فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
الخطف بين الضريبة والغنيمة
 لا يبدو أن أحداً من الفلسطينيين نادمٌ على خطف المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة، على الرغم من الحملة الأمنية الإسرائيلية الشرسة، التي طالت مئات الفلسطينيين، وداهمت آلاف البيوت، وأغلقت المدن والقرى، والتي تهدّد بالمزيد من الإجراءات القمعيّة القاسية، التي تستهدف الفلسطينيين في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة، ضمن اجراءاتٍ عقابيةٍ قاسية لا تستثنِ أحداً، والتي قد تطول زمناً، وقد تتسع أهدافاً، وتتجاوز السّبب الذي انطلقت من أجله، وبسببه بدأت.
ما زالت الذّاكرة الفلسطينية تحفظ وتذكر حالة السّعار ونوبة الجنون، وحالة الفوضى والاضطراب، والتخبّط الأعمى المريض، التي أصابت العدوّ الصهيوني إثر أسر المقاومة الفلسطينيّة الجندي الإسرائيلي جيلعاد شاليط، إذ فتح العدو الصهيوني فوهات النّار من الجوّ والبرّ والبحرّ على قطاع غزّة، الذي شنّ عليه حربين كبيرتين في محاولةٍ منه لاستعادة الجندي الأسير، قتل خلالها آلاف الفلسطينيين، واغتال المئات من الكوادر والقيادات العسكريّة للمقاومة، وخرّب خلال حروبه واعتداءاته القطاع، ودمّر بنيته التحتيّة، وحاصر أهله لسنواتٍ وأغلق معابره، وحرم المواطنين من حقوقهم في العمل والسّفر والعلاج والتّعليم، وما زال على سياسته نفسها ضد القطاع حتى اليوم، لم يغيّر ولم يبدل فيها شئ.
يدرك الفلسطينيون أن التّاريخ سيتكرر، وأن العدوّ الصّهيوني الذي لم ولن يتبدّل، ولن يغيّر من طبيعته التي  تقوم على العنف، وتعتمد القتل، وتنفذ سياساتٍ عنصريّة بغيضة، سيعيد تكرار سياسته العدوانيّة ضدّ الشعب الفلسطيني، وقد مضى فعلاً في اعتقال الوزراء والنّواب وقادة وكودار الفصائل الفلسطينيّة، كما أعاد اعتقال الأسرى المحرّرين ضمن صفقة وفاء الأحرار، وداهم البيوت والمؤسّسات والمساجد والجمعيات.
وما زالت كرة لهبه الحارقة وكرهه الحاقد تكبر وتزداد، وتتدحرج من الخليل إلى بقية المدن الفلسطينيّة، وهي تهدّد بأعمالٍ حربيّة جديدة في قطاع غزّة، وقد بدأتها بغاراتٍ عديدة طالت أكثر من هدفٍ فيه، وألحقت به وبسكّانه خسائر كثيرة، في رسائل دمويةٍ قد اعتاد الفلسطينيون على مثلها منه، إلا أنه لم يتعلم من تجاربه أنها لا تجدِ مع الفلسطينيين نفعاً، ولا تجبرهم على شئ، ولا تركعهم ذلاً، ولا تهينهم أسىً وحسرة، وأنها لم تتمكن رغم قسوتها وعنفها من كسر إرادته، ولا ثني عزيمته، ولا حرف مسيرته، ولا تعطيل مشروعه.
يتوقع الفلسطينيون الكثير من الإجراءات الإسرائيلية، وقد بدأوا بالاستعداد والتهيؤ لها، بجرأةٍ وشجاعة، وبصبرٍ غير عاجز، وبيقين غير شاك، بأنهم سيتجاوزون هذه الحملة، وسينجون من هذه المحنة، وسيخرجون منها أقوى مما كانوا عليه، إذ ما أضعفتهم الحروب، ولا أوهنت قواهم الاعتداءات، ولم تحطّ من قدراتهم العمليات العسكريّة الإسرائيلية المتوالية، كما لم ترهبهم الاعتقالات والاغتيالات، ومحاولات التجويع والحصار، والعزل والعقاب والحرمان، وهم الذين دفعوا آلاف الشهداء ضريبة أسر جنديٍ واحد، فما شكا من الفلسطينيين أحد، ولا نال من المقاومة آخر، ولا ضج مما أصابهم ولحق بهم.
