قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
بيد الخليفة أو بيد غيره
 قالوا أنّها سوف تكون أمّ المعارك، جاءت فكانت أمّ المهالك،هكذا كتب السيد منصف المرزوقي في حينه تعليقا على ما بشّر به الرّئيس العراقي صدام حسين من هزيمة ماحقة لقوات ما يزيد عن الثلاثين دولة اجتمعت كلّها لإخراج الجيش العراقي من الكويت. تداعت النّخبة الحالمة بنصر موهوم ولم تترك من قاموس السّباب شيئا إلاّ وقذفت به في وجه الرّجل مع أنّه نطق بالحقّ فلم يكن خروج الجيش العراقي منسحبا سوى هزيمة نكراء جرّت على أهل العراق ويلات ما زالوا يعانونها إلى الآن .
حوصر العراق لسنوات طويلة حصارا بشعا ومنع عنه كل شئ بدعوى شبهة الاستغلال في الشّأن العسكري وتصنيع السّلاح. وقصّة هذا الحصار معروفة وضحاياه بالآلاف ولم يكن بوسع أحد إنقاذ أهله الواقعين بين فكّي الاستبداد والقتل البطيء. ومابين أسطورة الصّمود التي صنعتها نخبة الكذب وواقع الانهيار الذي كان يرى في كل شيء، عاش العراقيون سنوات عجاف حتى كانت النهاية المرعبة حين شاهد الناس أول دبّابة تعتلي جسرا في قلب عاصمة الرشيد. 
سمّي حاكم العراق معركته الطّويلة مع إيران «قادسيّة صدّام» في إيحاء تاريخيّ وكانت كلفة تلك الحرب كارثيّة على العراق دولة وشعبا ولا أدلّ على ذلك من سقوط ما يزيد عن المليون إنسان ما بين قتيل وجريح. ولمّا وضعت تلك الحرب أوزارها فتح الرّئيس على شعبه بابا آخر من أبواب العذاب بدخوله الكويت دخول الفاتحين بدعوى أنّها محافظة من محافظات العراق. ولم تكن تلك الخطوة الغبيّة إلاّ ايذانا ببداية النّهاية لدولة العراق الحديث ولكن على أيدي أعدائه من الغربيّين ومن والاهم هذه المرّة وفق ما سمّي تحريرا للعراق.
انهار النّظام وجيشه وانهارت الدّولة أيضا وأصبحت خرابا وقيل في حينه أنّ عراقا جديدا سوف يبنى على أيدي أمريكا وحلفائها عنوانه الأبرز الديمقراطية ومشاركة الجميع في البناء والقرار ومن هذه النقطة بدأ الخلاف.هل جاءت أمريكا بجيشها لبناء عراق حديث أم جاءت لنهب العراق والسّيطرة عليه؟ هل جرى إخراج العراق من دائرة الصّراع التاريخي في الشّرق الأوسط بين العرب والصهاينة من أجل بسط سيطرة الكيان الصهيوني على الشرق الأوسط الجديد؟ هل دخل الإيرانيّون معركة ثأر من العراق وأهله أستدعي فيها الموروث الدّيني والتّاريخي ليكون الثّأر هذه المرّة ثأرَ الشيعة المظلومين من أحفاد يزيد الظّالمين؟ هل كانت خطوات الرّئيس صدام حسين منذ اعتلائه كرسي الرّئاسة وحتّى نهاية سلطانه بتلك الطّريقة المذلّة مؤامرة كان هو لاعبها الرّئيسي وضحيّتها الأولي؟ لا شكّ أنّ الأمر خليط من هذا وذاك، فقد كان صدّام حسين حاكما بأمره لا يرى النّاس إلاّ ما يرى ويفعل بالعراق وأهله ما يريد وهذا وحده كان كافيا ليشعره بمقدار من العظمة يفقده صواب القرار. ولا شكّ أيضا في كون الغرب قد فعل ما في وسعه لجعل الرّجل ينفصل عن شعبه ومصالح العراقيّين ليدخل في ما يشبه التيه آملا في بناء نموذج خاص به لا يراه إلاّ هو وقبيله للعراق العظيم كما كان يصفه وكان ذلك كافيا ليزين له أعداء العراق والأمّة أعماله، فيوقعوه في أتون معارك لا حاجة للعراق بها ولا قبل له بالنّصر فيها.
لسنا في وارد التّحامل على الرّجل حيّا أو ميّتا ولكن السّلطة المطلقة إذا اقترنت بجنون العظمة لا يمكن أن تؤدّي بأيّ بلد إلاّ إلى الكارثة ولنا في ألمانيا هتلر خير مثال. ونحن لا نستطيع أن نجد في تاريخ العراق الحديث منذ سبعينات القرن الماضي وصولا الى اللّحظة الرّاهنة إلاّ سلسلة من الهزائم المرّة وهرولة نحو مزيد من الإنحدار.
وليس ظهور «داعش» وتبشيرها بخليفة للمسلمين وسط دعوات لمبايعته سوى فصل آخر من فصول هذا الانحدار، فأن تظهر حركة مسلّحة في ظرف وجيز و تبسط سلطانها على أجزاء شاسعة من العراق والشّام من دون أن تتداعى عليها دول تداعت من قبل على البعثي العلماني، فهذا في حدّ ذاته أمر يدعو إلى الرّيبة. وتنصيب خليفة للمسلمين من طرف أهل حلّ وعقد لا يعرفهم أحد وسط رفض من علماء الأمّة وبحدّ السيف أيضا سوف يدخل العراق في أتون حرب ضروس لن تنتهي بسهولة، فهذا الخليفة حامل للواء أهل السّنة مبشّر بقتال الرّافضة أعداء الدّين من الشيعة وكأن جزءًا كبيرًا من أهل العراق ليسوا من الشّيعة الذين استنفرتهم دعوة هذا الخليفة المستجد وهم يتأهّبون الآن لحرب مقدّسة شعارها نصرة أهل البيت.
لا نرى العراق إلاّ مقبلا على سنوات أخرى من الدّماء وظنك العيش وهو لم يجن من دكتاتوريّة البعث وقائده المفدى إلاّ سلسلة من المآسي وبحرا من الدّماء وهو بلد متعدّد الطوائف، كل حزب بما لديهم فرحون، ولذلك كان شعار الجميع قتال الجميع لهثا وراء أوهام ما زالت تسكن عقل هذه الأمّة التي تركها رسولها الكريم على البيضاء ليلها كنهارها ولكنّها أحدثت في الدّين ما ليس فيه. وليس أمام هذا الخليفة إلاّ إراقة مزيد من الدماء. وإن تكن الديمقراطية كفرًا عند هؤلاء وأولائك فهي عندنا نحن الحلّ الوحيد لقيام عمران جديد يحفظ كرامة النّاس ويدير الإختلاف بينهم وما دون ذلك فهو الخراب بيد العلمانيين كان أو بيد الخليفة.