وجهة نظر

بقلم
اسماعيل بوسروال
السلفية في تونس بعد الثورة ... هكذا رأيتها تنبت
 حمدنا الله وشكرناه ... ولسان الحال يردّد «الحمد لله الذي رفع عنا الحيف والخوف» ... لقد سقط رأس النظام في تونس بأخفّ الأضرار وبقيت الحكومة والإدارة والدولة سالمة. وكنّا على عكس الشّباب الطّموح سعداء بأن نصلي في الجامع دون أن يتابعنا المخبرون، وكنّا سعداء على عكس الشّباب بأن نجلس في المقهى ونخوض في شؤون السّياسة دون أن نخشى أقلام الجواسيس الذين درّبهم النظام على «تجريم إبداء الرّأي». لقد تفهّمنا تذمّر الشّباب من البطالة وطول الانتظار ولكن ندرك حقائق الوضع وندرك سبل حلّ الإشكالات التي تتطلب رأس المال المحلي والعربي والأوروبي والأمريكي .... 
 لقد كانت سعادتنا لا توصف ونحن نرى تزايد أعداد المصلّين وخاصة من فئة الشّباب ذكورا وإناثا ... وكان كثير منهم من الملتحقين حديثا بالمساجد، فربطنا بين الحرية وما تسمح به. فجأة طالت اللّحي – دون تهذيب - وانتشر القميص ووضع القلنسوة على الرّأس وازداد عدد المتنقبات. إلاّ أن الأمل ظلّ قائما في «صحوة إسلامية» تنشر الأخلاق الفاضلة وحسن المعاملة والإقبال على العلم والعمل ...
وبما أن الصلاة عماد الدّين و«تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي» فقد انتظرنا أن ينشر هؤلاء المصلون الجدد الفضيلة بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة فيقلع الشباب عن الضياع والتيه ويتخلّى عن العنف ويتّجه إلى إعمار المدن وفلح الأرض وانتاج ما تستحقه البلاد. لقد تصوّرنا الخير قادما لنا في شباب عاد إلى الطريق المستقيم. 
كانت أولى المظاهر الصّادمة فعلا هي مطويّات إشهاريّة بعضها مصوّر وبعضها مكتوب تحمل عنوان جمعية أو هيئة «أنصار الشريعة»، يتم توزيعها في البداية أمام أبواب المساجد على المصلّين ثم أصبحوا تدريجيا يعلّقونها في الأبواب ثم داخل المساجد  وقرب المصاحف .
معلقات مصوّرة جميلة الإخراج، زاهية الألوان تركّز مضمونها في أربعة نقاط : 
(أ) الدعوة إلى تطبيق الشريعة،
(ب) التّحذير من الشّرك بالله من خلال زيارة القبور،
(ج) وجوب إرسال اللحية دون تهذيب، 
(ح) وجوب ارتداء النّقاب بالنسبة للمرأة.
ومن خلال التّركيز على هذه النّقاط تبيّن أنّ الشّباب الصّاعد له جهة محدّدة صاغت له خريطة الطّريق، فجمعتنا بهم لقاءات في المساجد على هامش الدّروس الوعظية وتبيّن أنّه يتمّ تلقينهم تفاصيل المذهب الوهابي في البداية والذي استمدّ آراءه الفقهية من «شيخ الإسلام ابن تيمية»، وقد ركّزوا على أهمية المذهب الوهابي في إحياء «الشريعة الإسلامية»، حيث أشاروا إلى فضل هذا الشيخ العالم المجاهد في محاربة البدع والضّلال ونشر مبادئ التوحيد لتحكيم «شرع الله» وسار على نهجه ابن باز وابن عثيمين وآخرون .
