قرأت لكم

بقلم
د.ناجي حجلاوي
حول التنوير والثورة للدّكتور محمّد الحدّاد
 أصدر الاستاذ محمد الحداد كتابا جديدا عن دار التنوير بيروت عنوانه: «التنوير والثورة، دمقرطة الحداثة أم أخونة المجتمع؟» سنة 2014، وله من الصفحات 240 وهو كتاب من الحجم الكبير ويتكون من مقالات نشرها في صحيفة الحياة اللندنية وقد انتظمت هذه المقالات في فصول خمسة: الأوّل: نظريّة الانتقال الديمقراطي. والثّاني: حفريّات في الثّورات العربيّة. والثّالث آفاق الثّورات العربيّة. والرّابع: التّنوير والثّورة. والخامس: القضيّة الثّقافيّة.
إن اللافت في هذا الكتاب هو الوحدة الموضوعيّة التي صهرت شتات المقالات بطريقة تحليليّة وتفكيكيّة بارعة نزلت ضمن إطار فكري ومرجعية فكريّة متماسكة حتّى لكأنّه غير مكوّن من مقالات. يعتبر المؤلف أن الثورات العربية تمثّل نقلة نوعية في التاريخ العربي وفي الثقافة العربية أيضا إلاّ أنّ أحداث هذه الثورات مفتوحة على أكثر من احتمال: إمّا أن تنتهي إلى تعميق التنوير وتحقيق الحداثة السياسية والثّقافيّة علما بأنّ التنوير يقصد به الانتقال بالأفكار الحديثة من دائرة النخبة إلى دائرة الرّأي العام وهو المقصود بدمقرطة الحداثة. وإمّا تؤدّي إلى أسر الشّعوب في مكبّلات الطّاعة العمياء ضمن أثقال الجماعة والعبوديّة. وهذا الأمر يؤكّد دور المثقّفين من أجل بلورة أنّ الثّورة ليست غاية في حدّ ذاتها وإنّما هي حالة متوتّرة قصوى تحدث في مسار اجتماعي تنغلق فيه سبل الإصلاح. وإنّ الحداثة تعني القدرة على الممارسة النّقديّة إذ لا يوجد فكر حديث وبجانبه نقد بل الفكر الحديث كلّه نقد على حدّ عبارة عبد الله العروي ثمّ إنّ الحداثة ليست ترفا فكريّا وإنّما هي المشروع المستقبلي لمجتمعاتنا. والثّورة ليست انهيارا للأنظمة الحاكمة فحسب وإنما هي تغيير جذري في أنظمة القيم. ولا سيما أن القيمة الإنسانيّة الكونيّة للرّبيع العربي سرعان ما انحسرت إذ انحرف مساره عن جوهرة الاجتماعي ليسقط في براثن القضايا الهامشيّة أو غير الملحّة مثل القضايا  العقائديّة. 
إن المسلك الّذي ينحو إلى تعميق الحداثة من جهة ودمقرطتها من جهة أخرى مسار نحت للكيان يتميّز بالمشقّة والعناء يجب أن يُعهد به إلى المجتمع المدني ويُنأى به عن التّمشّي السّياسي المباشر تجنّبا للخيبات المتربّصة ببداية التّحوّل الدّيمقراطي وفي هذا الإطار يتنزّل قول هشام جعيّط في كتابه أزمة الثّقافة الإسلاميّة: « إنّ الدّيمقراطيّة مثل الدّين لا تعيش إلاّ في وسط اجتماعي مقتنع مسبقا لحقيقتها. وهي مثل الدّين تتطلّب قلّة من القادة يؤمنون بها دون جدال ويطالبون النّاس بالدّخول فيها ثمّ يحدث التّرسيخ». وعليه فإنّ الإجراء المتمثّل في ابدال رأس النّظام مثلما جرى في التّاريخ لم يعد كافيا ولا مقنعا للشعوب الثّائرة وإنّما أضحى المطلوب تغيير آليّات ممارسة السّلطة وخذ لذلك ما جرّته إزالة صدّام حسين وبقاء آليّات الاستبداد على المجتمع العراقي. يقول المثل الفرنسي: « الثّورات يحلم بها الشّعراء ويحققها الشّجعان ويستفيد بها الانتهازيّون».
إنّ الصّيرورة الزّمانيّة غيّرت من آليّات التّفكير الدّيني إزاء المسألة السّياسيّة وقد ذهب محمّد عبده إلى اعتبار أنّ الخليفة حاكم مدنيّ من جميع الوجوه وخلاف ذلك توظيف الدّين لخدمة المؤسّسة السّياسيّة ومازالت الجهود الإصلاحيّة تتوالى من المثقّفين والمفكّرين للرّفع من مستوى الأداء السّياسي ومثال ذلك منبر الإصلاح الدّيمقراطي في العالم العربي بالقاهرة والمنتدى المدني الأوّل ببيروت وذلك من أجل مناقشة الأداء السّياسي الرّسمي بالنّقد والرّصد والتّقويم إلاّ أنّ الحكومات العربيّة تُعرض عن هذه الجهود وتقبل بالمبادرات الدّوليّة جريا وراء السّمعة السّياسيّة الزّائفة وعليه فسبيل المصلحين العرب مفروش بالمصاعب والدّماء.
