دمتم سالمين

بقلم
عبدالنّبي العوني
الحفلة والمندس
 بإحتفاليّة التّنصيب بقصر القبّة(1) التي ترافقت  بالرّقص على أنغام الخداع والخديعة والإخراج التلفزيونيّ لخالد يوسف وعلى أوتار مقدّرات الشّعب المصريّ، لابدّ أن يأتي «مندس» (2) كالذي أظهرته قناة الجزيرة ليبرز لنا ملامح مستترة من تراجيديا دمويّة يتقنها خصيان، تهيج البهيميّة فيهم أكثر كلّما تشمَّموا رائحة الدّم المسفوك «أضلّ من الأنعام». وبتركيب اللوحتين ( لوحة الانكشاري والمندس) تظهر لنا وبشكل جليّ المتقابلات الحسيّة التّالية:
(*) إذا تقابل التهديم الممنهج والمُخَطَّط له والمُكثّف من الدوائر التي تعلم مسبَّقا ما تصبو  و ترنو  إليه إضافة لتحوّزها على معرفة بخبايا الدّولة وثنايا المجتمع وتقاطعات اشتباكاته وحساسيّاته مع سذاجة فطريّة لدى القوى التي تتقمّص أزياء الثّورة والنقاء الثّوري مع امتياز لها في خصوبتها التناسليّة إذ تتكاثر بشكل عشوائي، بالخصوص إذ اشتمّت هذه القوى روائح غنائم وانتصارات جزئيّة مع ارتكان أغلب أفئدتها  إلى تصوّرات لنصر سينتقل من مرحلة الوعد إلى طور التّحقّق نتيجة الدعاء وهم قعود، «لـ......» و« على.....»، مع طفرة في الأمنيات والأماني، بأن تقاتل الملائكة وجنود الرّحمان سلطان الغلبة والفتن، ففترة القيام والأسحار وغياب الشفق....إذا تقابلا معا في ساحة ضيّقة وواحدة تكون النّتيجة الآنيّة كما نشاهدها ونحياها في عالم الشهادة والشهود.
(*) عندما تقوم الخديعة والمكر والدّهاء على الوقائع وعلى الصّناعة والتفنّن والإخراج والاستمرارية ممّا يكسبها مع الأيّام هيكلا  كيريتينيًّا من الحقائق الملفّقة والنّافذة... وفي مقابلتها تتّكئ الحقائق البديهيّة على طغيان من المشاعر الحالمة والوديّة والأمنيات العميقة بأن تمطر السّماء عدلا وسياسة وكياسة تظهر صبحا على ملامح المؤسّسات والمعسكرات والمخابرات قسمة سواسية بينهم كأسنان المشط، مع انتظار مجد من مدد من عالم الغيب تعويضا لهم عن حقول الطّاقة من الآلام المجمّعة طيلة العقود السّابقة، تهيئ الأرض لهم كسجّادة حمراء تحملهم على أنغام حفيف ضفائرها  إلى المراكز المخفيّة في دوائر الدّولة من قصور الرّئاسة إلى عرين المخابرات والأمن إلى خزينة كبرى المؤسسات والشركات، تكون عندما يُسدَل الستار عن الحفلة العسكريتاريّة التي في فضائها تمّ الاحتفاء بالمملوك الانكشاري الجديد كوصيّ وحيد على عرش الهزائم والانكسارات والخسائر في نظر العبيد المطحونين وأباطرة تفسير الأحلام، انتصارات والتحامات وغنائم...ويكون الوجع النّاتج عن الفوارق بين الواقع والخيال مؤلما ومكثّفا وشديد الوطء.
(*) عندما تنزاح ملامح شقائق التّغييرات الثّوريّة وتغيب وراء كثابين التّدجيل والتعبئة والفوضى والفوبيا وتختلط المصالح المرسلة المؤسّسة للعدالة بين أفراد المجتمع مع فضلات إسطبلات التّنجيم والعجز مع حالات إكساء غير واعية لكلّ الشّخوص التي تتلاءم في مظهرها مع المعتقد السّائد حول المهدي والمخلص المنتشرة في الأزقّة والشوارع والساحات والحواري...ويكون في مقابلها مراكز تدير بوعي الأزمات والاختناقات والفيضانات والهيجانات، حتى تكون خراجاتها في مستودع الدّولة الأخطبوطيّة العميقة...عندما يكون الحال كما وصف ونشهد، تكون النتيجة منطقية ويتحصل المستضعفون مرّة أخرى على مصبٍّ آخر تتراكم وتتكثّف فيه الآلام والأوجاع والخيبات على أنغام انتصارات وهميّة كانتصارات لغويّة لخالد سعيد على أمواج صوت العرب. 
