الإفتتاحية

بقلم
فيصل العش
داعس والغبراء
 ليس هناك حديث هذه الأيّام غير الحديث عن «داعش» وما فعلته في العراق بعد أن أعلن زعيمها البغدادي دولة الخلافة ونصّب نفسه أميرا للمؤمنين ودعا المسلمين إلى الهجرة إلى دولته الجديدة. فقد ذهب البعض إلى اعتبارها نتاجًا طبيعيّا للحراك الحاصل في الأمّة بعد أن عانت الظّلم والقهر على أيادي «الغرب الكافر» وهي ليست إلاّ تعبيرا «جهاديًا» لطائفة من الشّباب المسلم كفر بسياسة التملّق للغرب ومحاولة كسب ودّه ورفض مزج الإسلام بدعوات أخرى باطلة بحجّة فقه الواقع. وترى أطراف أخرى أنّ «داعش» صناعة مخابراتيّة أمريكيّة صهيونيّة بدعم مالي خليجيّ هدفها تفعيل مشروع تقسيم دول المنطقة وتفتيتها وخاصّة العراق وسوريا على أسس طائفيّة وعرقيّة وربّما تفجير صراع طائفي بين السنّة والشّيعة يعود بالوبال على كافّة المسلمين ويؤدّي إلى إضعاف قدرات إيران وبالتالي نفوذها بالمنطقة. ويرى آخرون أن فشل أمريكا وحلفائها في إسقاط نظام الأسد نتيجة دعم منقطع النظير من إيران وحزب الله وروسيا هو الذي جعلها تدفع بداعش إلى العراق لإجبار إيران على التخفيض من وجودها بسوريا لإنقاذ حكم المالكي الموالي لها ومن ثمّة يسهل الضغط على النظام السوري لإسقاطه...
ما أراه مهمّا في مسألة الحديث عن «داعش» هو جملة القيم والمفاهيم التي تبشّر بها مثل هذه الجماعات وأهمّها رفض الآخر بمختلف تعبيراته والكفر بالتّنوع والتّعدديّة ومحاربة الحرّيات الفرديّة والاعتماد على السّيف أو «الكلاشنيكوف» والألغام والمتفجّرات لتجسيد هذه القيم والمفاهيم على أرض الواقع. ومن يستمع إلى البيان الصّادر عن «البغدادي» في الأول من رمضان، والذي أعلن فيه قيام «الخلافة الإسلاميّة»، يستطيع أن يستخرج هذه المفاهيم وغيرها من المفاهيم الكليانيّة التي تنظر إلى العالم كلّه نظرة الخوارج وإلى عامّة المسلمين على أساس أنّهم حطب جهنّم، دماؤهم وأعراضهم وأموالهم مهدورة ما لم يبايعوا «الخليفة» وينفّذوا الأوامر من دون معارضة أو نقاش. مفاهيم تحصر الإسلام في نمط واحد من الفكر والمعيشة والتّصور يحارب التّنوع ويكفر به.
لست هنا لأرمي بسهامي في خصر «داعش» ولكنني أريد أن أنبّه إلى أننّا، في مغربنا العربي وفي تونس بالذّات، لسنا في مأمن من «التدعيش»، فالأرضيّة مناسبة مادام المجتمع يمرّ بأزمة هويّة عميقة تشكّكه في قدراته على مواجهة تحدّيات واقعه المتأزّم على جميع الواجهات خاصّة مع فشل «النّخب» في تقديم حلولٍ ومقترحاتٍ ذات نجاعة، قادرة على خلق توازن لدى الإنسان بين هويّته وتحدّيات عصره.
والفكر «الدّاعشي» متجذّر فينا بنسب متفاوتة سواء كنّا «علمانيّين» أم «إسلاميّين» ويكفي أن ننظر بتمعّن في الصّراعات السّياسيّة والثّقافيّة والفكريّة القائمة في الوطن لنتأكّد أنّ الجميع يدّعي امتلاك الحقيقة ويريد أن يفرض رؤيته على المجتمع بعد أن يأخذ بناصية الحكم وأنّ ثقافة الحوار والثّقة المتبادلة والتّعاون منعدمة ولا نرى لها أثرا في واقع البلاد. وليس «التوافق» و«الحوار المغشـوش» إلا ذرّ الرماد على العيون. ذلك أنّ الأزمة عميقـــة وهو ما يستوجب تكثيف الجهـــود من طرف الإصلاحيّين الصّادقين من مثقّفين وسياسيّين وعلماء وخبراء للتّحرك في اتجاه تصحيح جملة من المفاهيم المدمّرة المتغلغة في النّفوس وإبراز المفاهيم الحضاريّة السّمحة التي أتى بها الإسلام والتي تقوم على قيم أهمّها قيمة الحريّة وقدسيّة حرمة الإنسان التي هي أصل من أصول هذا الدّين  وأهمّ مقاصده والدّفاع عن مبدأ التّعدّد وما يولد عنه من قبول للرّأي الآخر واحترام المعارضة بما هي تعبير من تعبيرات «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر». فالتّعدّدية  سنّة من سنن الله «ولو شاء ربّك لجعلكم أمّة واحدة» وهي أساس من أسس نجاح الإنسان في تحقيق استخلافـــه في الأرض وتعميره لهــا « وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا». كما أن جوهر الإسلام، المكّون الأساسي لهويتنا الضائعة، يقوم على تجذير قيم الخير والعدل والتآخي والتّسامح والتّحابب والتّفتح على الآخر والتّعاون معه وحبّ العمل وتقديس العلم ....وهي قيم إنسانيّة راقية توفر السّلام والسّلم للجميع وتحقق الرّفاه.
فهل سننجح في توفير حصانة لشعبنا ضدّ «التّدعيش» قبل فوات الأوان أم أننا «متدعّشون» لا محالة وقادمون بالتّالي على عصر «داعس» و«الغبراء».