مع مرور الزّمن وأمام عدم وجود إدارة فعّالة وفي وضع أمني متراخ بدأ جليّا منذ حكومة «قايد السبسي» واستمرّ مع حكومة «التّرويكا»، كثّفوا من توزيع المطويات الدّعوية والمنشورات التي تشرّع لمشروعهم ... وذات مساء جمعة  في شهر رمضان المعظّم وزّعوا على المصلّين في عديد مساجد المدينة مطوية إعلامية أنيقة من أربع صفحات تتضمّن:
(أ) ضرورة تطبيق الشريعة من خلال عبارات «تحكيم شرع الله».
(ب) تكفير جميع من حكم تونس بالأسماء (  من بورقيبة إلى التّرويكا) وذلك وفقا للنص القرآني «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»
(ج) التنديد بمظاهر مخالفة الشريعة من خلال البدع 
(ح) التّأكيد على ارسال اللحية  للرّجال وارتداء النّقاب للنّساء.
(خ) إشارة واضحة إلى مظاهر الكفر من خلال ترك الصلاة وفي هذا الباب أشاروا إلى أنّ الصّائم الذي لا يصلّي فإن صومه يعتبر باطلا ولا يُفيده في شيء– حسب رأي الإمام ابن عثيمين -...
مثّلت المقولات الواردة والإحالات والأحكام مصدر توتّر لجموع المصلّين ، فنحن لا نحتاج إلى فقهاء حاسمين صارمين منذ اليوم الأوّل ...بل نحتاج إلى تفاهم وتحابب وتسامح وتآخ وسير هادئ نحو التّضامن والتّراحم ... لأن الصّرامة مع التّونسيين في ما هم فيه وفي ما ألفوه من نمط عيش هو «تسلّط على النّاس» بغير حق، بالإضافة إلى  أنّ المراجع الفقهية المعتمدة كابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن عثيمين لا تمتّ بصلة للمذهب المالكي .ولامتصاص غضب المصلّين ، اقترحت بمعيّة مجموعة من عقلاء المدينة اجراء حوار مع هؤلاء الشباب. 
كشف الحوار مع المجموعة الشّابة هشاشة تكوين أفرادها الثقافي والعلمي وصرامة الحسم الفقهي في العبادات والعقائد وفق المذهب الوهابي ...وبما أن هؤلاء الشباب اشتكى من الإقصاء ، فقد تمّ الاتفاق على أن يتم إدماج عدد منهم  في الدروس الوعظية وفق ثلاثة ضوابط  أولها ترشيح من لهم شهادة علمية تونسيّة وثانيها اعتماد المذهب المالكي وثالثها احترام قوانين البلاد.
انتصب أحدهم وهو شابّ متخرّج من كلّية الشريعة وعاطل عن العمل ليقدّم الدّرس الأول الذي خصصه لموضوع «ضرورة محاربة الولايات المتحدة، العدو الأول للمسلمين» حيث انبرى في بيان واجب الجهاد ومقاومة الأعداء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وأفاض في بيان عدوانها. تحمّل المصلون ذلك ... ولكن لقطع الدرس طالبوا بإقامة الصلاة وهو ما تمّ فعلا .
ابتعدنا عن المسجد وانتحينا ركنا وتحادثنا مع الشاب المدرّس ... وسألناه عن الأولويات حسب رأيه ... وقلنا له: «أليس أولى بنا أن نُحارب الفقر والجهل والمرض؟، أليس أولى بنا أن  نقرّب بين الأحياء والمدن ونقوّي علاقات الجوار بين التّونسيين قبل الخوض في قضايا أكبر منّا ؟ ... نحن نعلم انّ بعض ما تقول فيه جانب من الوجاهة لكن ليس مجاله المسجد وليس هذا وقته ولا يتقبّله النّاس بسهولة». ظهر على ملامح الشاب الاقتناع بما سقناه له وأبدى استعدادا للتعديل وفق طيبة أهل البلد التي تعوّدنا عليها .
