنه الراهب بحيرا. هذه إذا بعض الشهادات من طرف بعض أهل الكتاب المعاصرين لبعثة النبي الكريم.
3. اٍنتظار ظهور الدين الجديد
تثبت لنا الروايات التاريخية المتنوعة والمتعددة أن الإسلام كدين جديد مصدّق لما سبقه من الأديان كان منتظرا من الكثير من الناس حتى أن بعضهم سافر للبحث عنه من بلد إلى آخر. 
فاٍلي جانب كل التنبؤات التي ذكرنا كان بعض الناس قد سمعوا بقروب ظهور نبي جديد بعدما بشّر بذلك الكثير من أحبار اليهود والنصارى. ولقد تميزت تلك الفترة بظهور بعض من سمّوا بالحنفاء أي أولئك الباحثون عن الدين الحق دين إبراهيم عليه السلام أب الأنبياء وكان ذلك نوع من التجميع الذي يلغي الفوارق والنزاعات بين الأديان دين اليهود ودين المسيح ذلك أن إبراهيم أب الأنبياء. ولم تكن مكة بمعزل عن هذا الحراك فهي توجد على أهم الطرق التجارية العالمية وكانت صدى للتجاذب العسكري والسياسي للقوتين العظمتين الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية كما قلنا ذلك آنفا. ثم اٍن بروز دين جديد يعني في جملة ما يعني سقوط الدولة التي كانت قائمة على فهم سابق للدين والتي كانت تقوم على أساسه وقيام دولة أخرى على أنقاضها. وبالتالي تكون الدعوة لدين جديد كوسيلة لإسقاط منظومة سائدة مبنية على القهر والاٍستبداد وفهم تحريفي للدين الواحد دين الله في الأرض. وفي هذا الإطار تذكر مصادر السيرة والتاريخ أن هنالك أناس قد عبّروا في كثير من المناسبات عن رفضهم للأصنام وأنهم نادوا بالحنيفية أي دين إبراهيم قبل بعثة النبي :
تذكر هذه المصادر ومنها سيرة ابن هشام مثلا أن أربعة أشخاص اجتمعوا بمكة بمناسبة عيد لقريش وهو عبارة عن احتفال بأصنامها فتعاهدوا على نبذ عبادة الأصنام وطلب دين جدّهم ابراهيم. هؤلاء الأربعة هم : ورقة ابن نوفل وعبيد الله ابن جحش وعثمان ابن الحويرث وزيد ابن عمرو ابن نفيل وقد تفرّقوا في البلدان بحثا عن الدين الحنفي.
* أما زيد ابن عمروا ابن نفيل فقد كان ابن عم لعمر ابن الخطاب وكان يرفض عبادة الأصنام فأمر عمه الخطاب سفهاء قريش بأن يؤذوه كلما رأوه فهرب إلى كهف بحراء صار يتعبد فيه ويأتي مكة متخفيا من حين لآخر ثم سافر بحثا عن دين الحنفاء دين ابراهيم إلى أن وصل إلى بلاد الشام فتعرّف إلى راهب ببيعة واسعة فسأله عن دين ابراهيم فأجابه الراهب بأن ليس هناك من بقي على دين ابراهيم حتى يتعلم منه ولكن قال له :«أن هذا العصر هو عصر ظهور نبي جديد يأتي بدين ابراهيم فترقبه» وكان يروى عنه فيما يروى أنه كان اٍذا دخل الكعبة قال : «لبيك لبيك حقا تعبدا ورقا عذ بما عاذك به ابراهيم وهو قائم اذ قال أنفي لك عان راغم (أي صاغر) مهما تجشمني فاٍني جاشم» فيصلي ركعة بسجدتين ثم يقول : «هذه قبلة ابراهيم واسماعيل لا أعبد حجرا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له ولا أستقسم بالأزلام واٍنما أصلي لهذا البيت حتى أموت». وقد روى البخاري أنه أي عمرو ابن نفيل كان قد قابل الرسول (ص) قبل الدعوة المحمدية ثم سئل في كثير من الأحيان عنه من طرف أصحابه فكان يقول : «يبعث يوم القيامة أمّة وحده».
وأما عبيد الله ابن جحش فقد أسلم عند ظهور الدعوة المحمدية وهو من الوفد المسلم الذي بعثه النبي الكريم إلى ملك الحبشة النصراني عند الهجرة الأولى فلما وصل إلى الحبشة تنصّر وبقي على نصرانيته حتى مات هنالك وهو على النصرانية. 
* وأما عثمان ابن حويرث فقد سافر إلى بلاد الروم وتنصّر عند ملكها وعلى شأنه عنده.