رغم أن ما قد أصابهم كان كبيراً ومؤلماً، وموجعاً ومؤذياً، إلا أننا لم نسمع أن فلسطينياً قد اتهم المقاومة، أو حمّلها مسؤولية ما يجري، أو أنه أنَّبَها على فعلها، أو خطأها في عمليتها، أو دعاها لمراجعة حساباتها، والتفكير في خطواتها، والندم على بعض سياساتها، كما لم يصف أحدٌ ما قامت به المقاومة أنها مغامرة، أو عملٌ غير مسؤول، وأنها أضرت بالشعب، وعرضت مصالحه للخطر، واستجرت غضب العدو، وهيجت غرائزه العدوانية، وحرضت قواه العنصرية المتطرفة، وأخرجت أفاعيه وعقاربه من جحورها، وجددت السم الساكن في أحشائها، ليقتل المزيد، ويؤذي أكثر.
بل فرح الفلسطينيون قديماً رغم فداحة الغرم الذي تكبدوه، وعظم الضريبة التي دفعوها، وجسامة الفاتورة التي أدوها،  عندما حافظوا على الجندي الإسرائيلي أسيراً عندهم لسنواتٍ ولم يفرّطوا به، ولم يتخلّوا عنه، ولم يمكّنوا العدوّ الإسرائيلي وأعوانه من الوصول إليه، رغم آلتهم العسكرية المدمرة، وتقنياتهم العلميّة الهائلة، ووسائل التّجسس والرّقابة المهولة، والتعاون الدّولي منقطع النّظير، إلاّ أنّهم فشلوا في استعادته إلاّ مرغمين، وحرّروه لكن مكرهين، بعد التوقيع على صفقة تبادلٍ للأسرى، مكنت الشعب الفلسطيني من استعادة بعض أبنائه الأسرى، ممن ظن العدو أنهم أبداً لن يخرجوا من سجونه ومعتقلاته إلا جثتاً هامدة، وأجساداً صامتة، تدفن وتوارى في الثرى، فلا يراهم أهلهم، ولا يسعد بهم أولادهم وشعبهم.
لا تظنوا أن الفلسطينيين خائفين من العقاب، أو قلقين من ردة الفعل الإسرائيلية، فهم قد اعتادوا على الصلف الإسرائيلي، وتعايشوا مع ظلمه واعتدائه، إذ هو ماضٍ في سياسته دون سببٍ أو مبرر، وقد لا يحتاج إلى تبرير أو تفسير أسباب حملاته الأمنية المتكررة على شعبنا وأرضه، وهي حملاتٌ لم تتوقف ولم تنتهِ، فهي تمثل جزءاً رئيساً من سياسته، وتعبر عن طبيعته، وتترجم حقيقته، وما يقوم به من أعمال قتلٍ وقصفٍ واجتياحٍ واعتقالٍ، إنما يأتي ضمن الأنشطة الاعتيادية للجيش الإسرائيلي، فهي بالنسبة له أنشطة طبيعية، وعملياتٌ متوقعة، يجب أن يقوم بها جنوده ليحافظوا على حالة الاستنفار، وأجواء الحرب والقتال القائمة.
لهذا فإن الفلسطينيين راضين عمّا فعلوا، وفخورين بما قامت به مقاومتهم، وغير نادمين على فعلتهم، ولا يوافقون من ينتقدهم، ولا يرحّبون بمن يحمّلهم المسؤولية، ولا يعنيهم أبداً من يخوفهم أو يقلقهم على مصيرٍ هم فيه كانوا، وفي ظلّه عاشوا، بل إنهم يتطلعون نحو المزيد، ويأملون بما هو أكثر، فهذه مسيرة تحرّر، وثورة شعب، وانتفاضة حقّ، يلزمها التّضحية والفداء، ويعوزها العمل والمقاومة والجهاد، فهنيئاً لمن ضحّى وقدّم، ومرحى بمن صبر على الألم، وعض على الجرح، وعزم على مواصلة الدّرب، ومضى قدماً على ذات الطّريق، بأملٍ ويقين، وثقةٍ وإيمانٍ وعزمٍ من حديد.... 
-----------
-  كاتب فلسطيني
moustafa.leddawi@gmail.com