من الأعماق

بقلم
يسري بن ساسي
غزّة
 غزّة ...ليست فيلم رعب نشهاده في المساء... ننساه في الصباح  ..و نتلوه بآخر في الغداء ...
غزّة ليست رقما يشبه أرقاما نحفظها في أجنداتنا من النّسيان ...
غزّة جرح يمضي عميقا  في أديم قلوب الصّوان فيشرخها و يذيبها...
غزّة مدينة من الألم والصبر والأسى ...تقتطع من جسدها كل ثانية شلوا ليستفيق الموتى ويموت الأحياء.. ولاشىء بعد كل هذا الضنا ...
غزّة الغريبة ...غزّة المثقلة بالخيبات والملتاعة بأنّات الأطفال... 
غزّة ترفل في حلّة عيد لا يشبه لنا عيدا ... تمشي هائمة في ثوب من الشّظايا والمنايا والزّغاريد...
غزّة لازالت رغم حروقها الطّاعنة في عنفوان شباب مزهر تواريه ثراها كنفا من قساة الأعادي وجور الأقرباء..
غزّة ضجيج من القصف والصراخ والآهات والبكاء.. يخزي صمتنا ويفضح عجزنا ...
غزّة انكفأت على نفسها تضمّد جرحا بجرح وترتق بالكلم كلما ..لا تستجدينا .. فمنذ متى يستجدي الموتى الأحياء ...
غزّة وتين حيّ يشخب دماء.. يضخّها في قلب أمّة ميّتة و لكن قد فات الرّجاء...
غزّة تغصّ بعاذاباتها لتسكب في جوفنا بلسمًا شافيًا يبعثنا من جديد ولكن عسر الشفاء .. 
غزّة أطفالها في العراء وتحت الأنقاض شجّت رؤوسهم الصغيرة ودمدمت وجوههم الجميلة ودُمِيت مآقيهم الصّافية وبترت أياديهم الرّقيقة ولا من كفّ حانية ولا من قلوب مشفقة بل أفئدة صماء ...
غزّة لا أمان فيها إلاّ تحت التّراب...
غزّة ليست ككلّ الأمهات حبلى ثم تضع ..
غزّة تضع أولادها للحياة، فإذا عسرت عليهم خافت وجزعت فعادت حبلى بهم في جوفها ليحيوا هناك رغداء ...
غزّة ثوب عيدها أحمر مدبوغ بقنى الدّماء ... جمرة حارقة في رماد شعوب خاوية جوفاء...
غزّة يهرقونك وصبًا ويرهقونك وجعًا فتنتقضين بعد كل مخاض شامخة رعناء ...
غزّة يسعف فيك الموتى الأحياء ومن قبورهم يستنهضون مرّتين أو أكثر شهداء..
غزّة بقايا بقاياك تلملم الرّفات لا تدري أمن هذا الجسد أم من ذاك وماذا يعني ذاك ..قضت الأجساد وانصهرت فيك روحا واحدة شهباء... 
غزة قروحك القديمة قبل سنتين والجديدة قبل أسبوعين مستفحلة وماضية والقرحة الكبرى أن تحترقي شمعة تضيئ دروبا مدغمة ولا من يحرّك ساكنا أو يذود عنك بلاء...
غزّة تلفك كل آنية أوشحة الردى بيضاء.. راحة لك فيها بعد كل نسف من العناء.. 
غزّة تحتالين على الموت بأحزمة من الإرادة للبقاء وفينا من كل غريب تقبلين مرّ العزاء ..
غزّة غبنوك الدّواء... غبنوك الهواء.. غبنوك حتّى الثّرى.. ولم تبق لك إلاّ السّماء..
غزة لا نرثيك وإنما أحقّ نحن بالرّثاء ...
غزّة أنت لنا بصمة أمل ولازلنا لك وصمة خذلان ولازلنا أكبر داء....
-----------
-  كاتبة  تونسية
docyosra@hotmail.fr