* أما ورقة ابن نوفل عم خديجة بنت خويلد زوجة النبي (ص) فقد تعمّق في قراءة كتب النصرانية وصار قسا نصرانيا فقد تعلم على كتب أهل الكتاب وتقول الروايات أنه كان يكتب الكتاب العبراني أي ينسخه من العبرانية ويقصد بذلك كتاب الإنجيل العبراني أي إنجيل يوحنا.
* كما تروي لنا السيرة النبوية قصة رحلة سلمان الفارسي الباحث عن الدين الجديد. فلقد نقل ابن اسحاق عن ابن عباس قصة سلمان التي سمعها منه مباشرة ولقد وجدنا أثرها في سيرة ابن هشام الذي نقلها عن سيرة ابن اسحاق. ويقول سلمان أنه من عائلة مجوسية من اصبهان بايران وأنه ذات يوم وهو مار بقرب كنيسة استمع إلى أصوات الذكر للمصلين بتلك الكنيسة فاستهواه هذا الصوت فدخل الكنيسة وتحدث إلى القيّم عليها ولقد أثّر هذا الحديث عليه فعبّر عن رغبته في اعتناق هذا الدين وكذلك رغبته في السفر إلى الكنيسة المركزية وكانت في الشام فترجى من ذلك القيّم أن يسفّره في أول قافلة تجارية ترحل إلى الشام. وكان له ذلك فوصل إلى الكنيسة في الشام ودخل في خدمة الأسقف وتعلم عنه ولكنه حسب ما جاء في روايته لاحظ أن هذا الأسقف «رجل سوء» كان يستغل الناس فيأخذ الصدقات التي تأتي إلى الكنيسة ويكنزها ذهبا وفضة فقرّر الرحيل. وعندما مات ذلك الأسقف جاء رجال الكنيسة بأسقف آخر ولكن هذا الأخير كان رجلا نظيفا زاهدا في المال والدنيا إلى حد كبير فتعلم منه وأقام معه إلى أن حضرته المنية فرجاه سلمان أن يدلّه على أسقف آخر مثله في الزهد والتقوى فأرشده اٍلى الموصل فسافر اٍليها. وهكذا تواصلت رحلة سلمان من أسقف إلى آخر إلى أن وصل بلادا يقال لها عمّورية فأقام عند أسقفها إلى أن أتته المنية وقبل موته سأله الفتى المولع بالحقيقة أن ينصحه بأسقف آخر يرحل اٍليه فأجابه بأن ذلك صعب في هذا الزمن الذي انقطع فيه أهل هذا المذهب من الدين المسيحي ولكن قال له في جملة ما قال أنه أطلّ زمن ظهور نبي جديد يأتي بدين إبراهيم في جزيرة العرب. على اٍثر ذلك سافر سلمان مع ركب من التجار من عمورية قاصدا بلاد العرب وفي الطريق باعه هؤلاء إلى تاجر يهودي باعه بدوره إلى يهودي آخر من يهود بني قريظة بالجزيرة العربية. قدم به ذلك اليهودي إلى مدينة يثرب فصار بها عبدا إلى أن بعث الرسول (ص) برسالته الإلهية ثم قدم النبي الكريم مهاجرا إلى المدينة فلمّا تعرّف إليه ووجد أوصافه هي نفسها التي حدّثه عنها أسقف عمورية روى للرسول (ص) قصته فرحب به وجمع له المال الذي به يشتري حرّيته فكان له ذلك والتحق بالصحابة الكرام.
إن الجزيرة العربية باعتبار وجودها كمنطقة مفتوحة وخالية من وجود دولة رسمية على أراضيها كانت مجالا للتجاذب السياسي بين البيزنطيين والفرس أي تلكم الدولتين العظمتين اللتان ما انفكتا تتناحران بينهما لكسب نفوذ أكبر واستعملت في هذا الهدف كل الأسلحة العسكرية والفكرية والدينية أيضا. وبما أن كل التيارات الدينية المسيحية الرافضة للتثليث أجهضت في المركز فإنها حاولت التنفس والانتشار في أرجاء الجزيرة العربية ومنطقة الشرق بصفة عامة. وأصبحت بذلك الجزيرة العربية مكانا خصبا لبروز حركات التبشير المسيحية الغير رسمية.
المراجع
(1) (انظر صفحة الإنترنيت المخصصة للمسيحيين (http://www.mutenasserin.net/arabic/fq/mohamed.htm
(2) محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم - الجزء الأول : في التعريف بالقرآن - مركز دراسات الوحدة العربية 2006
(3) ابن هشام: السيرة النبوية 
-------
أستاذ جامعي في الاٍعلامية الصناعية وتواصل الاٍنسان والآلة
mejrilassad@yahoo.fr