بعد أيام ، و طبقا للروزنامة جاء دور الدّرس الثّاني لشاب آخر حمل عنوان « واجب طاعة الزّوجة لزوجها» واعتمد فيه المتحدّث أحاديث ضعيفة منسوبة للرّسول صلّى الله عليه وسلّم، دون أن يُشير ولو مرة واحدة إلى واجب احترام الزّوج لزوجته وفيها آيات محكمات وأحاديث صحيحة ثابتة ، وبهذا أثار حفيظة المصليات والمصلّين ...وختم استنتاجه بأنّ «صلاة المرأة وصومها يبقيان معلّقيْن بين السّماء والأرض لا يتقبّلهما اللّه إلاّ إذا رضي عنها زوجها». وسرد على مسامعنا حديثا ضعيفا لم يقرّه حتّى علماء الوهابية أنفسهم وهو أنّ امرأة جاءت الرسول صلّّى اللّه عليه وسلّم  قائلة يا رسول الله «والله لا أتزوج حتى تخبرني ما حق الزوج علي» فقال: «أتريدين أن تعرفي حق الزوج» فقالت: «نعم». فقال «حق الزوج أن لو خرج من أنفه صديدا أو من منخاره دما ثم لعقتيه، ما أديته حقه»!!!!.
ما الذي يدفع بشاب يرغب في أن يكون داعية للإسلام أن يصدم النّاس بحديث موضوع لم يرد في الصّحاح، مرفوض من شيوخ الوهابية أنفسهم ! وفيه امتهان للمرأة وللذات البشرية ، في حين تجنّب كل ما هو تقدير للمرأة وللرّجل وللذّات الإنسانية ؟ ... غضب منه المصلّون وفشل في أن يكون داعية لأنّه سلك مسلكا صادما للمجتمع .
توقفت تجربة إدماج الشباب في الدروس من خلال الرّفض الشّعبي ، فقد تبيّن أنها «تغريد» خارج السّرب، فلم يتقبّلوا ذلك وأصبحوا يبيتون اللّيل في المسجد ويقولون أنّهم يتعبدون بصلاة التّهجد وقيام اللّيل ...لقد كان جهاز الدولة منهكا ضعيفا إداريا وأمنيا ولكن المجتمع الأهلي دافع على كيانه وقيمه....
بدا أن الشباب الذي التحق بالمساجد بعد الثورة ليس مطبوعا على نسخة محلية تونسيّة مالكية متعارفة بل هو وفق نهج تسطّره قوى خفية لا نراها ولكن نرى نتائجها.
مقابل ذلك، كانت رقابة أجهزة الدّولة الدّينية والأمنية غائبة، وربّما تركت الأمر على « السّليقة» متخلية عن الممارسات البوليسية النّوفمبريّة ولكنها تركت فراغا سمح بالتّطاول على كل شيء وحدث في المساجد من توريد عشوائي للأفكار والدّعوات كما حدث في مجال التهريب الفوضوي للبضائع والسّلع ...
كانت بعض الكتيّبات الصّغيرة توزّع على المصلّين في أبواب المساجد تحمل على الغلاف الخارجي عبارة «أنصار الشّريعة» أما محتواها فيُشير إلى القضايا الرّئيسية المشار إليها سابقا على رأسها الدّعوة إلى « تطبيق الشريعة» لأنها حكم الله وحكمته ولأن الديمقراطية ليست من الإسلام لأنها قانون وضعي ... 
كان المناخ السائد يسير نحو التوتر في المساجد ولكن كنت مع بعض المصلّين نسعى إلى محاورة الشباب – دون تكليف من أحد – فدار بيننا نقاش أخوي حرصًا  منّا على «تبصير الشباب» بمعالم الطريق السالكة أمامهم .
قالوا: «الديمقراطية كفر لأنها قانون وضعي يحلّ محلّ شرع الله»،  فقلنا لهم: « الديمقراطية تنظيم لحياة الناس وفق ما يرونه ...وتسيير شؤون الحكم تركه الرّسول صلّى الله عليه وسلم لاجتهاد الناس» .