(*) عندما لا يستطيع العاقل في أرض جنوب المتوسط، إعداد فضائه وأرضه وثراه وسدوده وموائده وكاسحاته لاستقبال فصول التساقطات والرياح والغيوم، فليس له على الله حُجَّةٌ إن لم يجن من زرعه وجنّته التي عن يمينه أو عن يساره أو من وسطه إلاّ الأشواك والحرمل والدفلة والحنظل (في كل الحالات ليست حنظلة غسان كنفاني) .
(*) عندما يتفنّن اللاّعب السّياسي الهاوي بالرّغم من تكوينه المتتالي، في إضاعة الفرص التي أهداها له جمهوره، فليس له حجّة لتبرير إخفاقاته بالاستناد على فتاوي الأعشاب والحيض والنفاس والتقصير والإرسال والجماع والتداوي برمال صحراء نجد والحجاز وتجميع الأحجار الكريمة من أرض الشّام والعراق وانتظار إهلال هلال مصر25.
(*) عندما تغيب وتضمحلّ العقلنة ويضمر الاحتكام في بناء المعرفة على التجربة والملاحظة والتدقيق والمباشرة، ويستعاض عن الذي هو أعلى من العمل والمكابدة والمنهجية والتدبّر والسير في المسالك الوعرة بعلم ودراية ونظر بالذي هو أدنى من التواكل والدعة والاستئمان الأحلام والركون إلى المسالك الرخوة والمصبّات القريبة بيقين وتشبّع وشبع وانتشاء وشبق...يكون الزاد المحصّل في الآن واللّحظة كما نرى ونشهد.
(*) عندما نرى الأنساق تهفوا لمربّعاتها القديمة، والأجسام تحنّ لأشكالها القديمة، والأفكار تطرأ دون أن تطرح حلولا لمشكلات المجتمع العويصة، وبعض الحلول تغرف من عالم الجنّ والتلبيس والتسكين، وفكر العمّال والبلوريتاريا يضع كل انتاجاته الثوريّة بجراب عسكريٍّ عاري السوءة ومثخن بأثقال الإقطاعية ومحطّات العبور ومحطّات التكرير  ومحطّات الإذاعة والتلفزيون ومحطّات الإرسال والبثّ الهرتزي...الخ ...يكون الحصاد من جنس العمل ويكون النّداء من خصر الجبهة ويكون السّائس من فصيلة السّيسي أو السّبسي أوحفتر...ويكون النّاصري صديقا حميما وعشيقا لتسيبي ليفني...
(*) عندما نكون نحن...ولم نسطع بدًّا لتغيير ما بأنفسنا، لأنّنا ما استطعنا حقًّا تغيير دواخلنا ومداخلنا ومخارجنا وما ندخله وما نخرجه وما ننتجه...ولم ننجح إلى الآن في تغيير قطع غيار أجهزتنا العصبية والهضمية والدورانيّة والنفسيّة والتناسلية... المقلَّدة ...الخ ..يكون المنتج والمتحصل عليه يشبهنا حدّ التطابق الكلِّي كتوأم سيامي لنا...ويكون الواقع صورة فوتوغرافية حقيقية لعناصرنا المتنافرة... ويكون هو نحن، ونحن هو... وفق تبادل عكسي للأدوار على ركح مسرح «اليسار الواقعي».  
(*) وفي الأخير عندما يكون الإنسان  في شرقه المتوسطي، شاهدا وشهيدا وكامل اليقظة، عند « قيامه بالعمل في فضائه المجتمعي الحيوي ولو عبر الوسائط، تكون المردوديّة   أكمل في البنيان ويكون التّأثير أمضى وأَحَدُّ وتكون الحركة متوازنة وأقوى ويكون الشّعور بالتّفاصيل أتمّ وأعمّ. وبعدها يُنْتَظَر التغيير، وهذا أفضل في كل الحالات من الغيبة في الفضاء أو عنه، لأن أداء العمل في حال غيبة الإنسان عنه وعن العلاقات المتداخلة بين عناصره وعن نفسه  هي بمنزلة أداء السكران أو النائم»(3) أو التّائه أو الدرويش .
ودمتم سالمين من التهجين.....
الهوامش
(1) وهي حفلة تنصيب السيسي دكتاتورا بأرض مصر.
(2) الفيلم الوثائقي التي بثته قناة الجزيرة عن الناشط المصري مهند جلال.
(3) منقول بتصرف من مدارج السالكين لابن القيّم الجوزية.
-------
- سجين سياسي سابق
ouni_a@yahoo.fr