إنّ الانتقال يتمّ بطريقتين إمّا بالثّورة دينيّة كانت أو سياسية أو ثقافيّة وإمّا بالانقلاب العسكري علما أنّ كلّ شعوب الأرض تتّفق في خمس قيم كونيّة: 1- الإنسان غاية لا وسيلة 2-  دور الدّولة يتمثّل في حماية الإنسان 3- الحقيقة نسبيّة ولا مهرب من احترام التّعدّد والاختلاف 4- ضرورة حماية الحرّية الدّينيّة وحريّة الضّمير لكلّ إنسان 5- القتل باسم الدّين مخالف للدّين. وإن ظلّت هذه المبادئ أقرب إلى التّنظير منها للتّطبيق لأنّ أمريكا مثلا ساندت الأنظمة الكليانيّة النّاسفة لهذه المبادئ وإن تراجعت عن هذه الأنظمة بعد الرّبيع العربي في الخطاب الّذي ألقاه أوباما في القاهرة معتبرا أن افتراض عدوّ ممثّل في الإسلام بدلا من الاشتراكيّة هو اختيار ظرفيّ لأمريكا لا استراتيجي ومن ثمّ لعبت أمريكا على ترويج ما يعرف بالإسلام الوسطي أو المعتدل الّذي يؤمن بالحوار والتّأثير والتّأثّر وينبذ العنف ويقدّم توضيحات مقنعة إزاء المناطق الدّاكنة مثل مشكلة تطبيق الشّريعة واستعمال العنف ومسألة التّعدّديّة السّياسيّة وحقوق المرأة والأقليّات الدّينيّة ولقد رحّبت القوى العالميّة بالرّبيع العربي لأنّها رأت فيه فرصة لعودة العنف إلى منابعه الأصليّة حيث يقتل العرب المسلمون أنفسهم بأنفسهم ومن ثمّ تتخبّط الثّورات في نواقص من قبيل تحقيق العدالة دون حرّية كالثّورة الإيرانيّة أو تحقيق الحرّية دون العدالة كالّذي يجري في تونس وعموما فإنّ الرّبيع العربي نوع من الرّفض الكوني لنظام العولمة الجديد النّاهض على الظّلم والاجحاف ولذلك امتدّ الرّفض من العواصم العربيّة إلى ول ستريت إلاّ أن المؤسّسات بعد هذه الثّورات قد قامت وأمّا العدالة فلم تقم. وكتبت النّصوص القانونيّة الجميلة ولم يعل صوت القانون ورفعت شعارات حقوق الإنسان والظّلم يتزايد يوميّا وكثر الحديث عن العدالة ولم يغتم المواطن منها شيئا بالرّغم من سعي العولمة إلى تقوية المجتمعات ضد الدّولة بالتّركيز على أنّ الواجب الّذي لا يقابله حق يتحوّل إلى قهر وأنّ الحقّ الّذي لا يقابله واجب يتحوّل إلى فوضى وانحلال علما  بأنّ غياب المساواة يترتّب عليه غياب المواطنة وغياب المواطنة يترتّب عليه غياب الدّيمقراطيّة وغياب الدّيمقراطيّة يترتّب عليه غياب العدالة.
إنّ الجدير بالملاحظة هو أنّ المشاريع اليساريّة ذات المرجعيّة الماركسيّة قد انتشرت في أوروبا في جوّ نعمة الحريّة حيث غابت الولاءات التّقليديّة للأفراد في حين انتشرت هذه المشاريع في البلدان العربيّة من دون العنصر الأهمّ وهو التّصنيع الّذي يؤدّي إلى انصهار المجموعات البشريّة في المدن الكبرى. ومن المتناقضات في هذه البلدان العربيّة نلفي أنّها استهلكت كلّ شعارات زمن الأنظمة الكليانيّة ولم تؤمن بشيء منها، رفعت راية المقاومة وهي تفاوض الأعداء سرّا أو جهرا ورفعت راية الوحدة وهي تحكم حكما ضيّقا طائفيّا أو قبليّا أو جهويّا ورفعت راية الحداثة وهي تشجّع الفكر العدمي الخرافي ورفعت راية الدّين وهي تتاجر بالمخدّرات فهل ستتجاوز الثّورات العربيّة هذه التناقضات إضافة إلى المصاعب الأخرى المتمثّلة في التكتلات الماليّة الدّوليّة المسيطرة على وسائل الإعلام الكبرى وشبكة الانترنات وهو تحكم ناعم في العقول؟ فهل هذه الثّورات هي من قبيل إماطة الخمود الّتي توهم بالاشتعال ووهي انطفاء؟
ومن المؤسف أنّ الثّورات الأوروبيّة قد انتجت بعد انتصارها على المستبدّين الآلة البخاريّة والكهرباء والتلغراف والباخرة واللّقاح وأمّا ثوراتنا فقد أنتجت النّقاشات الغيبيّة والميتافيزيقيّة قبل تنظيم أوّل عملّية ديمقراطيّة ولا غرابة في ذلك إذ التّراث مازال في أفق التفكير وعملا في الواقع، ولم نتجاوزه بعد. وفي الرّاهن اندفع المكبوتون جميعا إلى اكتساح المؤسّسات الإعلاميّة وخاصّة اليساريّين واللّيبراليّين ناسين أنّ هذا الإعلام التّقليدي يحمل صورة المستبدّ قبلهم ممّا يرسّخ الصّورة المظلمة الّتي كانت تضرب اليسار باسم الإلحاد وتضرب  الإسلاميّين باسم التطرّف ولم تقرأ حسابا للشّباب البطّال الّذي يمثّل طائفة المهمشين حتّى سرى الشّعار: « بائع متجوّل يسقط صانع التّحوّل» وإن تكرس أنّ المستفيدين من الثّورات ليسوا دائما من أطلقوها.
