فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
علامات الانتفاضة الكبرى
 كلُ شئٍ يدل على قرب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثالثة الكبرى، التي ستكون مختلفةً عن سابقتيها، ومغايرةً في كثيرٍ من مظاهرها عن الأولى والثانية، لجهة القوّة والعنفوان، والعمق والأثر، والامتداد والانتشار، والتنظيم والإعداد، والخبرة والتجربة، والأهداف والغايات، والقيادات والكفاءات، والطاقات والقدرات، والسّلاح والعتاد، والآلة والذّخيــــرة، والتأييد والمسانـــدة، والمساعـــدة والمشــورة، والاعتراف والقبول.
إذ ستجد الانتفاضة الثالثة من يبرّرها ويقبل بأسبابها، ويلقي باللاّئمة كلّها على الكيان الصّهيوني، الذي تسبّب بها، ودفع الشّعب الفلسطينـــيّ بكلتا يديه متعمّداً إليهـــا، وقد أغلق دونهم الأبواب، وأغلق أمامهم السّبـــل، وضيّق عليهم الحياة، وسامهم في أرضهم وفــــوق ترابهم سوء العــــذاب، قتلاً واعتقالاً ومصادرةً وإبعاداً، معتقداً أن هذا الشعب لن يثور، وأن الجمر الكامن في أرضه قد خمد، وقد أطفأ لهيبها رمادُ بطشه، وقسوةُ ممارساتـــه، فظنّ أنّها لن تتّقد من جديد، ولن تلتهب نـــاراً عظيمة كما كانت، وأنّ الفلسطينييـــن سيستكينون ضعفاً، وسيخضعون خوفاً، وسيقبلـــون بالممارسات الإسرائيليـّـــة قهراً، ولن ينتفضوا عليها جبناً ورعباً.
لكن الإسرائيليين ومن يفكر مثلهم يخطئون دائماً، ولا يحسنون التقدير، فقد أعمت القوّة عيونهم، وطمست على قلوبهم، وختمت على عقولهم، فما باتوا يميّزون ويدركون، أو يفكّرون ويعقلون، فقد غاب عن وعيهم أن الكبت سيولد انفجاراً، وأن القوّة ستخلق مقابلها قوّة، وأن القهر يخلق إرادة، وأن الحشر يدفع إلى المواجهة، وأن النّار إذا أضرمت فستحرق، وستبيد وتهلك.
وفاتهم أن الفلسطينيين ليسوا تراباً ظمآناً لماءٍ قذرٍ يشربونه، بل هو ظمآنٌ إلى حريةٍ واستقلال، وكرامةٍ وعزة، ولو كان ثمنها المزيد من الدّم والضّحايا والشّهداء، وقد سبق له أن قدم وأعطى، وهو بالتّأكيد حاضرٌ للمزيد والجديد، ولكن جديده اليوم سيكون مختلفاً، وبلاؤه سيكون أشدّ وأقوى، وأوعى وأكثر رؤيةً وبصيرة.
إنها الانتفاضة الكبرى، فقد آن أوانها، وظللنا زمانها، واقتربت ساعة قيامها لا ريب، وما على العدوّ إلا أن يترقّب وينتظر، ويعدّ نفسه ليومِ كريهةٍ وغضب، وأيامٍ ثورةٍ ولهب، تنسجها انتفاضةٌ ثالثةٌ نحن معها على موعدٍ ووعدٍ، ولكنّها يوم أن تأتي بعض فعالياتها فلن ينفع العدو ما قدم، ولن يقبل منه ما أعطى، وقد بدت معالم الانتفاضة الكبرى كلها، وظهرت جميع أماراتها، واستوفى العدو جميع سلوكياته لظهرها، واستخدم مختلف سياساته، وأصبح لزاماً عليه أن يتلقى النتائج، وأن يحصد ثمار ما بذر في أرضنا، وخرب في بلادنا.