قالوا: «نريد الشريعة الإسلامية لا الديمقراطية»،فقلنا لهم: « من يبثون فيكم هذه الأفكار هم لا يطبقون الشّريعة ويخافون الديمقراطية» 
قالوا: « كيف ذلك ؟» 
قلنا لهم : «نحن نرى أن الدعوة إلى تطبيق الشّريعة كلمة حق أُريد بها باطل ... فالشّريعة لا تبدأ بتطبيق الحدود بل بنشر العدل والحق والخير والعلم والمعرفة أوّلا» وأضفنا: «إن الحديث عن الشريعة  بدل الديمقراطية هو قول يُخفي خوف السلاطين والملوك المستبدين على عروشهم ... إنّهم يظنّون أن التونسيين إذا ما نجحوا في اختيار من يحكمهم وفق رغبتهم فإن هذه «العدوى» ستصل إلى كل شعوب المنطقة. أما الآيات القرآنية المتعلقة بالحدود وذات البعد التشريعي فلابدّ من تحويلها إلى قوانين وضعية يفهمها الناس».
لم تفلح محاولاتنا الحوارية مع هؤلاء الشباب السلفي حيث كان أغلبهم يعود بعد كلّ مرّة إلى نقطة البداية وهو ما يؤكّد أن هناك من يقوم بشحنهم بمقولات «تطبيق الشريعة» و«الديمراطية كفر» ويتحكّم في أفكارهم ومواقفهم.
ففي حادثتين غريبتيْن قام الشباب السلفي المنتدب حديثا بما يؤكّد استحالة أن يكونوا يتصرفون بتلقائية ويستحيل تصوّر الصدفة في الشعارات والمواقف والقرارات :
(ا) الحادثة الأولى : انطلقت بإقامة خيمة دعوية على الطريق الرابطة بين سوسة والمنستير قام فيها الشباب  بتوزيع المصاحف المطبوعة في الخليج وكتب بعض الدعاة والفقهاء الوهابيين وأشرطتهم المسموعة، التي يركزون فيها على أهمية المظاهر لدى الفرد المسلم (اللباس واللحية) ويُغفلون «الجوهر» (إقامة العدل بين الناس)... وهم يخدمون بذلك أنظمة الفساد والاستبداد ...
ولكن فجأة تجمّع منظمو هذه الخدمة الدعوية وبدأوا في رفع شعارات مدوية « أوباما يا أوباما كلّنا أسامة...» وهو تصرّف غريب اعتبره بعض المواطنين الذين شاهدوا ذلك دعوة مباشرة للحلف الأطلسي لإنزال قواته في تونس !
(ب) الحادثة الثانية : حدثت ذات يوم جمعة حيث قدم عدد من شباب «أنصار الشريعة» إلى أحد مساجد الحي قبل ساعتين من موعد الصلاة وقاموا بتنصيب إمام حسب اختياراتهم وفرضه على الناس تحت حماية مجموعة من «السواعد المفتولة» المسلّحة بالسكاكين والهراوات، تجاوز عددها الأربعين، قاموا بجمعها من مختلف الأحياء بالمدينة، لكن المواطنين تصدّوا لهم وحدث تشابك واحتكاك ... تبيّن أن أهل الحي لن يستسلموا ولن يسمحوا لأقلية مغرّر بها أن تفرض نفسها ...وانتهى الأمر بعد ثلاث ساعات من الصراع الوجودي والعناء الكبير إلى إنزال الإمام المفروض من «أنصار الشريعة» وإلى إبعاد « المرافقين بأسلحتهم البيضاء» عن المنبر.
أدركت بعد ذلك بدون أدنى شك أن أجهزة مخابرات أجنبية توغلت في صفوف الشّباب واستثمرت المشاعر والعواطف وضخت الأموال والرّجال لعدّة أهداف منها «تشويه التّيار الإسلامي الوسطي المعتدل المنفتح على العصر» و«إفشال المسار الديمقراطي» لأنه يمثّل أنموذجا مُزعجا للعروش المستبدة ومزعجا أيضا للقوى الاستعمارية التي ترغب في استمرار هيمنتها على تونس والبلاد العربية.
--------------
-  جمعية منتدى المعرفة بسوسة
ismail_bsr2004@yahoo.fr