إنّ الثّورات العربيّة قامت على مطالب اجتماعيّة لا دينيّة فانزلقت إلى دعاوى استئصاليّة والحال أنّ الفكرة المضادّة يمكن معارضتها لا رفضها أو فرضها. ومن الأخطاء المراهنة على الشّارع ومن الأخطاء أيضا التّساؤل عمّا لو حكم صالح بن يوسف وهو من قبيل التّساؤل عن من يتحمّل وزر من قتل الحسين في كربلاء. ومن المضحكات المبكيات أن نرى بلدانا تحلم بالاستقلال وهي تستدين وتأخذ قوتها من غيرها ويتجوّل في شوارعها جواسيس المخابرات الأجنبيّة تجوال السّوّاح وهي منهمكة في قضايا من شأن المؤرّخين والمفكّرين وقد اضطلع كلاب الحراسة، وهي تسمية كناية عن المثقّفين المتخاذلين، بتزييف الحقائق والاتّصاف بغير الشّجاعة فتراجعت بذلك الحركة الثّقافيّة الّتي تدعو إلى النّعي لأنّ مهامها أجهضت فضلّت جوفاء فارغة. وأنّ مسائل التّنمية لا تحلّ بطريقة نظريّة ومعالجة عموميّة وإنّما تخضع  لمعالجة تطبيقيّة عمليّة انطلاقا من عيّنات واقعيّة. ثمّ إنّ الحديث عن البطالة أمر مضخّم فيه في مجتمعات لا تولي العمل قيمة كبرى تليق به.
إنّ العنف المسلّط على الشّباب والنّساء هو المفسّر الأساسي وراء الهروب إلى الظّاهرة الدّينيّة لتحقيق التوازن النّفسي 
إنّ التّيارين الكفيلين بتحقيق الثّورة الحقيقيّة والنّهضة هو تيّار الهويّة وتيّار الحداثة إذ حقّقا المراجعة للمفاهيم الأساسيّة كالمواطنة والحريّة والإصلاح وأن الدّروس النّظريّة لا تكفي وأنّ النّظرة الاستئصاليّة تعرقل النّمو والتّطوّر وليس المطلوب من المثقّفين الاتّفاق حول فكرة واحدة وإنّما المطلوب هو التّفاعل الإيجابي بينهم في حوار وإن اختلفت الأفكار وخذ لذلك أمثلة المراجع الفكريّة التّنويريّة للثّورات الرّوسيّة والأمريكيّة والفرنسيّة والصّينيّة وأمّا الثّورات العربيّة فلا مرجعيّة لها لأنّها انطلقت من مشاغل اجتماعيّة وإن جنحت إلى بلورة تنظيم النّفس بالنّفس في شعارات جامعة كالشّعب يريد والتّشغيل استحقاق وارحل، إلاّ أنّ الاستبداد في هذا الأفق النّظري هو الّذي أدّى إلى التّطرّف الدّيني استنادا إلى مثال الموسوعة المعرفّية وكيبيديا  التّي تنهض على التّأليف وحريّة التّصويب ممّا أدّى إلى وسطيّة الفكرة واعتدال في الأداء ومن ثمّ بدأ تأكّد الحريّة لتحقيق التّوسّط.
إنّ الحداثة نوعان استئصاليّة ونقديّة وقد نهض الغرب وأوروبا على نقد الدّين مما حدا ببعض دعاة النّهضة العربيّة بالتّأثّر بذلك كالجهود الّتي بذلها القدّيس لوثركينغ. أمّا الحداثة الاستئصاليّة فهي معرقلة هدّامة. إنّ السّؤال المهم هو كيف يتمّ التّنوير والحال أنّ الإسلام السّياسي يعلن الحرب الباردة ضدّ الثّقافة عموما فكرا وقانونا وحياة. تلك أهم ّ المفاصل النّظريّة الّتي تناولها صاحب الكتاب بالتّحليل والتّدليل فكان الكتاب ممتعا ومفيدا دالاّ على سعة اطّلاع صاحبه وقدرته الفائقة على الاقناع وإن فتح أمام المتلقّي أبواب محاورته ومناقشته.
-----------
-  شاعر وكاتب تونسي
hajlaoui.neji@gmail.com