إنها ذات السّياسات التـــي سبقت الانتفاضــة الأولـــى، يوم أن أطلق العدوّ الإسرائيلـــي جنوده في أرضنا الفلسطينييّـــة، من ذوي القبعات الخضراء والحمراء، الذين عاثوا في أرضنا فساداً، فقتلوا واعتقلوا، وهدّمــوا وخربـــوا، ومارسوا ضد المواطنيـــن ممارساتٍ يندى لها الجبيـــن، فقد أجبروا أهلنا على الوقوف طوابيـــر في الشوارع لساعاتٍ طويلة، وأمروهم أن يرقصوا في الشــــوارع، وأن يطبل لهم غيرهم، ومن الجنـــود من كان يجبر بعض أهلنـــا على الإتيان بحركاتٍ بهلوانية، أو تقليد أصواتٍ حيوانية، ومنهم من قيد شبابنا إلى أعمدة الكهربـــاء لساعاتٍ طويلـــة، وكنتُ أحــد الذين قيّـــدوا إلى عمود كهرباءٍ ليومٍ كامـــل، في محاولةٍ منهم لإذلالنـــا وقهرنـــا، وكســـر شوكتنـــا، وإضعاف إرادتنـــا، وغير ذلك مما يسيــئ إلى كرامة شعبنـــا، ويحط من قدره.
لكن الشعب ضــجّ بهم وضـــاق ذرعـــاً بممارساتهم، وانتفض عليهم بسكاكينَ تمـــزق، ومدىً كبيرة تبقـــر، وفؤوساً ومعاول تقتـــل، فكانت حرب السكاكيـــن، وانتفاضة الحجــارة، التي صنعت للفلسطينييـــن اسماً، وجعلت منهم علماً، ورسمت لهم أمام العالميـــن صورةً ناصعة، للشعب الثائر، والأمة التي تنتفض على الضيـــم، وتواجه الظلـــم، ولا تخاف من القتل، ولا تستكين على القيد، إذ واجه شبانهم بصدورهم العارية الدبابة الصهيونية، وتصدوا لبنادقهم الآلية، وآلياتهم الحربية التي لا ترحم، ولا تفرق بين الناس ولا تميز.
وكانت انتفاضة الأقصى ثورةً على شارون وجحافل جنوده، وقطعان مستوطنيـــه، الذين جاســوا خلال باحات المسجد الأقصى، ودنسوا رحابه الطاهـــرة، فعمت الانتفاضةُ الوطن، وسادت البلاد، وانتسب إليهـــا كل المواطنين، فتحٌ وحماس، وجبهةٌ وجهـــاد، وعامـــةٌ وخاصــة، وعاملون وعالمون، وما تأخر عـــن الالتحاق بها أحد، وخاض رجال فلسطين كلهم ضد العـــدو معـــارك بطولية، وصنعوا ملاحم جبارة، أكدت للعـــدو ومن حالفـــه أن الفلسطينيين لهم إرادة، وعندهم بإذن الله مشيئـــة، فإن هـــم قرروا النهوض نهضوا، وإن هم هموا على المواجهة والتحـــدي فعلوا، فلا يمنعهم من ذلك بطش جيشٍ، ولا غطرسة عدو، ولا عنجهية قائد.
تلك كانت علامات الانتفاضة الصغـرى، وقد انتهينا منها، وبتنا اليوم، بشهادة العدو نفسه، الخائف الوجل، على أعتاب الانتفاضة الكبرى، التي سيكون بعدها الآخرة والخاتمة، والنصر والعودة والتحرير بإذن الله، إذ ليس بعد الانتفاضة الكبرى خنوعٌ واستكانة، ولا خضوع ومهادنة، ولا مفاوضاتٌ ومصالحة، ولا مصافحاتٌ ومسامحة، ولا قبول بعدها بمسكناتٍ وصدقاتٍ ووعودٍ كاذبة، وآمالٍ كالسراب خادعة، بل سيكون وعد الله الآخر لهذه الأمة بالنصر، وسيمنّ على هذا الشعب بما وعده، وهو الصادق الوعد الحقّ، ولن يخالج نفوسنا شكّ، ولن يعترينا ضعف، ولن ترتجف فرائصنا خوفاً وهلعاً، فما بعد الموت ليس إلاّ شهادة، وما بعد الصبر ليس إلا نصراً وعودةً ووطناً وتحريراً بإذن الله..
-----------
-  كاتب فلسطيني
moustafa.leddawi@gmail.com